رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

خواطر فتاة مصرية من زمن عبد الناصر

د. عواطف عبدالرحمن;

تربطنى بعبدالناصر علاقة مركبة تحمل فى ثناياها أطيافا مختلفة ومتباينة تتراوح بين الانبهار الذاتى بشخصيته ومسيرة كفاحه وانتمائه الأصيل للكادحين والمفقرين والمهمشين من الكثرة الغالبة من أبناء وطنه وارتباطه المتجذر بقضايا ومصير الوطن مصرياً وعربياً، وعلى الوجه الآخر يأتى اختلافى فكرياً وسياسياً مع بعض توجهاته المستقاة من تربيته العسكرية الصارمة وعدائه للديمقراطية واعتماده على المؤسسة الأمنية. وبحكم انتمائى إلى القطاع المهمش من نساء مصر يحق لى أن اعترف أن عبدالناصر قد فتح أمام المرأة المصرية أفاقاً غير مسبوقة فى التعليم والعمل والمشاركة السياسية كان جيل الجدات والأجداد فى قريتى الجنوبية بصعيد مصر ينظرون إلى تعليم البنت باعتباره من الكبائر لأنها خُلقت لخدمة الرجل وتربية أطفاله وصيانة أسرته وأن التعليم سوف يفسد عقلها ويهدر مكانتها ويقودها إلى الانحراف الأخلاقى. وفى بعض العائلات الميسورة والمستنيرة كان الأمر يقتصر على تعليم البنت أمور وتعاليم الدين على أيدى بعض المقرئين. وبمبادرة عبدالناصر ومن هذا الباب المفتوح التحقت آلاف الفتيات بالتعليم وأصبح النساء فى قريتى يتفاخرن ببناتهن اللواتى التحقن بالجامعات وتبوأن المناصب التى كانت موصدة فى وجوههن فاصبحن طبيبات ومهندسات ومحاميات وقاضيات وباحثات وعالمات وأستاذات بالجامعة وسفيرات ووزيرات.

........................

لقد أتاحت مجانية التعليم التى أقرها ورسخها عبدالناصر الفرصة لملايين الفقراء التمتع بحقهم المشروع فى تلقى العلم ولكن للأسف عندما تغيرت الأحوال اصبح التعليم سلعة وتنكر المنتفعون بمجانية التعليم عندما انخرطوا فى دائرة صنع القرار وتعالت أصواتهم مطالبين بإلغائها وساروا فى ركاب المتكالبين على التهام ما أتيح لهم من ثروات الوطن وحقوق الأهالى. لا أنسى صوت عبدالناصر الذى غطى سماء الوطن وحملته لنا أمواج مطروح فى 26 يوليو سنة 1956 معلناً تأميم قناة السويس كما لا أنسى صوته المتهدج فى إحدى خطبه عندما قال (وهل الفقراء مالهمش حق فى التمتع ببعض النعم فى الدنيا وهل كُتب عليهم الحرمان والعوز طوال حياتهم). كنت منبهرة بوعيه الطبقى الذى استقاه من ظروف نشأته ولم يتلقه من الكتب وأقوال الفلاسفة والمفكرين المعزولين عن واقع الحياة وفواجعها المره التى يتجرعها القابعون فى قاع السلم الاجتماعى. يلتصق فى ذاكرتى صموده وجرأته المستقاه من أصوله الصعيدية وصلابة مواقفه فى مواجهة أعتى امبراطوريات العصر (بريطانيا – فرنسا - أمريكا). من المفارقات التى لا تزال تثير حيرتى وشجونى أن عبدالناصر كان يجمع فى آن وحد بين الإيمان بالعدالة الاجتماعية والعداء للديمقراطية. من الأمور التى لاتزال تحفر ندوباً فى وجدانى حتى اليوم ان عقلانيته كانت تتوارى كثيراً وتفسح الطريق لأشخاص منحهم ثقته وعواطفه ومنحوه تضليلاً وغدراً كان ثمنه غالياً سواء فى ساحة القتال أو الصحافة والإعلام، ولا تزال الأجيال تتجرع تداعياته المأساوية منذ هزيمة يونيو 1967. كان رحيله المفاجئ خاتمة مفجعة للملايين الذين أحسوا باليتم والضياع وقسوة الزمن الذى ضن عليهم بمزيد من العمر لهذا الفارس النبيل الذى لم تنجبه أمهاتهم ولكن أنجبته الأرض الطيبة بكل مخزونها من المواجع والانكسارات والإنتصارات القليلة. لا أنسى شهدى عطيه ومحمد عثمان ووديع حداد شهداء اليسار فى سجون عبدالناصر وأذكر بكل الإجلال خيرة ابناء مصر من العلماء والمفكرين اليساريين الذين استضافتهم سجون عبدالناصر حيث أمضوا زهرة أعمارهم فى أبو زعبل وطرة والواحات لأنهم كانوا يملكون رؤية وفكر مختلف عن أيديولوجية المؤسسة العسكرية التى أنقذت مصر من النظام الملكى واهدرت على الجانب الآخر رموز الفكر والثقافة الوطنية رغم أنهم لم يرفعوا سلاحاً فى وجه النظام الناصرى ولم يدبروا مؤامرة أو إنقلاباً ضد هذا النظام، بل تميزوا بالقدرة الاستثنائية على ضبط النفس والترفع وإنكار ذاتيتهم وإسقاط مآسيهم وركزوا على ما كان يطرحه عبدالناصر من أفكار وسياسات عن الإصلاح والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى وشاركوا فى مشروع عبدالناصر بلا أحقاد أو مرارات. لقد قدروا لعبدالناصر مواقفه الوطنية الشجاعة فى مواجهة الغرب والصهيونية وعندما خرجوا من السجون كانوا مثالاً وفياً وداعماً صلباً لسياسات وتوقعات عبدالناصر الوطنية والاجتماعية لم يخذلوه ولم يشهروا السلاح فى وجهه كما فعلت بعض القوى السياسية الأخرى. بل أناروا بكتاباتهم النقدية المستنيرة الجوانب المعتمة فى فاعليات النظام ولم يترددوا فى توجيه النقد الموضوعى بكثير من السلبيات التى كانت تعشش داخل النظام والتى تفاقمت ونخرت كالسوس فى نسيج المجتمع وأدت إلى إنهيار بنيانه على أيدى الحكام الذين جاءوا بعده. كنت انفر بشدة ولا أزال من القبضة الأمنية ومسلكها الإجرامى فى كثير من الحالات والتى شاعت فى تلك الفترة رغم ما كان يدعيه حراسها بأنهم قد نجحوا فى حماية النظام من أعداء الداخل والخارج ولكن الثمن كان فادحاً لقد سلبوا من الشعب المصرى قدراته الفذه على المشاركة فى صنع مصائر الوطن وكان الخوف الذى غرسوه فى نفوس الناس معولاً هداماً ادى إلى إهدار كثير من الإنجازات الناصرية ولاتزال قصيدة نزار القبانى «هوامش على دفتر النكسة» ترن فى أذني: «لو كنت استطيع أن أقابل السلطان قلت له يا سيدى السلطان كلابك المفترسات مزقت ردائى ومخبروك دائماً ورائى عيونهم ورائى أنوفهم ورائى أقدامهم ورائى كالقدر المحتوم كالقضاء». كان عبدالناصر كالبرق الذى توهج فى سماء الوطن ولم يطل بقاءه طويلاً اختفى وأصبحت الكلمة العليا لسادة الأسواق والمضاربات والتبعية بأباطرة العولمة والبنك والصندوق الدوليين. لقد حررت مجانية التعليم عقول وإرادة الملايين كما أن الثقافة الجماهيرية التى اخترقت النجوع والقرى المجهولة فى ربوع مصر. كانت ساحة رحبة لاكتشاف الموهوبين وبراعم المبدعين المتناثرين فى الغيطان والدواوير كما أنارت مكتبات الأحياء فى المدن وقوافل الثقافة فى الريف العتمة التى خيمت طويلاً وترسخت فى هذه المناطق وحرمت أجيالاً عديدة من بهجة المعرفة. الآن أصبحت مواقع الثقافة الجماهيرية قصوراً تعشش بداخلها العناكيب وبعض الموظفين البؤساء. لا ينسى مجايليّ روائع السينما والمسرح فى فترة عبدالناصر كان نادى السينما ومسرح الجيب متاحاً بأقل التكاليف. أصبحت تذكرة السينما الآن 50 جنيهاً، كما اختفت كثير من دور السينما وأصبحت أسواقا ومولات ويتوالى هدم دور السينما فى العاصمة والمحافظات بمنهجية صاروخية، وقد شاركت فى احدى الوقفات الاحتجاجية فى أسيوط لأن السينما الوحيدة تقرر هدمها بعد بيع الأرض لأحد كبار تجار الآثار فى الجبل الغربى. واجتاحت موجات الغضب شباب الجامعات واندلعت مظاهرات فبراير 1968 تطالب بعزل القيادات التى تسببت فى وقوع هزيمة يونيو 1967 أدرك عبدالناصر ان تهميش الشباب يعد إحدى خطايا النظام وأسفرت هذه المظاهرات عن تغير اللائحة الطلابية بالجامعات إذ أصبحت تنص على كفالة حقهم فى ممارسة النشاط السياسى داخل الجامعات وعدم اقتصاره على الأنشطة الاجتماعية والرياضية ثم اغتال السادات هذه اللائحة عندما سمح بتسليح الجماعات الإسلامية وشجعهم بكافة الوسائل لتصفية الكوادر الناصرية واليسارية. ولا أنسى زيارة أحد ضباط حرس الجامعة وكان ملتحقاً بالدراسات العليا بكليتى فى مهمة أمنية استهدفت رصد ومتابعة محاضراتى وكتابة تقرير عنها بعد عدة سنين زارنى هذا الضابط بعد ترك الخدمة وافصح عن حقيقة المهمة الأمنية التى كان مكلفاً بها وألقى على مكتبى مطواه طويله ذات سنون حاده قائلاً (هذه المطواه تذكار من أول دفعة مطاوى قمنا بتوزيعها على أعضاء الجماعات الإسلامية بالجامعة للقيام بمهمتهم ضد الناصريين واليساريين بناء على تعليمات الرئيس السادات). تابعت لحظات القلق والارتباك التى سبقت رحلة عبدالناصر إلى الخرطوم عقب هزيمة يونيو ولا أنسى مهاتفة ممدوح طه من هناك لمحمد حسنين هيكل يؤكد له ان جموعا حاشدة قادمة من كل أنحاء السودان لاستقبال عبدالناصر وتابعنا على الشاشات كيف حملت جموع الشعب السودانى سيارة عبدالناصر وأحاطوه مما لم يكن يحلم به أحد من الحفاوة الأسطورية لقد ضمدوا جراحه وكانوا امتداداً شعبياً غير متوقع للمظاهرات التى خرجت يومى 9 و10 يونيو ترفض التنحى وتصر على بقاء عبدالناصر واسفر مؤتمر الخرطوم عن اللاءات الثلاث الخالدة بشأن العلاقة مع إسرائيل (لا اعتراف – لا صلح – لا تفاوض). تذكرت ما كتبه فؤاد زكريا عقب توقيع اتفاقية الصلح مع إسرائيل عن موشى ديان الذى ظل بجوار التليفون فى انتظار مكالمة من القاهرة تؤكد استسلام عبدالناصر وخضوعه لشروط اسرائيل ولم يتحقق حلم ديان. لا تزال هذه اللاءات الثلاث محفورة فى ضمير ووجدان جيله لم تزحزحها اتفاقية كامب ديفيد المشئومة وما جرته علينا من كوارث ومهانة وتخاذل وتراجع لدور مصر وموقعها على خريطة الصراع العربى الإسرائيلى. طوال تأملى لتاريخ الوطن بثوراته وانتفاضاته وشعبه الصبور الذى يختزن فى جوفه تراكم منجزات الحضارة المصرية القديمة وحقبة الشهداء من القديسين الذين قاوموا ببسالة الحكم الرومانى واحتموا بالأديرة فى كهوف الجبل الغربى حيث أقاموا صلواتهم وحافظوا على نقاء عقيدتهم ومصريتهم ووصولاً إلى الثورات الشعبية منذ ثورة العميان بالأزهر ضد الغزو الفرنسى المعروف باسم الحملة الفرنسية والخيانة التى اجهضت ثورة عرابى ووحدة الهلال والصليب التى ميزت ثورة 1919 بجموعها المهيبة من البسطاء وهديرها الشعبى الساحق فى وجه الاحتلال البريطانى وانتفاضات طلابها وعمالها فى 1946 وكفاح شبابها المسلح فى القنال كان دائماً السؤال الذى لم يبارح ذاكرتى عن دور الفرد فى التاريخ وازداد هذا السؤال الحاحاً بعد مجيئ عبدالناصر وانجازاته واحقاقاته وصراعه البطولى ضد أعداء هذا الشعب الصبور الذى لم يستسلم مطلقاً ولكن كان له إبداعه الخاص فى بناء الوطن والحفاظ على استمراريته من خلال انجاب المزيد من المقاومين الصامتين إلى حين. كانت خميرة المقاومة ضد غزاة الخارج ولصوص الداخل تكمن طويلاً فى ثنايا الروح المصرية ولكنها لا تتوارى ولا تندثر مهما اشتدت وطأة القهر تتجمع ذرات هذه الروح وتتكثف عبر الأجيال ثم تنسكب فى داخل أحد ابنائها إلى أن تتوهج وتشتعل فى زمن لا يمكن التنبؤ به. دائماً أردد لطلابى الواقعة التاريخية المستقاة من إحدى الوثائق البريطانية والتى تذكرنا بالرسالة التى تلقاها المندوب السامى البريطانى من وزارة المستعمرات البريطانية فى نهاية الحرب العالمية الأولى (أكتوبر 1918) وكانت تتوجس من رد الفعل المصرى والخوف من نهوضه ومطالبته بالاستقلال وفاء لوعود الرئيس ويلسون قدم المندوب السامى تقريراً مفصلاً بناءً على تحرياته الميدانية يؤكد أن الهدوء والسكينة تعلو وجوه المصريين من أسوان إلى الاسكندرية حدث ذلك فى شهر اكتوبر 1918 ودعاهم إلى الاطمئنان على مصر والتركيز على الهند ونيجيريا فإذا بالثورة تشتغل فى مارس سنة 1919. وقد تكرر ذلك فى ثورة 25 يناير 2011 وسوف يتكرر فى انتفاضات قادمة. إن الغزاه الأجانب والحكام المحليين يصاحبهم دائماً الاخفاق والعجز عن قراءة الشعب المصرى وما تخفيه الأفئدة والصدور. هل مصر فى حاجة إلى الحاكم العادل المستبد وكيف يتحقق ذلك؟ أجاب عبدالناصر عن هذا السؤال الذى يواصل إلحاحه فى مخيلة وذاكرة أبناء جيلى. لقد كان عبدالناصر عادلاً بالنسبة للكادحين والفقراء من أبناء وبنات هذا الشعب وكان مقاتلاً شرساً فى مواجهــة الصهيونية والهيمنة الغربية وأذنابها وعملائها دفاعاً عن كرامة وحقوق الوطـن ووحـدة أراضيه ولكنه كان مستبداً فى مواجهة النخب اليسارية والإسلامية. لقـد أناب عبدالناصر عن الشعب فى تلبية معظم احتياجاته الإنسانية والاجتماعية والثقافية وطموحاته الوطنية وأفقده فى ذات الوقت قدراته على المشاركة فى إدارة شئون الوطن كما جرده من حقه فى التعيبر بحرية عن مكنوناته وطموحاته ومخاوفه ولذلك كاد يصبح حصاد هذه التجربة العظيمة هشيماً تحاول اقتلاعه سنابك وحراب لصوص الأوطان وحلفائهم المتربصين خارج الحدود.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق