لا تقتصر الحروب فى عالم الصراعات السياسية على استخدام السلاح فقط للقيام بعمليات الاغتيال، التى تتم على مرأى ومسمع الجميع، بل هناك أساليب أخرى للتخلص من الخصوم تكون أكثر بشاعة وأقل رحمة، باستخدام سموم ومواد كيميائية، التى غالبا ما تستخدم ضد الجواسيس والعملاء للتخلص منهم، والتى قد لا تكتشف إلا بعد الاستخدام بأيام أو شهور وربما عقود. وفى هذا التقرير نستعرض بعض الأحداث والشخصيات التى كانت محورا للموت الغامض.
خرجت صحيفة «ديلى ستار» البريطانية أخيرا بمفاجأة من العيار الثقيل بشأن وفاة المغنى الجامايكى الشهير بوب مارلي، وذلك بنشر اعترافات عميل سابق لوكالة المخابرات الأمريكية «سى. آى .أيه»، بيل أوكسلي، البالغ من العمر 79 عاما، الذى قرر وهو على فراش الموت الاعتراف بأن مارلى قد اغتيل، وروى تفاصيل عملية الاغتيال، حيث حاول الوصول لمارلى باستخدام هوية مزورة، وقدّم نفسه على أنه مراسل لصحيفة أمريكية شهيرة، وبهذه الطريقة تمكن من مقابلته بعد موافقته على الإدلاء بحديث للصحيفة.
وبينما كان مارلى يتحدث إليه، كان أوكسلى شاردا فى شىء آخر يصعب تخيله، ألا وهو تنفيذ مهمة اغتيال المغنى الأشهر، فعندما ذهب أوكسلى لمارلى قدم له هدية عبارة عن «حذاء رياضى»، ثم طلب منه ارتداءه للاطمئنان على أن مقاسه مناسب، وحين أدخله فى قدمه اليمنى صرخ متألما.. تلك كانت الإبرة التى كتبت نهايته حيث انتشر مرض سرطان الجلد «الميلانوما» بسرعة كبيرة فى جميع أنحاء جسد مارلي. ويضيف أوكسلى أن مهمته لم تنته عند هذا الحد بل إنه أقام معه صداقة واتصالات، للتأكد من أن الأمور تجرى كما خطط لها، وكان يقدم لضحيته النصائح بما فى ذلك «الطبية» منها خلال رحلة بحثه عن علاج فى باريس ولندن والولايات المتحدة، كى لا يفلت من الموت، وبالفعل توفى مارلى عام 1981 عن عمر ناهز الـ 36 عاما، بعدما حرم فى آخر أيامه من خصلات شعره الشهيرة، ونحف بشكل حاد.
وعلى الرغم من عدم وجود تأكيد رسمى لرواية اغتيال مارلي، فإن خبراء قاموا بفحص عينات له عام 2014 وتوصلوا إلى أنه أصيب بنوع نادر جدا من السرطان لم يكن مصدره التعرض للشمس، كما كان يعتقد فى السابق. وقد ذكر اوكسلي، الذى عمل فى وكالة المخابرات الأمريكية على مدى 29 عاما، أن الحكومة الأمريكية نظمت فى نهاية الستينيات والسبعينيات عمليات اغتيال استهدفت آخرين ممن يهددون مصالح الولايات المتحدة، ورغم تكذيب البعض لرواية أوكسلي، فإن التاريخ به ضحايا كثيرون ماتوا بطرق غامضة وسموم خفية.
ويعد الجاسوس الروسى سيرجى سكريبال، 67 عاما، الذى عثر عليه هو وابنته لوليا، 33 عاما، فى مارس الماضى بأحد شوارع مدينة سالزبورى البريطانية، من أبرز الناجين من الاغتيال بطريقة غامضة. فبعد نقلهما للمستشفى تبين تسممهما بغاز الأعصاب، الذى تم تطويره فى روسيا، ويحمل اسم غاز «نوفيتشوك» السام. وبعد تحقيقات طويلة قامت بها بريطانيا، تم توجيه الاتهام لموسكو بأنها وراء محاولة اغتيال فاشلة لسكريبال وابنته، كما حددت رجلين بالاسم يعتقد أنهما من جهاز المخابرات العسكرية الروسية يشتبه فى أنهما من قاما بذلك. ويذكر أن سكريبال كان يعمل مع المخابرات الروسية منذ 1994 حتى أقيل فى عام 1999 لتقصيره المهني، وخلال تلك الفترة ربطته علاقة بعميل فى المخابرات البريطانية، وظل على علاقة به حتى اكتشف أمره وألقت السلطات الروسية القبض على سكريبال عام 2004، بعد الكشف عن اتصالاته مع عملاء فى المخابرات البريطانية. وفى عام 2006، حكم عليه بالسجن لمدة 13 عاما بتهمة الخيانة، لكن فى عام 2010 تم تسليمه لبريطانيا فى صفقة تبادل الجواسيس.
ليتفينينكو .. نهاية مأساوية لمعارض روسي
ولم يختلف الأمر كثيرا عما حدث للروسى أليكساندر ليتفينينكو، الذى تصدرت صوره، وهو على فراش الموت، الصحف البريطانية عام 2006، بعدما دُس له البولونيوم عالى الإشعاع فى الشاى فى أثناء لقائه بشخص كان يزعم أن لديه معلومات خطيرة بخصوص مقتل الصحفية الروسية المعارضة «أنا بوليتكوفسكايا»، والتى كان يعمل ليتفينينكو تحقيقا بخصوصها لفضح تورط المخابرات الروسية فى مقتلها، وبعد تناوله الشاى شعر ليتفينينكو بإعياء شديد ثم تدهورت حالته سريعا، ونقل لأحد المستشفيات بلندن، وقد أثبتت التحاليل أنه تعرض للتسمم، مما تسبب فى تساقط شعره وضمور نخاعه حتى توفى. وكانت كل أصابع الاتهام تشير إلى تورط المخابرات الروسية لكون ليتفينينكو واحدا من أبرز المعارضين فى ذلك الوقت. ويذكر أن ليتفينينكو انضم لـ«كى. جى. بى» عام 1988، وعمل به ضابطا حتى رقى لرتبة مقدم فى عام 1990، وكان بوتين رئيسه آنذاك. وبعد أن ترك ليتفينينكو الخدمة انضم لصفوف المعارضة بل أصبح واحدا من أشرس معارضى بوتين، حيث قام بفضح أمور غير قانونية تتعلق بالمخابرات حتى تم اعتقاله عام 1999، ثم أطلق سراحه بعدها، وحصل على حق اللجوء السياسى فى بريطانيا عام 2001، وفيها أطلق اثنان من أشهر كتبه، كان أكثرها خطورة كتاب «تفجير روسيا: الإرهاب من الداخل»، والذى كشف من خلاله قيام المخابرات الروسية بعمليات تفجير فى روسيا لتحريض الشعب على الحرب ضد الأقليات المسلمة عبر إلصاق التهم بالمتمردين الشيشان.
ماركوف و«جريمة المظلة»
وكان القتل مصير الأديب والروائى والصحفى البلغارى جورجى ماركوف. فبعدما تولى الشيوعى تودور جيفكوف الحكم فى بلغاريا، اضطر ماركوف للسفر إلى بريطانيا عام 1968، والتى عمل بها كصحفى ومقدم برامج فى هيئة الإذاعة البريطانية، كان ينتقد من خلالها حكومة بلاده، مما تسبب فى مقتله على ايدى احد عملاء المخابرات البلغارية بمساعدة المخابرات الروسية فى 1978. فبينما كان ماركوف فى انتظار الحافلة بالقرب من جسر ووترلو بلندن على نهر التايمز، ويستعد للصعود للحافلة شعر ماركوف بألم حاد فى فخذه الأيمن من الخلف كأنما لسعته حشرة فنظر للخلف ليرى رجلا يلتقط مظلة من على الأرض ثم هرع الرجل مجتازا الطريق إلى الرصيف الآخر و ركب سيارة أجرة. ولما بلغ ماركوف مقر عمله لاحظ بثرة حمراء صغيرة فى فخذه وبدأ الألم يتضاعف حتى أخبر زملاءه فى العمل عن الحادثة، بعدها انتابته حمى شديدة نقل على أثرها إلى المستشفي، حيث توفى بها بعد الواقعة بـ 4 أيام ليتبين لاحقا أن رأس هذه المظلة كان يحمل حبيبات محشوة بسم الريسين، الذى يوصف بأنه «جد السموم الروسية»، وقد اشتهر الحادث آنذاك بـ«جريمة المظلة».
«الديوكسين» يشوه «كلينتون شرق أوروبا» ويقوده للرئاسة
المهمة شاقة لكنها لم تكن مستحيلة، ففى ذروة الانتخابات الرئاسية بأوكرانيا عام 2004، سقط المرشح الأبرز فيكتور يوشينكو فريسة لمرض غامض افترس وجهه ومعظم أعضاء جسده حتى أصبح على وشك الموت، وتحول معشوق النساء وأيقونة الوسامة والجاذبية، الذى كان يلقب بـ «بيل كلينتون» شرق أوروبا، ليصبح مثالا للدمامة والقبح عقب ظهور العلامات الجلدية والبثور الغريبة والانتفاخات فى وجهة وجسده، ولكنه أنقذ بأعجوبة بعد نقله إلى مستشفى بالنمسا، وقد تبين من خلال الفحوص والتحاليل الطبية التى أجريت له أنه تعرض لمحاولة تسميم بمادة الـ«ديوكسين»، والتى عثر عليها فى دمه بتركيز عال، كانت تسبب له آلاما مبرحة اضطر لتسكينها بالحصول على جرعات كبيرة من الموروفين، وذلك ليتمكن من استكمال حملته الانتخابية متحديا أعداءه الذين سعوا لمنعه من خوض الانتخابات ضد مرشح الكرملين فيكتور يانوكوفيتش. ويذكر أن صحة يوشينكو قد انهارت بعد حضوره مأدبة عشاء أقامها كبار أعضاء البوليس السرى قبل أسابيع من إجراء الانتخابات الرئاسية. ولم ينل الحادث من عزيمة يوشينكو بل كان دافعا قويا له ليتزعم المعارضة بحماس ويلهم الجماهير الغفيرة، التى كان عددها يزداد يوما بعد يوم، خاصة عقب خروجه بوجه مشوه لإلقاء خطبه النارية، التى ضاعفت من شعبيته وتعاطف الجماهير معه ليفوز بكرسى الرئاسة.
الجلسيميوم .. جزاء فضح الفساد
وفى عام 2012 كانت هناك ضحية أخري، فبعدما انتهى رجل الأعمال الروسى أليكساندر بيريبيليشنى من الجرى كعادته فى فناء مسكنه بلندن، سقط مغشيا عليه ليتوفى بعدها بساعات، وعقب تشريح جثته تبين أن معدته كان بها سم الـ «جلسيميوم»، المستخرج من زهرة الياسمين الأصفر السامة. وكان المليونير الروسى قد ترك موسكو متجها لبريطانيا عام 2009، بعدما أصبحت حياته فى خطر عقب تقديمه وثائق للمحققين السويسريين فى قضية تزوير كبيرة فى صندوق استثمار متورطة بها السلطات الروسية، لذا تيقن البعض أن المخابرات الروسية هى من قامت باغتياله انتقاما منه، فى حين يرى آخرون أن سبب الاغتيال هو عمله كجاسوس لمصلحة بريطانيا.
نهاية رمز النضال بـ «البولونيوم»
شهد عام 2005 نهاية أيقونة النضال الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وذلك بعدما أصيب بمرض غامض فى أكتوبر 2004 فى أثناء إقامته الجبرية فى مقره برام الله، والذى عزلته القوات الإسرائيلية به على خلفية أحداث الانتفاضة الفلسطينية، وقد ظهرت على عرفات أعراض غثيان يصحبه قيء وآلام مبرحة فى المعدة، وأخذت حالته تتدهور مما استدعى نقله إلى مستشفى بيرسى العسكرى فى باريس. وقد شخص الأطباء الفرنسيون حالته بأنه مصاب باضطراب دموى خطير أدى لتجلط الدم داخل الأوعية وأخفق الأطباء فى علاجه فدخل فى غيبوبة حتى توفي. وأثار الاشتباه لدى الجانب الفلسطينى بأن عرفات قد يكون توفى مسموما لعدم خضوع جثمانه للتشريح مع عدم تحديد سبب الوفاة أو الكشف عن سجله الطبي، لذا طلبت زوجته سها عرفات فى عام 2012 اخذ رفاته وتحليلها، وبالفعل تم إرسالها لمعامل الطب الشرعى للتأكد من سبب الوفاة، وشاركت ثلاثة وفود دولية روسية وسويسرية وفرنسية فى عملية أخذ العينات. وقد أثبتت تقارير مستشفى جامعة فودوا فى لوزان ومعهد لوزان للفيزياء الإشعاعية السويسرى أنه تم العثور على البولونيوم المشع فى رفات عرفات بنسبة كبيرة.
«أوزال».. ضحية السموم الأربعة
وقبل نحو 25 عاما، استيقظت تركيا على وفاة رئيسها آنذاك تورجوت اوزال، بالسكتة القلبية، وسط شكوك حول إمكانية تعرضه للتسمم، خاصة أن زوجته نددت بعدم تشريح جثمانه والتأكد من سبب الوفاة، مشيرة إلى تيقنها من انه تعرض للتسمم حيث قالت «انشغال اوزال قبل وفاته بإيجاد حل سلمى نهائى للمشكلة الكردية ورفضه القيام بعمليات غير قانونية لمواجهة المتمردين الأكراد أثار استياء المؤسسة العسكرية وهو ما كان السبب فى التخلص منه». وقد تقرر فى عام 2012 استخراج رفات اوزال من قبره بأحد المدافن فى اسطنبول لتحليلها ومعرفة سبب الوفاة، وعقب تحليل العينة أفاد تقرير معهد الطب الشرعى التركى بأنه قد تعرض لأربعة أنواع من السموم وتشبع جسمه بها مما أدى لوفاته، وهي: البولونيوم والكادميوم والأمريسيوم والدى دى تي، والتى تم إثبات أنها قد أعطيت له من خلال الأطعمة أو المشروبات.
رابط دائم: