كانت المرة الأولى التى اختبر فيها عمليا مواجهة غضب الطبيعة عندما تثور لتقتلع ما أمامها بعيدا عن الرعب الذى يمكن أن يشعر به الإنسان عندما تفاجئه رسالة تحذيرية على هاتفه تخبره بأن عليه أن يتوجه لأقرب ملجأ إليه، لأن إعصارا عاتيا فى الطريق.
الحقيقة أنه بالنسبة لقادمة من مصر تبدو فكرة دوامات الهواء العنيفة أقرب لأفلام الخيال العلمى منها إلى الواقع، وحتى التعاطف مع مآسى العالم وكوارثه مثل التسونامى وغيرها يظل تعاطفا نظريا مع صور نتابعها على الشاشات، لكن على أرض الواقع يبدو الأمر بعيدا عن التصور.
فى البداية لم أتعامل مع التحذيرات التى توالت على الهاتف بجدية، فقد اختبرت تحذيرات مماثلة خلال السنوات القليلة الماضية وعادة ما كان الأمر ينتهى إلى لا شيء، لكن فى هذه المرة تبعت التحذيرات أصوات عالية استغرقت وقتا لاكتشف أنها أصوات الرياح وأغصان الأشجار ومعادن تصطدم بالمبني.
لم يستغرق الأمر أكثر من خمسين ثانية بدت كالدهر، ثم ساد صمت مطبق، حيث انقطع التيار الكهربائى بالكامل عن العاصمة الكندية وعدد من ضواحيها، وبعد لحظات بدأت مولدات الكهرباء فى العمل وبدأ الناس فى الحديث.
لقد كان إعصارا قويا، وبدأ الجميع محاولة استخدام الهواتف للاطمئنان على ذويهم.
كان حظى عاثرا، فلم يعمل هاتفى بعد أن فقد شحنه قبل الإعصار بلحظات عندما كنت أحاول تحذير بناتى فى المنزل لأن الأمر يبدو جديا هذه المرة، ففقدت أى قدرة على التواصل مع عائلتى أو أى شخص يمكنه مساعدتي.
على كل حال مر كل شيء بسلام ولم يتضرر أى من أفراد عائلتى ، لكن ما يعنينى هنا هو كيف تعامل الكنديون شعبا قبل الحكومة مع لحظات الرعب وما أعقبها من فوضي.
بداية من حالة التضامن المجتمعى السريع التى جعلت جميع من حولك من أشخاص لا تعرفهم يبادرون بالاطمئنان عليك وعرض مساعدتك كما حدث مع سيدتين كانتا بجوارى وأدركتا ارتباكى وعرضتا على الاتصال بالمنزل من هواتفهما الخاصة بل وطلب سيارة أجرة لتقلنى والانتظار معى أكثر من ساعة ونصف حتى وصول السيارة.
فاجأنى الأمر ووضعنى أمام زيف التصور المسبق أن الغربيين عديمو المشاعر ومن الصعب أن يتعاطفوا مع الغرباء، ومرورا بكم الأشخاص الذين عرضوا توصيلى لأقرب نقطة ممكنة فى طريقهم، ونهاية بمعزوفة النظام التى شاهدتها فى الشوارع عندما استقليت السيارة فى طريقى للمنزل عقب الإعصار، فبدون إشارات مرور أو وجود شرطى واحد لتنظيم المرور انتظمت الحركة بشكل روتينى فى كل التقاطعات والشوارع، فقد تعامل الناس مع كافة إشارات المرور فى كل الشوارع على أنها علامة توقف مؤقت حيث يقف الجميع عند التقاطع، ومن يصل إليه أولا يتحرك ويتجاوزه أولا، وهكذا لم يرتبك المرور فى الشوارع ولم تتوقف حركة السير لحظة، وبالتأكيد لقد تسبب ذلك فى بطء الحركة، لكنها لم ترتبك أو تتوقف أبدا.
وتلزم قوانين المرور فى كندا قادة المركبات بالتنحى جانبا وإفساح المجال أمام سيارات الطواريء مثل الإسعاف والشرطة والمطافيء وغيرها، وهو ما كان يحدث بسلاسة أثناء التكدس المرورى الذى أعقب الإعصار واستمر أكثر من يومين بعدها فى بعض مناطق العاصمة الكندية.
على الجانب الآخر لا يمكن وصف حالة التضامن المجتمعى التى ما زالت مستمرة حتى اليوم، حيث بدأ الناس طواعية فى تقديم المساعدات لبعضهم البعض كأن يجهز من لديهم مواقد تعمل بالغاز وجبات ساخنة ومشروبات لجيرانهم الذين أثر انقطاع التيار الكهربائى على أجهزتهم المنزلية، بل لقد نظم كل حى دوريات لتوصيل الطعام والمشروبات الساخنة للمدارس التى فتحت أبوابها كملاجيء لمن تضررت منازلهم بسبب الإعصار، أما الأداء الحكومى خلال وبعد الأزمة فله موقع آخر للحديث عنه.
رابط دائم: