لابد أن هناك إغواء ما تحمله قصة ريا وسكينة برغم مرور ما يقارب من قرن على صدور أول حكم فى تاريخ مصر المعاصرة بإعدام سيدتين عام 1921. كلنا نعرف القصة جيدا. فقد صارت الملحمة جزءا من الذاكرة الفلكلورية للمصريين. تحول ذلك العنف الدموى إلى صور متخيلة. أصابها قدر من الهدوء وجنون العقل: ريا وسكينة هو اسم المعرض الذى استلهم أسطورة القاتلتين فى عرض فوتوغرافى راق، مشابه للعرض المسرحى الصامت. هابى خليل مصور شاب، اختار أن يقدم رؤية حداثية لهذه التراجيديا الإنسانية فى ثلاث عشرة صورة بأحجام متنوعة، أغلبها من الحجم الكبير، فى جاليرى بيكاسو فى الزمالك فى الفترة من 1 إلى 12 ديسمبر.
.......................................................................
لقد دأبت القاتلتان، سيدتان فى منتصف العمر، جاءتامن صعيد مصر ليقيما فى الاسكندرية فى أوائل القرن العشرين، على اجتذاب النساء وسرقة مجوهراتهن ثم قتلهن ودفنهن تحت أرضية المنزل. جريمة مبتكرة. ربما يكمن هنا السحر. قتل سيدة لسيدة أخرى بدافع السرقة، ربما يكمن هنا دافع آخر لانفعالنا الدائم بهذه القصة. لا يبحث هابى هنا عن مبررات القتل ولكنه يضع المشاهد لصوره- التى ترتقى لمرتبة اللوحة- إزاء مشاهد صامتة، لا عنف فيها، لا دماء، وإنما تجليات حديثة لقضية قديمة، لعنف متكرر، لحياة مصغرة.
اختار هابى أن ينفذ صوره بالأبيض والأسود بتقنية فوتوغرافية حديثة تسمى Stage Photography أو التصوير المسرحى، وهى تقنية حديثة فى الشرق الأوسط، مشابهة لتقنية التصوير السينمائى، حيث يتطلب الأمر اختيار الشخصيات Casting، بناء ديكور، الإكسسوارات، ووضع سيناريو محدد التفاصيل لكل صورة على حدة. لا شيء متروك هنا للصدفة، أو الارتجال، أو الإبداع اللحظى بعكس مدارس التصوير الفوتوغرافى الأخرى.
لتنفيذ هذا المشروع اختار هابى وفريق العمل سيدتين متوسطتى العمر، متشابهتين فى ملامح الجسد والوجه، وقريبتى الشبه بملامح النساء اللاتى عشن فى الاسكندرية فى مطلع القرن الماضى. لقد خلق هذا التشابه المفرط بين السيدتين حالة من التماثل البصرى Visual Symmetry، تشجع المشاهد على التركيز فى الحركة وفى التيمة الخاصة بكل صورة، فى تعبيرات الوجه، وحركة الجسد. أتجول بين الصور، تجبرنى التأويلات التى تطرحها كل صورة على التوقف واستدعاء الحادثة الأصلية، ثم محاولة فك رموز الرؤية المعاصرة التى يطرحها الفنان.
تكشف الصور عن ثلاث شخصيات: ريا وسكية ورجل شاب، وطفلة صغيرة ظهرت فى صورة واحدة. هنا اختار المصور أن تكون الضحية-ضحية القتل-شابا بخلاف الصورة المعروفة عن الضحية: سيدة ممتلئة متخمة بالمجوهرات فى معصميها. يظهر الشاب الضحية بشكل مغو عارى الصدر، طويل الشعر نسبيا، يرتدى أقراطا نسائية فى معصميه، مستسلما لشهوة القتل. أراد هابى أن يضع الضحية فى منطقة رمادية، أن يتساءل من هو الضحية بالفعل؟
تظهر الأختان وقد ارتديتا فى معظم الصور الملابس التقليدية: «ملاية لف»، اليشمك، الطرحة التى تحجب جانبا من الشعر. وعلى عكس الملامح القاسية لريا وسكينة، تبدو الأختان هنا فى ملامح محايدة لا تخلو أيضا من الإغواء، لعبة الست الأزلية.
اختار هابى خليل تقنية الأبيض والأسود فى صور المعرض ليشير إلى الصراع الأزلى ما بين التقاليد المتوارثة ممثلة فى ريا وسكينة، والحداثة ممثلة فى الشاب الضحية. بينما ترمز الخلفية البيضاء التى تسبح فيها الشخصيات إلى العزلة الداخلية التى تحيط القاتلتين، كما يقول الفنان.
نحن إذا إزاء تأويل جديد للعنف. يبدو تأثير الصور الأحادية اللون Monochromatic مذهلا، حيث يضع المشاهد مباشرة أمام حقيقة الصراع وبشاعة العزلة التى قد يختارها المرء لنفسه حينما ينحو ناحية العنف.
ولد هابى خليل عام 1979، وله تاريخ مهنى فى التصوير الإعلانى فى الدوحة وأبوظبى، بالإضافة لاشتراكه فى عدد من المعارض الجماعية. يهتم الفنان بالقضايا الاجتماعية ذات البعد التاريخى والفلكلورى، ويطور قضايا بعينها إلى لغة بصرية جديدة. يعد هذا هو العرض الثانى لهذه المجموعة الفوتوغرافية، حيث عرضت للمرة الأولى فى دبى فى جاليرى Empty Quarter المتخصص فى فن الفوتوغرافيا والفيديو فى 2017,
اختار الفنان عنوانا موحيا لكل صورة. ليس عنوانا بقدر ما هو تيمة فرعية للفكرة الأصلية للمعرض.
فى صورة لافتة بعنوان «الحارس» تقف سكينة بداخل تابوت خشبى وتحمل فأسا استعدادا لدفن الضحية، بينما يقف الشاب الضحية فى تابوت مماثل، مغلف بغشاء بلاستيكى رقيق، يحاول تمزيقه بلا جدوى، ربما يحاول الإفلات من القتل، الهروب من ضيق المساحة، الانفلات من ضيق أفق التقاليد المتوارثة.
فى صورة ضخمة بعنوان «العدالة للجميع»، تقف سكينة منفردة فى المشهد. ترتدى ملابس مغايرة، مشابهة لملابس راقصات الباليه، ترتدى أساور فى معصميها، ويشمكا طويلا يلامس الأرض. وتحمل وعائين يتصاعد منهما البخور. يبدو الوعاءان مثل كفتى الميزان، ميزان العدالة. هل إعدام السيدتين القاتلتين هو تنفيذ صارم للعدالة؟ أليس المجتمع مسئولا بقدر ما عن انحرافهما؟ يفترض هابى خليل أن العنف مقسم بشكل ما بين السيدتين والمجتمع الذى تخلى عنهما وتركهما يمارسان الرذيلة والقتل.
إن رداء سكينة فى هذه الصورة الذى يميل للإغواء، يشير إلى بعض ملامح شخصيتها، حيث كانت تمارس الدعارة كمهنة، لم يكن لديها أسرة توفر لها الحماية، بعكس ريا التى حظيت بزوج وابنة. كما تشير كفتا الميزان اللتان يتصاعد منهما البخور إلى مواقد البخور الصغيرة التى كانت القاتلتان تستخدمانها لطرد روائح الجثث المتعفنة. فى صورة أخرى بعنوان «جيران» تقف الأختان كل منهما على بعد من الأخرى فى مشهد عبقرى من شواهد القبور الرمادية. تقف كل منهما بشكل لعوب، تختفيان جزئيا خلف أحد الشهود، وكأنهما تمارسان لعبة ما. لعبة القتل. أو الظهور والاختفاء. فى صورة أخرى بعنوان «حتمى» يظهر وجه الطفلة، كنقطة نور، بينما يختفى جسدها الصغير فى جلباب أمها الأسود التى تظهر أعلى الصورة. تشير الصورة بشكل ضمنى إلى ريا وابنتها، التى ساعدت بشكل ما على الإرشاد عن الجرائم التى ارتكبتها أمها وساقتها فى النهاية إلى العدالة. نقطة النور حتمية إذن. ستقودنا إلى الحقيقة إذا ما أمعنا النظر. برؤية أخرى، قد نرى الصورة من زاوية التوارث الأعمى الجاهل للتقاليد بين الأجيال. العنف والتبعية والجهل، ربما. «تطهر» هو عنوان صورة آسرة أخرى، حيث تظهر الشخصيات الثلاث معا. يقف الشاب الضحية فى المنتصف ما بين الأختين. يرتدى الحلى على صدره وفى معصميه، ويغطى نصف وجهه بيشمك قصير. يبدو مستسلما لإغواء القتل. تتشابك أيديهم جميعا، ربما علامة على الموافقة على الاشتراك فى الجريمة. مرة أخرى، من هو القاتل فى الحقيقة؟ كيف نبدو كأفراد حينما نرضخ لمشاهد الظلم أو العنف فى المجتمع؟ وفى نهاية الأمر لماذا نلتزم الصمت؟
ينفتح المعرض على تأويلات عديدة تعتمد على ثقافة المشاهد وتقبله رؤية العنف كموضوع فانتازى. أو كموضوع متكرر، يسيطر بشكل ماكر على حياة البشر منذ بدء الخليقة.
رابط دائم: