فى الوقت الذى تحشد فيه هيئة الاركان المزيد من التعزيزات العسكرية فيما وراء التخوم التركية باتجاه حماة، تتواصل لقاءات أطراف الأزمة السورية يشاركهم فاعلون نافذون على الساحة الدولية والإقليمية، ولايبدو أن تلك الاجتماعات وما يدور فيها من نقاشات ووضع خطط وسيناريوهات سوف تتوقف، مادام ظلت الأوضاع فى إدلب على ما هى عليه من التعقيد والتشعب.
وفى يوم الجمعة 14 سبتمبر 2018 استضافت إسطنبول اجتماعا وصف بأنه رفيع المستوى ضم تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا، تمحور حول الوضع السورى وملفات أخرى مرتبطة به تحضيرا لقمة تعقد فى وقت لاحق يشارك فيها زعماء البلدان الأربعة كان مفترضا لها السابع من شهر سبتمبر الحالى لكن «الإليزيه» رأى انها لن تكون مجدية، داعيا للتريث ولمزيد من التحضير حتى يكتب لها النجاح، فاستبدلت بأخرى ثلاثية فى طهران اقتصرت على الرؤساء: التركى رجب طيب أردوغان والروسى فلاديمير بوتين والإيرانى حسن روحانى ولم تخرج بنتائج تذكر، لكن الأهم أن مناشدة أردوغان لشركائه وقف إطلاق النار فى محافظة إدلب، التى تسيطر عليها المعارضة المسلحة فى شمال غرب سوريا، لم تلق أدنى استجابة بل على العكس وجدت الرفض المطلق.
إبراهيم كالين المتحدث باسم الرئاسة التركية والذى مثل بلاده فى الاجتماع قال: «نتوقع من جميع الأطراف فى الأيام المقبلة مواقف تسهم فى التوصل لحل سياسى يزيل العقبات أمام ملف إدلب» ثم ردد ما سبق وأعلنه رئيس جمهوريته رجب طيب أردوغان بأن «أى هجوم على الأخيرة لن ينتهى بمأساة إنسانية فحسب، بل ستترتب عليه نتائج سياسية ودبلوماسية خطيرة للغاية» وشدّد على «أن الجهود التركية لوحدها لن تكفى لوقف الهجوم على إدلب، وعلى الرأى العام العالمى أن يتحمل مسئولياته»، وأوضح أن أى موجة نزوح جديدة باتجاه بلاده ستكون لها مضاعفات أخرى، وتأثيراتها لن تتوقف عند الأناضول، بل ستمتد إلى أوروبا ودول أخرى.
واعتبر تصريحات الدول الغربية (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) بأنها ستتدخل إذا استخدم بشار الأسد السلاح الكيميائى «غير كافية وغير متناسقة بتاتا، لأن الصراع فى سوريا أسفر عن مقتل مئات الآلاف حتى الآن، 99 بالمائة منهم قتلوا بالأسلحة التقليدية».
ولا يمكن أن يمر الأمر دون توبيخ أناضولى لواشنطن على خلفية دعمها للميليشيات الكردية التى يتم نعتها بالإرهابية، إذ عاد وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو إلى التأكيد فى الرسالة التى كتبها لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية ونشرت مؤخرا «إن وحدات حماية الشعب الكردية التى تصنفها بلاده بالإرهابية قد تساعد الحكومة السورية فى الهجوم على إدلب»، وأضاف أن تقارير جديدة أفادت، بانها تلقت مؤخرا أسلحة أمريكية، وكان «ينبغى على واشنطن أن تقيم من هم حلفاؤها الحقيقيون فى المنطقة؟».
النقطة المركزية التى تتعلق وتتمسك بها أنقرة هى الحيلولة دون اجتياح عدوها اللدود بشار الأسد لإدلب، المحاذية لحدودها والتى تضم نحو ثلاثة ملايين نسمة لخشيتها أن يؤدى هجوم واسع النطاق عليها إلى موجة نزوح جديدة، لن تتحملها تركيا، وهى أصلا باتت تضيق ذرعا بآلاف اللاجئين الموجودين لديها.
إشكال آخر يتعلق بمئات من جنودها المنتشرين فى 12 مركز مراقبة فى إدلب لضمان الالتزام بـ«خفض التوتر»، كذلك حماية فصائل المعارضة التى تدعمها وهو ماجعلها ترسل عشرات المدرعات، إلى الحدود للدفاع عن تلك المراكز من أى تهديدات محتملة.
غير أن تحقيق أمنيتها «بمنع الزحف الأسدى» تواجه عراقيل من قبل الكرملين وها هو ساكنه يؤكد أنه «من غير المقبول استخدام المدنيين ذريعة لحماية الإرهابيين» ، ووفقا لتحليل يشار يكيش وزير الخارجية التركى الأسبق الذى ضمنه أحد مقالاته الأخيرة بعنوان « تركيا تحاصر نفسها فى إدلب «كانت كلمات بوتين واضحة لا لبس فيها بحيث لا يمكن لأحد أن يفهم منها إلا أن تركيا متهمة بحماية الإرهابيين فى إدلب.
فى هذا السياق لم يكن الأمر مفاجئا حينما قالت قاعدة حميميم العسكرية الروسية عبر صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعى إن «موسكو لم تنصع للمطالب الخارجية بمنع القوات الحكومية من تنفيذ الهجوم البرى على مقاطعة إدلب شمال سوريا، أن التأجيل الزمنى للقضاء على الإرهاب لا يعتبر إلغاءً له، كما أن القوات الحكومية يحق لها تنفيذ عملياتها فى أى بقعة من أراضى الدولة السورية».
ونقلت مصادر إعلامية محلية معارضة عن قائد ميدانى يقاتل إلى جانب دمشق قوله إن القوات الحكومية أصبحت جاهزة لتنفيذ عملية عسكرية فى محافظتى إدلب وحماة، مشيراً إلى أن الأسلحة الثقيلة أصبحت جاهزة للإطلاق لافتا إلى أن تفقد وزير الدفاع السورى جبهة الخوين ومناطق ريف إدلب الغربى يشير إلى قرب بدء العملية العسكرية البرية.
ولأن كل هذه التحركات تتوافق مع الرؤية الروسية فمن شأن هذا أن يثير هلع تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان الذى دائما ما يفضل المخاطرة بطرح مطالب تصطدم مع قرارات الأمم المتحدة دون الإصغاء حتى لمستشاريه ، وحينما يجد نفسه فى نفق مسدود يعود جارا أذيال الخيبة مقدمات تنازلات، التنازل تلو الآخر.
والآن سيضطر أردوغان على مضض، وليس أمامه بديل آخر، لقبول تسوية يتم فيها استبدال الهجوم الواسع النطاق بـ»عملية عسكرية محدودة أو ضربات محددة الأهداف» ضد هيئة تحرير الشام، وتعديل حدود منطقة خفض التوتر بهدف إبعاد الفصائل المعارضة عن بعض المناطق فيها. ولا بأس من سيطرة تركية على المناطق الواقعة على أطراف إدلب والقريبة من الطريق الدولى التى تربط بين دمشق وحلب لتأمينه شريطة وضع حد للهجمات بواسطة طائرات مسيّرة انطلاقا من إدلب ضد قاعدة حميميم فى محافظة اللاذقية.
ومع كل ذلك تظل هناك حقيقة تتمثل بأن ما كان يأمله أردوغان ويحلم به بتكريس نفوذه فى جارته السورية تبخر بعد سبع سنوات من الحرب الاهلية بها والتى تقترب من نهايتها ، ولم يعد له أثر يذكر، وإدلب نفسها ــ رغم ما يتصوره بأنه حصل على مكاسب ، التى هى فتات ـــ ستكون نهاية هذا الحلم الأردوغانى وإلى الأبد.
رابط دائم: