رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

غرفة

دوريس ليسنج
ترجمة: عبد السلام إبراهيم

عندما دخلت تلك الشقة التى تتكون من أربع غرف كالصناديق، كانت غرفة النوم مطلية بلون وردى شاحب، ماعدا جدار الموقد الذى كان يزينه ورق حائط وردى ساحر، ممزوج باللون الأزرق. كان لون الأعمال الخشبية أرجوانياً غامقاً، يميل إلى اللون الأسود. هذا الطلاء يبيعه متجر ديكور كبير فى أقصى الغرب اسمه بيلبيرى.

قطنت الغرفة قبلى فتاتان. من الواضح أنهما كانتا تدفعان إيجاراً زهيداً لأن الأثاث كان مليئاً بالثقوب، والجدران مزينة بملصقات سياحية. أخبرتنى المرأة الموجودة فى الطابق العلوى أنهما كانتا تقيمان حفلات تستمر طوال الليل. «لكننى كنت أحب سماعهما، فأنا أستمتع بصوت الحياة.» هكذا كانت تلقى باللوم عليّ لأننى لم أقم حفلات حتى من أجلها. طبقا لتقاليد تلك الشقة غادرت الفتاتان دون أن يعرف أحد عنواناً لهما.

طوال تلك السنوات كان الجرس يدق، فكان بعض الناس يسألون عن «أنجوس فيرجسون- فعرفت أنه كان يعيش هنا؟» وعن عائلة ماتلاند؟ وعن السيدة داونلاند؟ وعن الشابيَّن كاتسباى؟ كل هؤلاء الناس، وربما الكثيرون الآخرون قد عاشوا فى تلك الشقة وغادروا دون أن يتركوا عنواناً. لم أعرف شيئاً عنهم أو حتى أى شخص آخر فى المبنى، على الرغم من أن بعضهم يعيشون هنا منذ سنوات.

وجدت أن اللون الوردى ثابت، وبعد عدة أخطاء استقر على الجدران البيضاء مخلفاً لوناً أرجوانياً غامقاً، أو لون العنب البرى أو لون الخشب. فى البداية كان لدى ستائر رمادية ثم استبدلتها بستائر زرقاء. كان فراشى تحت النافذة. يوجد مكتب لأمارس عليه الكتابة لكن الورق مبعثر عليه دائما. لذا كنت أكتب فى غرفة الجلوس، أو على منضدة المطبخ. لكننى كنت أقضى الكثير من الوقت فى غرفة النوم. فالسرير هو أفضل الأماكن للقراءة، والتفكير، أو للبقاء فيه دون عمل شيء. إنها غرفتى، المكان الذى أعيش فيه، على الرغم من أن الشكل مريع وبها أشياء لا يمكن أن توصف بشىء إلا أنها قذرة. مثلا، كان الموقد حديدياً- منتفخاً ومطلياً باللون الأسود. تركته الفتاتان كما كان، كُن يستخدمن سخاناً يعمل بالجاز من خلال فوهته. قُبحه المكدس جعلنى أطيل النظر إليه فقمتُ بطلاء القائم من السقف حتى الأسفل باللون الأرجوانى. الموقد والرف السميك الذى يغطيه يمكن أن يستوعبا ذلك اللون. لم أستطع أن أطلى الجدار كله باللون الأرجوانى حيث يبدو بالليل أسود، ترك قائمان من ورق الحائط السخيف، مرسوم عليه أشكال بشرية لامعة مثل طيور لونها وردى فى أقفاص زرقاء. كان الموقد يبدو أقل وضوحا لكن كان يشتعل بالجاز، شكله صلب مربع كالبرونز، أتيتُ به من شقة قديمة، لم يبد سيئاً جداً لكنه لم يكن مناسباً هنا على الإطلاق. الجدار كله لم يكن مفيدا.

جدار آخر، الجدار الموجود بجوار فراشى مشوه أيضا. فوق فراشى يوجد نتوء أو نتوءان بارزان بشكل غير طبيعى. شخص ما- أنجوس فيرجسون؟ عائلة ماتلاند؟ عائلة داونلاند؟- حاولوا أن يعيدوا اللاصق الساقط ويثبتوه. لم يستطع محترفو اللاصق فى إخفاء هذا النتوء.

عموما، ذلك الجدار يمنحنى متعة ما. إنه يذكرنى بجدران مطلية بلون أبيض غير طبيعى فى منزل آخر أقمت فيه ذات مرة. من المحتمل أننى اخترتُ أن أقوم بطلاء تلك الغرفة باللون الأبيض لأننى أردتُ أن يكون لدى جدران بيضاء مثل ذلك المنزل الذى عشت فيه والذى يتكرر شكله هنا فى لندن؟

السقف عريض أبيض عادى، به حدود لاصقة سميكة جداً على الغرفة، وتبدو كما لو أنها ستسقط بسهولة. يتمتع المبنى كله بمنظر قبيح لكنه بُنى بتكاليف رخيصة ولم يُبع على الإطلاق. مثلا، الجدران مثقوبة، تبدو جوفاء، وعندما يُكشف اللاصق تبدو الجدران كما لو أنها عبارة عن رمل متشابك بورق الحائط. بإمكانى أن أسمع أى شخص يمشى فى الدور العلوى حيث المرأة العجوز التى تحب أن تسمع نبض حياة، تعيش مع زوجها. إنها امرأة سويدية الأصل، تعطى دروساً فى اللغة السويدية، أنيقة الملبس. تبدو عجوزاً محترمة عزيزة. لكن أصابها مس من الجنون. بابها به أربعة أقفال ثقيلة من الداخل وكذلك مزاليج وقضبان، عندما أطرق بابها، تفتحه بعد سلسلة من فتح الأقفال الأربعة، وتحدق من خلالها، لتتأكد من أننى أو أنهم لن يهاجموها. بالداخل تجد منظراً أنيقاً ومرتباً. تمضى اليوم كله فى التنظيف والترتيب. عندما لا تجد شيئاً إضافياً تفعله فى شقتها، تضع ملحوظات على السلالم تقول فيها «أى شخص سيسقط قمامة على السلالم فسيُبلغ عنه السلطات!» ثم تقوم بزيارة كل شقة بالترتيب (توجد ثمانية شقق متشابهة مبنية بشكل رأسى.) وتقول بثقة: «بالطبع لست أنتِ المقصودة بالملحوظة».

يعمل زوجها فى شركة للتصدير، لذا يسافر كثيراً. عندما تتوقع عودته ترتدى أفضل ما لديها، كأنها عروس تذهب لمقابلته وهى حمراء الوجنتيَّن. فى الليالى عندما يعود من رحلاته يحدث السرير صريراً فوق رأسى، عندئذ أسمعهما وهما يقهقهان. إنهما زوجان مسنان منظمان، يخلدان إلى فراشهما فى الساعة الحادية عشرة ويستيقظان كل صباح فى التاسعة. أما بالنسبة لى، فحياتى غير مرتبطة بالخارج، فأحب أن يظلا موجوديَّن فى شقتهما. أحيانا عندما أعمل حتى وقت متأخر أسمعهما أثناء استيقاظهما وتساورنى الظنون خلال نومى، أو عندما أكون ما بين النوم وبين الاستيقاظ: حسنا، اليوم قد بدأ، أيُعقل هذا؟ وأعود إلى حالة فقدان الوعى الممزوجة بخطوات قدميهما، وقعقعة فنجانيّ الشاى.

أحيانا عندما أنام فى فترة الظهيرة، التى اعتدت عليها، لأن نوم فترة الظهيرة أكثر إمتاعاً من نوم الليل، تغفو هى أحيانا. أحياناً أفكر فيها وفى نفسى ونحن ممددتان بشكل أفقى، الواحدة فوق الأخرى، كما لو كنا نائمتيَّن فوق رفيَّن رأسييَّن. عندما أتمدد بعد الغذاء فأكون عندئذ قد خططت لذلك. أولا: لابد أن أشعر بقلق داخلى، أو حذرة من شىء ما، بسبب زيادة النشاط، أو بسبب شعور بوعكة صحية، أو بسبب الإنهاك. ثم أقوم بإظلام الغرفة، أقوم بغلق كل الأبواب، لذا لن يوقظنى رنين الهاتف (على الرغم من أن رنينه البعيد يمكن أن يكون كأنه حلم ترحيب قديم). فأهرع إلى الفراش بحذر، محافظة على هدوئى. إن فترات النوم تلك هى التى تساعدنى على العمل، فتوحى إلى بماذا أكتب، أو إلى أى مدى أخطأت. كما أنها تنقذنى من حمى القلق التى تنتابنى بسبب رؤية الكثير من الناس. انجرفت إلى النوم فى الظهيرة باهتمام راجع إلى رحلة طويلة إلى المجهول، والنوم القصير وغير العادى يأخذنى إلى مناطق يصعب وصفها فى حالة الاستيقاظ.

لكن ذات مرة بعد الظهيرة لم تكن هناك رحلة غريبة، ولم تكن هناك معلومات مفيدة تخص عملى، كان النوم مختلفاً جداً عن مرات النوم العادية لدرجة أننى ظننت لبرهة أننى مستيقظة.

كنت مستلقية فى شبه ظلام، الستائر ذات الظلال الزرقاء الغامقة المتغيرة تعكس ظلاً أرجوانياً متحركاً. كانت خارجها ظهيرة مزدحمة. كنت أسمع أصواتاً وصخباً غاضباً من داخل السوق، كان على ما يبدو شجاراً، صوت رجل وصوت امرأة. كنت أنظر إلى مكان الموقد، كم هو قبيح، فاندهشت بسبب الشخص الذى اختار طواعية ذلك الشكل من الحديد الأسود القبيح. على الرغم من أننى قمت بطلائه. نعم، سواء احتملته أم لا، فلابد أن أتخلص من تلك النار البرونزية المريعة، وأجد لها بديلاً أكثر جمالاً. أظن أن الشكل البرونزى قد بات قديماً، كان هناك موقد حديدى أسود صغير تخرج من أحشائه نار. خيوط الدخان تقتحم الغرفة وعيناى تلتهبان.

كانت الغرفة مختلفة، شعرت برجفة تنتابنى، فيبدو أننى انفصلت عن ذاتى. كان يغطى الجدران ورق، تأثيره العام بنى قذر، لكن عندما أمعنت النظر إليه رأيت نموذجاً صغيراً من الأوراق الصفراء التى تميل إلى اللون البنى وجذوع بنية أيضا، بها أثار ملوثة. كان السقف مشعاً ويميل إلى الأصفرار بسبب الدخان. كانت هناك قصاصات بنية من الستائر فوق النوافذ، إحداها بها تمزق طفيف، لذا كان طرفهاً السفلى متدلياً.

لم أعد أتمدد على الفراش، لكننى كنت جالسة عند النار فى الغرفة أنظر إلى الفراش تارة وإلى النافذة تارة أخرى. بالخارج احتدم شجار، علت الأصوات من الشارع. شعرت ببرودة تسرى فى جسدى حتى ارتجفت، وبللت الدموع عينيّ. فى الموقد الصغير جثمت ثلاث جمرات صغيرة ملتهبة، تشتعل بشكل كئيب. كنت أضع تحتى وسادة قطنية ملتصق قطنها ببعضه، أو شىء من هذا القبيل. بدت الغرفة أكبر. نعم، غرفة واسعة. كان هناك صندوق خشبى بنى ملطخ منصوب فوق فراشى. بطانية حمراء خاصة بالجيش مفروشة عند نهاية السرير. توجد كوات على جانبيّ الموقد، لها أرفف خشبية، عليها ملابس مطوية، مجلات قديمة، آنية فخارية، إبريق شاى بنى. تلك الأشياء عكست جو فقرٍ مدقعٍ. كنت وحيدة فى الغرفة على الرغم من وجود شخص ما فى الغرفة المجاورة. كنت أسمع أصواتاً جعلتنى أشعر بتعاسة وتردد. صدرت ضحكة من الأدوار العليا فبدت لى عدائية. هل كانت العجوز السويدية تضحك؟ مع من تضحك؟ هل عاد زوجها على حين غرة؟

حاصرتنى الوحدة التى لن تهدأ شواطئها، لا أحد يأتى ليواسينى. جلست ونظرت إلى الفراش الموضوعة عليه بطانية حمراء رخيصة توحى بالمرض، فاستنشقت لأن الدخان كان يمزق مؤخرة حنجرتى. كنت طفلة، أعرف ذلك. وكانت هناك حرب، شيء ما يرتبط بالحرب، حرب ترتبط بالحلم أو بالذاكرة - ذاكرة من؟ رجعت إلى غرفتى الخاصة، تمددت على فراشى، والصمت يجثم على السلالم والغرفة المجاورة. كنت وحيدة فى الشقة، أشاهد ستائرى الزرقاء الداكنة الناعمة تتحرك. سرى البؤس فى أوصالى. تركت فراشى الوثير وأعددت لنفسى شايا، ثم عدت لأطوى الستائر ليدخل الضوء. أشعلت سخان الجاز الذى زاد سخونة واحمرارا فأذاب ذاكرة البرد، نظرت خلف كفاءته البرونزية، ثم إلى الموقد الذى لم يعد بداخله فحم، أدرك ذلك منذ سنوات.

حاولت أن أتخيل نفسى داخل الغرفة الأخرى التى تقع تحت هذه الغرفة أو بجوارها، أو بداخلها، أو أنها موجودة بداخل ذاكرة شخص ما، أى حرب كانت تلك؟ لمن كان الفقر هذا البارد؟ كنت أريد أن أعرف المزيد عن ذلك الطفل المزعور. سواء كان طفلاً أم (طفلة ) فلابد أن يكون صغيراً جداً حتى تبدو تلك الغرفة بهذا الحجم الكبير. لذا فشلتُ. ربما كان الشجار الدائر بالخارج فى الشارع هو... هو ماذا؟ ولماذا؟

 

دوريس ليسنج

دوريس ليسنج روائية إنجليزية (1919 ــ 2013) ولدت فى إيران لأبويَّن إنجليزييَّن، حصلت على جائزة نوبل للأدب عام 2007.

وهى أكبر ممن حصل عليها.

وقد جاءت حيثيات الأكاديمية السويدية لمنحها الجائزة: أن أعمالها ملحمة لتجربة المرأة التى سبرت أغوار حضارة متنازعة ومتشككة، والنار المتقدة فى داخلها، وقوة الرؤية لديها.

تميز إنتاجها الأدبى بغزارته، حيث إن أعمالها الروائية تؤرخ للقضايا التى عاشتها، وبها نبض المجتمع الذى يحيط بها.

من أعمالها البارزة خمس روايات قصيرة (1953)، خمس قصص قصيرة (1953)، «سلسلة عنف الأطفال» (1952-1969)، الزواج الصحيح (1954)، المفكرة الذهبية (1962)، امرأة على السطح (1963)، مذكرات ناجية من الموت (1974)، «الإرهابية الطيبة» (1985)، زيمبابوى (1992) الضحكة الأفريقية (1993)، الجواسيس الذين عرفتهم (1995) السير فى الظلال (1997).

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق