ما إن نطقت بالاسم، أعرفه بنفسى، حتى أتانى صوته، يغمرنى بالمحبة و الحميمية،.. كأن ما يقرب من نصف قرن من الزمان لم ينقض، أناديه « عم احمد»، ليس لفاصل زمنى طويل بين عمرينا، و لكن لانى منذ التقيته و باقى المجموعة،قبل ما يقرب من خمسة واربعين عاما، و بعد ما ربطنى بهم، شخصيا، صارت المجموعة كلها، مجموعة منظمة سينا العربية، «اعمامى»، و أولهم عم «احمد».. الفدائى: احمد العطيفى.. كان ذلك عند فتح طريق السويس، لأول مرة أمام الصحفيين، بعد صمود مائة يوم و واحد..قطعت الكيلومترات الفاصلة ما بين القاهرة و السويس فى بكور شتوى و انا احاول استحضار الوجوه، بخيالى حتى قبل الوصول.وجوه ابناء منظمة سينا العربية. الذين تنامى لنا انهم، كانوا وراء انقاذ السويس.. من هم.. و من اين اتوا، وماذا فعلوا و كيف كانت « طلعاتهم» خلف خطوط العدو قبل قرار الحرب، و... و... رحت ارسم صورة تلو اخرى، لهؤلاء الرجال الذين بدوا لى، ولجيلى كأنهم قادمون من عمق «اسطورة».
كان ذلك فى مستهل مشوارى المهنى..كيف سأكتب «الحكاية»، وافك خيوطا، واروى التفاصيل للسويس، المدينة «الرمز»، عبر وجوه كان التعرف اليها يبدولى حلما انسانيا، قبل ان يكون مهنيا.لم يجل بخاطرى ولا تصورت لحظة حينها، وبخفة قلب اعوامى العشرين التى كانت هى كل عمرى، انى بالفعل سوف اصل اليهم،و اكون وسطهم، متدثرة بدفء نادر، و ايضا اشرب الشاى، ثم اعود خالية الوفاض بدون «الحكاية».. كان قرارهم لا رجعة فيه.. «اهلا بك و مرحبا ولكن دونما كلام للصحافة!».. رحت امارس كل محاولات «التحنين» الممكنة، بدءا من قطع، الوعود وكل الضمانات بالحفاظ و بمنتهى الامانة على ما سوف اسمعه منهم، الى ما يشبه الاستعطاف، وما يمكن ان يمثله، العودة خالية الوفاض، بالنسبة لصحفية شابة فى المقتبل، و لم يفتن الدفع بالعوامل الانسانية: كيف اقطع الطريق من القاهرة للسويس و بالعكس، دونما حكاية؟ كانوا قد اتخذوا قرارا، حاسما وقاطعا: الا يتواصلوا مع اى من «الصحفيين»، إلا عبر تفويض او تعضيد او موافقة، او تزكية صريحة، من الكاتب او الصحفى الوحيد الذى عاش بينهم و وثقوا به واعتبروه واحدا منهم، «فهو» الامين على «الحكاية».. لم اكن اعرف صاحب الاسم الذى اوصونى بالعودة اليه.. ولا حتى انتبهت الى توقيعه طوال ايام الحرب، ولم استطع ان «اهضم» هذا القرار الذى صمم عليه افراد مجموعة سيناء العربية واولهم عم احمد العطيفى، وعم قناوى وعم محمود طه.. قرار بدا لى وقتها، كحائط صد منيع، يحول دون مستقبلى فى الصحافة! دونما اى مبالغة، عدت من السويس الى القاهرة، بثقل «احباط»، ونوع من الخجل الحائر: كيف انقل فشلى، المهنى، الى رئيس التحرير و الاهم منه ان اتوصل الى «هذا الزميل» الذى اولوه كل هذه الثقة و الذى حفرت اسمه فى راسى منذ طلب منى عم احمد العطيفى ان آتى اليهم منه بما يزكينى، و كان اسمه: «جمال الغيطانى»! وهكذا صارت لى وشائجى الخاصة، بمنظمة سينا العربية، حين اعتبروا، وكذلك انا، انهم اهدونى «حياة»، جعلت منهم اعمامى فعلا.. حين هاتفت عم احمد العطيفى، امد الله فى عمره، او الفدائى احمد العطيفى قبل ايام، عشان «أعيد عليه»، قال لى ان عم قناوى و عم محمود طه، سوف يحضران من السويس، الى بيته فى حدائق القبة، الذى ظل مفتوحا،و عامرا، وكأنه امتدادا «للسويس».. ولم اكدب الخبر..

لا احاول هنا استرجاع تاريخ، بقدر ما احاول الحفاظ على معنى، احياء قيمة، قد تتوارى تحت وطأة مجريات لا تتوقف، منها ما يهدد الذاكرة، ومنها ما يخرج من رحمه، ما يبدو مناقضا للقيمة والمعنى.
منظمة سينا العربية، و بتبسيط ارجو الا يكون مخلا، منظمة تكونت من ابناء منطقة القناة، و فى مقدمتهم ابناء السويس، وكانت فى فترة تاريخية شديدة الحساسية، عقب حرب 67.. الفكرة ولدت فيما يشبه التوقيت الواحد، من الرائد صاعقة (الذى صار فيما بعد لواء) احمد رجائى عطية، و الشاب السويسى عبد المنعم خالد. هذه المنظمة كانت بمثابة، «عيون مصر»، و «راداراتها البشرية»، و«اذرعتها» فى الضفة الشرقية لقناة السويس. قرار المخابرات الحربية بتشكيل «مجموعة فدائية»، تعمل خلف خطوط العدو، و انتقاء الرجال، و الكيفية التى تم بها اعدادهم، و العمليات التى قاموا بها، (ورغم كل ما كتب عنها)، تظل «كنزا مصريا» مدفونا ما لم يتحول، مع غيره، الى جزء اساسى من بناء الذاكرة المصرية، ولا يقتصر الامر، فيه على موسمية الاستحضار. الشهداء مصطفى ابوهاشم، سعيد البشتلى، احمد ابو هاشم، ابراهيم سليمان، اشرف عبد الدايم، و القائمة اطول بكثير، محمد سرحان، فتحى عوض الله،و عم احمد العطيفى، وعم قناوى، عم محمود طه، امد الله فى اعمارهم، اعطوا ما اعطوا، دونما انتظار جزاء ولا شكور.. لم تسقط ثمار اكتوبر فى «حجرهم»، بل راحت الى جيوب انفتاحيين وسماسرة.. اسهموا بالدم والارواح وانسحبوا بمنتهى نكران الذات، و راح من بقى منهم على قيد الحياة، يتكسب عيشه بسعى فظ وقاس، بقيادة ميكروباس، او عمل فى المعمار، او وظيفة كان يشغلها، لم يرق فيها اثناء قتاله خلف خطوط العدو، واقتصر الامر على شهادتى استثمار، كل واحدة بعشرة جنيهات، مرة من واحد من محافظى السويس، سنة 82 و مرة من السيدة جيهان السادات، سنة 74 واستثناء وحيد، شهادة بمائة وخمسين جنيها عام 93. التكريم الرسمى الوحيد جاء العام الماضى بعد اثنين واربعين عاما، لما التقى الرئيس السيسى،بعم قناوى، المصور الفوتوغرافى الذى ظل لثلاثة اشهر خلف خطوط العدو.
حين طرقت باب بيت عم احمد عطيفى المولود فى حى الاربعين، عام 1941، فى حدائق القبة، كان عم قناوى يواجه كاميرات تليفزيون مصر، فى محاولة للامساك بتلابيب الذاكرة.. زحف الزمن بقوة تاركا علاماته على فدائى ظل يكتسب عيشه بقيادة الميكروباس حتى شهور مضت.. جلست على المقعد و هو يروى عن اول عملية مكتملة للعبور الى الضفة الشرقية قبل تسعة واربعين عاما، فى 5 نوفمبر 1965، كيف عبر اثنا عشر فدائيا من شمال السويس، واشتبكوا واسروا فرد دورية.. عبروا بقوارب الزودياك المطاطية، اربع ساعات رايح واربع ساعات عودة.. قناوى المصور المتجول، واحد من اصحاب الاساطير، مثله مثل عم محمود طه الذى كان فى زاوية على مقربه، بقده النحيل الذى لا يمكن معه ان تتخيل ما قام به.
تقول الشهادة الموثقة ان العدو لما استهدف السويس فى ليلة 24 اكتوبر 73، عقب ثغرة الدفرسوار، و بعد صد هجومه على الاسماعيلية بفدائية ابراهيم الرفاعى الذى استشهد فى 19 اكتوبر، لم يكن يبحث عن اسقاط مدينة، بقدر ما كان يسعى لكسر «رمز»، و ان ما قامت به قواته من اعمال بربرية ضد فلاحى السويس و مدنييها، الحقها بقصف طيرانى ومدفعى منذ صباح الرابع والعشرين، وان القصف تركز فى حى الاربعين، و قد لوحظ تركز القصف على جانبى الطريق المؤدى الى المدينة من مدخلها الذى يقع عند بداية المثلث.
اول كمين واجهته القوات الغازية، كان عند المنطقة المواجهة لسينما رويال، وكان يضم ابراهيم سليمان والمقاتل احمد العطيفى والمقاتل سرحان والمقاتل ابراهيم يوسف، وعند كبرى البراجيا كان كمين احمد ابوهاشم. اول دبابة اسرائيلية تم تدميرها كانت بطلقة من مدفع الشهيد ابراهيم سليمان الذى استشهد فى الرابعة وخمس واربعين دقيقة على سور قسم الاربعين، الذى لم يكن قد تجاوز الثلاثين وكان يرعى اما وشقيقة وثلاثة اشقاء. يحمل هؤلاء الرجال «كود» اخلاقيا، وطدته رابطة القتال، بموجبه يسود مبدأ الايثار.. اسماء الشهداء فى المقدمة عند الرواية. هاجم العدو السويس عبر موجات، دبابة وعربتين بأقصى سرعة، وفى السماء تعربد الطائرات، والصمت محيط الا من هدير الطائرات، يوحى وكأنها ماتت. تقدمت موجة العدو الاولى حاملة «دمى».. عرائس فى هيئة جنود.. واجهتها طلقات قاذف صاروخى.. الموجة الثانية للهجوم تكونت من طابور مدرع، 3 دبابات (سنتوريان) و 12 عربة مجنزرة و عربات نقل ذخيرة، كان الفدائى ابراهيم سليمان، بنظارته الطبية، رابضا خلف شجرة.. كيف اصاب تلك الدبابة من مسافة قصيرة، مفروض ان تبدومعها الاصابة عصية.. عصية. ظل السؤال موضع بحث حتى بعد انتهاء الحرب طلقة ابراهيم سليمان التى فصلت راس قائد الدبابة عن جسده و اشعلت النار فى جسم الدبابة كانت العنوان لما ينتظر غازيا. كل تفصيلة من تفاصيل، هذا اليوم العظيم تبدو جزءا من ملحمة، الذين لم تعرف اسماؤهم.. يروى واحد من فدائيا منظمة سينا عن ضابط برتبة نقيب «يا سلام، لم ار فى حياتى من يناظره، كان يهاجم بقلب ميت.. اسمه لا اعرفه فلم يكن هناك متسع من الوقت لنتعارف، تتحدث الشهادات عن بائع صحف اسمه عبد العزيز محمود، كان ينقل الصحف من القاهرة الى السويس، سأل عبد العزيز: هم اليهود جايين منين؟ اشاروا اليه.. راح واستشهد..يملك هؤلاء الرجال، من استشهد منهم، و من اطال الله فى عمره، نوعا من «الصوفية» الفريدة.. هى مزيج ايمانى او خليط من الوطنية التى تنساب بهدوء النفس، و حالة ايمانية توكل الامور الى خالقها.. يشملك صمت قليل الحيلة احيانا ولا تستطيع ان تكتم دهشة مرة لما تعرف بمآلات حيواتهم.

عطيفى و قناوى و محمد طه اثناء حصار السويس
كان العم قناوى يحكى عما جرى لحلمه بعد التحرير..كان كل ما يبغيه مجرد دكان صغير، يصبح محل تصوير يتكسب منه لقمة عيشه.. كان ذلك فى عام 80 تقريبا.. فوجئ ان المحافظة طرحت محلاتها فى مزاد تأمين المحل الواحد ثلاثة الاف جنيه.. سعى فى محاولة التخفيف لدى سكرتير عام المحافظة فى ذلك الوقت، والذى حتما كان نائما تحت بطانية فى بيته، لما كان عم قناوى، رابضا فى مغارة جبلية، كرادار بشرى يراقب العدو! قناوى لم يشارك فى معركة السويس لانه كان فى مهمة لاستطلاع العدو.. لتسعين يوما فوق جبل عتاقة و ما ان انسحب العدو حتى نزل.. لم يذهب الى امه.. راح يفتش «فين زمايلى». لم يتعرف عليه احد.. ذقن تطول الارض، وجسد لم يصله وجبة متوازنه لتسعين يوما، و عيون لم تغمض امنة لثلاثة اشهر حتى ان احدا لم يتعرف عليه. لما رأه المقاتل احمد عطيفى سال: مين ده؟ يصف جمال الغيطانى المشهد فى شهادة موثقة «ترقرقت الدموع فى عين قناوى».. لما تعانقا اكتشف قناوى غياب ابراهيم سليمان و فايز واشرف. قال له احمد العطيفى: «نقصنا اربعة يا قناوى» لم يفلح السعى ولا حتى عند السيد المحافظ! لم يشفع للرجل ما قدم.. كانت هناك عين قرصان عينها على الدكان.. وكيل منتج بطاطس محمرة شهير، من بشاير الانفتاح السعيد.. تاجر دخان اصيل دفع لعم قناوى الالاف الثلاثة.. لكن وعلى طريقة الست سناء جميل فى الزوجة الثانية، تشبث وكيل البطاطس بالدكان فرفعت المحافظة التأمين الى خمسة عشر الف جنيه يتم دفعها فى شهرين!!عملت ايه يا عم قناوى؟ « الراجل تاجر الدخان كتر خيره سلفهم لى». من شهادات موثقة استحضر اسم اشرف عبد الدايم الشهيد، الذى استشهد عن ثمانية وعشرين عاما و كان يقوم بنقل العربات المدرعة من والى مداخل المدينة «بدا وكأن له جناحن يطير بهما».. لم يكن يهدأ.. يتم المراد، يعود، «تمام يا فندم».. استشهد ليلة 24 اكتوبر. هذه ليلة ملحمية اختلطت فيها اصوات الطائرات بجنازير الدبابات، ومع ذلك الاحساس السائد فى المدينة هو الانتصار والثقة.. هدد الاسرائيليون بافناء المدينة دكا بالطيران.. استخدموا كل صنوف التهديد، بينما راح السوايسية يلفون الشوارع بالميكروفونات يلهبون المشاعر «السويس يتم قصفها بالطيران لست سنوات.… لتكن ست سنوات وبضعة ايام».
فى ختام شهادة اسرائيلية من كتاب ترجمه مركز الدراسات الفلسطينية و ضعه عدة مؤلفين اسرائيليين نشرت ترجمته فى عدد من مجلة الطليعة عام 74 قالت الفقرة الاخيرة، على لسان اسرائيلى «كبدت المعركة التى دارت فى السويس القوات الاسرائيلية خسائر جسيمة ورغم ذلك وقفت القوات على مشارف المدينة، و بينما كانت المعركة فى مدينة السويس مستمرة مرت القوة المدرعة التابعة التابعة لفرقة ماجين على المحور وانطلقت حتى الاطبية ولكن لم يتم احراز هدف الهجوم الاسرائيلى غرب القناة لم يستطع الجيش الاسرائيلى حصار الجيش المصرى فى القطاع الشمالى».
عم احمد عطيفى وعم قناوى و عم محمد طه و قائمة طويلة من الشهداء: علنا نستحقكم.
رابط دائم: