رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ليلة رحيل جمال عبدالناصر

د.عاصم الدسوقى;

كلما جاء الثامن والعشرون من سبتمبر من كل عام أعود بذاكرتى إلى مساء ذلك اليوم الحزين (الاثنين) حين طيرت الأنباء خبر وفاة جمال عبدالناصر، فقد خرجت مندفعا وبكل سرعة من منزلى بالمعادى حيث كنت أقيم، وذهبت إلى محطة القطار القادم من حلوان إلى باب اللوق (قبل المترو)، فلم أتمكن من ركوب أى قطار قادم حيث كانت القطارات مزدحمة والركاب على الأبواب وليس هناك موضع لقدم، بل إن القطارات التالية لم تكن تتوقف نهائيا إذ لا معنى لوقوفها وجميع ركابها قاصدون المحطة الأخيرة (باب اللوق) للذهاب إلى وسط البلد، فغادرت رصيف المحطة إلى الشارع ومعى كل من يقصدون ميدان التحرير وحاولنا ركوب أى أتوبيس من أوتوبيسات النقل العام فلم نتمكن حيث كان كل أتوبيس يأتى مزدحما وركابه بالباب، فتحركنا قليلا إلى طريق كورنيش النيل ووجدنا أن عربات النقل العام تلتقط من يريد الذهاب إلى التحرير على سطحها تطوعا ومشاركة فى المواساة فى خصوصية نادرة من خصوصيات ثقافة الشعب المصرى فى التعاون والمحبة الذين يمتازون بها عبر التاريخ. وركبت إحدى هذه العربات وسارت بنا على كورنيش النيل إلى شارع قصر العينى حتى توقفت قبيل ميدان التحرير حيث لم يكن من الممكن أن تسير أى خطوة بعد ذلك نظرا لازدحام الميدان.

.............................

وهكذا وجدت نفسى وسط طوفان من البشر من كل الأعمار رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا تجمعوا فى ميدان التحرير والشوارع المحيطة يبكون وينتحبون على مدى ثلاث ليال انتظارا لتشييع جثمان الزعيم إلى مثواه الأخير من مجلس قيادة الثورة عبر كوبرى قصر النيل.. وهى صور سجلتها الكاميرات كما هو معروف وعرضت على شاشات التليفزيونات..

وأخذت أتنقل بين تجمعات الناس فى الميدان، وفى كل خطوة كنت أجد صديقا أو زميلا فى العمل أخذ طريقه إلى هناك. ثم لمحت الفنانة نعيمة وصفى واقفة فى أحد الأركان وحولها جمع من الناس فوقفت معهم ووجدتها تنتحب وتقول لمن أمامها: يا ترى إيه إللى ح يحصل لنا بعده.. إحنا ما صدقنا ارتحنا واطمنا على يومنا ومستقبلنا.. ليه كده يا ربى ليه.. وأخذت أذنى تلتقط عبارات مماثلة من هنا وهناك. ومن بين العبارات التى كانت تتردد على ألسنة الناس ولم تبرح ذاكرتى حتى الآن بل يقشعر بدنى دائما عند استعادتها ما كانوا يقولونه مخاطبين عبدالناصر: «سايبنا ورايح فين يا جمال.. سايبنا لمين بعدك.. احنا بقينا أيتام يا جمال.. يا ناصر الفقراء»..

وبعد أن شيعت الجماهير عبدالناصر إلى مثواه الأخير وسط البكاء والنحيب والعويل، لم تبرح أذنى عبارات الأسى والحسرة التى كانوا يرددونها طوال ثلاثة أيام، والتى كانت تعبر عن الأمن والأمان الذى عاشوا فيه فى ظل وجوده، والخوف من المصير فى قابل الأيام فى عدم وجوده. وأخذت أتأمل الكلمات والعبارات التى سيطرت على سمعى بحثا عن أسباب استقرار جمال عبدالناصر فى قلوب الغالبية الغالبة من الشعب المصرى وأنا واحد منهم بطبيعة الحال، فأخذت أراجع القرارات التى أصدرها والإجراءات التى اتخذها، فوجدت أنها كانت لمصلحة تلك الغالبية الغالبة وهم أبناء الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها من الموظفين بالمعنى الواسع والفنيين الذين هم أساسا أبناء الفلاحين والعمال ويعملون فى مختلف المصالح والهيئات والشركات لقاء راتب شهرى.

ولما كان عبدالناصر أحد أبناء الطبقة الوسطى ويدرك طبيعة الفروق الطبقية بين المصريين، رأيناه فور قيام الثورة وتسلم السلطة، وفى 12 أغسطس (1952) يقرر ومن أجل تقليل الفروق الطبقية، زيادة الضريبة على الإيرادات العامة بالنسبة للشرائح العليا، وعلى الأرباح التجارية والصناعية والمهن الحرة بهدف الحد من الدخول الكبيرة. وبعد ذلك بأيام قليلة وفى التاسع من سبتمبر (1952) صدر قانون الإصلاح الزراعى الذى جعل الحد الأقصى للملكية الفردية للأرض الزراعية 200 فدان وتوزيع ما يزيد على ذلك على الفلاحين الذين يزرعون الأرض فعلا بالإيجار أو بالعمل اليومى، خاصة أن كبار الملاك هؤلاء لم يكونوا يزرعون أرضهم بأنفسهم ويعرقون عليها بل كان الفلاح الفقير هو الذى يقوم بذلك فضلا عن أن هؤلاء الملاك الكبار لم يشتروا الأرض أصلا بل كانت منحة أخذوها من أسرة محمد على باشا من باب تكوين طبقة اجتماعية تابعة لهم.

وعلى هذا استهدف الإصلاح الزراعى تعديل ميزان ملكية الأرض بتوزيع الأرض الزائدة على حد الملكية على صغار المستأجرين وصغار الملاك لأقل من خمسة فدادين. وقد تم تحديد مساحة الخمسة فدادين هذه على أساس أن ما تحتاجه الأسرة الريفية المكونة من سبعة أفراد (متوسط الأسرة فى الريف عموما) كحد أدنى لمواجهة متطلبات المعيشة 116 جنيها فى العام بأسعار 1952، وأن إيراد خمسة فدادين فى الظروف العادية آنذاك يبلغ 120 جنيها سنويا.

وبفعل سياسات الإصلاح الزراعى انخفضت نسبة الأسر المعدمة فى الريف من 44% عام 1950 من إجمالى عدد أسر الريف إلى 30% عام 1961، ثم إلى 28% عام 1965. غير أنها ارتفعت فى السبعينيات إلى 33% بسبب توقف برامج الإصلاح الزراعى بعد رحيل عبدالناصر، فتأكدت بذلك المخاوف التى أبداها الفلاحون من المستقبل.

أما بالنسبة لرعاية أبناء الفلاحين من عمال الورش والمصانع وحمايتهم فقد تم إلغاء الفصل التعسفى للعمال (الاستغناء) وكان أصحاب المصانع يمارسونه دون حسيب أو رقيب بحيث لم يكن العامل يأمن على يومه. كما تم إنشاء صندوق تأمين للعمال وآخر للادخار (31 أغسطس 1955) تحول إلى مؤسسة للتأمين ضد الشيخوخة والوفاة والعجز وأمراض المهنة والبطالة والمرض بشكل عام. كما نظم القانون التعويض عن إصابة العمل (18 ديسمبر 1958) ثم صدر قانون جديد للعمل (5 أبريل 1959). كما تقرر فى 17 سبتمبر 1952 تخفيض إيجارات المساكن 15% للمبانى التى أنشئت منذ أول يناير 1944 وتوالت سياسة التخفيضات وتجريم دفع «خلو الرجل». وقد قصد بتلك الإجراءات التيسير على عمال المدن والحرفيين والموظفين نظرا لثبات الأجور.

ومع إنشاء القطاع العام بعد قرارات التأميم الكبرى فى يوليو 1961 استوعبت وحداته العمالة المتزايدة من خريجى الجامعات وحملة المؤهلات المتوسطة مما كان له أثره على الاستقرار الاجتماعى. وفى هذا الخصوص يكفى أن نعلم أن خريجى الجامعات العاطلين عن العمل منذ عام 1956 وهم من أبناء الفلاحين والعمال والموظفين بلغ عددهم تسعة آلاف، ذلك أن عناصر النشاط الاقتصادى كانت لاتزال آنذاك فى يد الرأسماليين من المصريين أو الأجانب وهؤلاء عادة لا يسمحون إلا بتوظيف الحد الأدنى من القادرين على العمل تحقيقا لأكبر قدر من الأرباح، فتم تعيين هذا العدد الكبير اعتبارا من يناير 1962 وتوالت سياسة الدولة فى توظيف الخريجين أولا بأول فحدث استقرار عائلى. وكانت دولة عبدالناصر تراقب الأسعار وتحارب التجار الجشعين فحفظت كرامة الفقراء ومحدودى الدخل. وفى يوليو 1962 أعلن جمال عبدالناصر أن التعليم سيكون مجانا فى جميع المراحل تماشيا مع مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع وكل إنسان بعد ذلك حسب قدراته الذهنية.

والخلاصة التى نخرج بها من هذه المتابعة أن جمال عبدالناصر كان نصير الفقراء حقا وصدقا، وحاميهم من جشع الرأسماليين واستبدادهم، وهو الذى جعلهم ينامون قريرى الأعين آمنين على مستقبلهم ومستقبل أولادهم. ولهذا كان انزعاجهم شديدا حين علموا بموته.. وخوفهم عظيما من المستقبل.

أما الذين استراحوا لوفاة عبدالناصر ولايزالون فإنهم أولئك الذين أضيروا من الإجراءات الاقتصادية التى قام بها من أجل إزالة مجتمع الفروق الطبقية وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية، وكذلك أعضاء الأحزاب السياسية التى تم إلغاؤها فى يناير 1953 لمصلحة التنظيم السياسى الواحد الذى يجمع كل المواطنين للعمل من أجل مصلحة الوطن وليس من أجل المصالح الطبقية لأعضاء الحزب، ثم «الإخوان المسلمين» الذين اصطدموا به وحاولوا التخلص منه فتخلص منهم فى اكتوبر 1954، ثم فى عام 1965.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق