لطالما قاومت رغبتها المستعرة فى ركن سيارتها و النزول لدخول الكازينو القديم. فى كل يوم، منذ عودتها إلى المدينة بعد خمس و عشرين سنة من الغياب، تقود السيارة، و هى منقادة بقوة دافع قهرى تحدت مسبقا انهزامها أمامه، و تقطع الكورنيش بطوله من المعمورة إلى الشاطبى. فى رحلتها اليومية هذه كانت تستشعر نفسها خفيفة منطلقة لكنها مكبلة فى نفس الوقت! تضع اسطوانة الموسيقى فى جهاز الإم بى ثرى، تحكم إغلاق نوافذ السيارة، و تسترسل فى حلمها الصاحى مع نغمات بوليرو رافيل. تأتيها الأحلام مضمخة بعطر الذكريات و روائح الفراق الترابية. لماذا يجد الإنسان نفسه عاجزا دوما حيال الأحلام؟ و لم تسكن الذكريات، خاصة المرة منها، فى بيوت الحلم الشبحية و تأبى الرحيل؟ و ما العمل و الحال على هذه الحال؟ ما العمل؟ كان هو من سمعت معه رافيل لأول مرة فى حياتها، من سحبها برقة قوته القاهرة من عالمها الساكن البليد ليطوح بها، بعيدا بعيدا، عن عاطفية عبد الحليم السيالة و شجن محمد منير الجنوبى غير المصقول. و لأول مرة فى حياتها الغضة، تجد نفسها مدعوة من قبله للاستماع إلى الكونسير فى مسرح سيد درويش. خاصمها النوم قبل الحفل بليلتين؛ لم تكن لتصدق أنها ستلبس فستان سهرة، كما فى أفلام أنور وجدى و ليلى مراد، و تذهب إلى المسرح الملكى الفخم فى شارع فؤاد. كيف ستبدو؟ و هل تستطيع أن تدارى ارتباكها و شعورها بالضآلة فى حضرة أبناء الطبقة الراقية من المدينة و مثقفيها؟ و الأهم من ذلك، أين يمكنها أن تبيت ليلتها، خاصة أن الحفل لن ينتهى قبل إغلاق المدينة الجامعية للبنات أبوابها؟ أليس من الأفضل أن تعتذر له عن تلبية الدعوة و تؤثر السلامة؟
سنجد حلا لهذه المشكلة. قال بثقة لم تعرف أبدا من أين كان يأتى بها.
و ما هذا الحل؟ ألحت فى السؤال، و أحبت ثقته و إصراره اللذين، مع ذلك، لم تجد لهما سندا واقعيا ممكنا فى موقفهما الراهن.
يمكننا أن نقضى هذه الساعات على أحد مقاهى الكورنيش التى تسهر طول الليل، بل يمكننا حتى أن نظل سائرين فى الشوارع و على الكورنيش حتى الصباح، أليس رائعا أن تصبح المدينة كلها لنا وحدنا هذه الليلة؟!
أنت مجنون رسمى. ردت ضاحكة بسعادة لم تجهد نفسها بمحاولة إخفائها عنه. كانت تعرف أنه ربما دفع آخر جنيهاته من مصروفه الشهرى لحجز تذكرتى الدخول، و ربما حتى استدان من أحد الأصدقاء ثمنهما، لذا فإن اعتذارها فى اللحظات الأخيرة، و بعد كل تلك التضحيات المالية الجسام، كان سيعد بمثابة سكب سطل من الماء البارد على حماسته و عواطفه المتأججة، و ما كانت لتسمح لنفسها بأن تقوم بإطفاء نار تعهدتها هى نفسها بالنفخ فيها و بتأجيجها، نار تعلم أنها كلما استعرت سرى دفء الحياة فى عروق روحها و أينعت زهرة القلب.
ما رأيك؟ سنجلس فى هذا الكازينو طول الليل، نحدق فى الموج الأسود، نشرب الشاى مع السندويتشات، و نسترجع جمال موسيقى رافيل و بيزيه؟
كان كازينو الشاطبى، الواقع على مرمى حجر من مدينة الطالبات، فراشا ليليا لحلم عابر مدهش، تنتصب أعمدته الخرسانية على موج سريع الانقلاب متوج بالزبد لا يكاد يمد حتى ينحسر راجعا، موج من البحر يجيء ليعود إلى البحر، البحر يعطى و البحر يأخذ ما يعطى، ثم يعطى من جديد، و هكذا بغير انقطاع، و ربما من دون معني!
و بعد خمس و عشرين سنة، ها هى تقرر أخيرا أن تركن سيارتها، التى أهداها إياها زوجها فى عيد زواجهما الأخير، و تلج بوابة الكازينو، الذى أعيد بناؤه، لتبحث عن طاولة عتيقة انتصبت مرة عند شرفة بحرية تطل على بحر ليلى أسود لا يستعاد أبدا.
لاحت لها شمس ما بعد العصر وهى تقطع خطواتها الأخيرة متمهلة باتجاه مرقدها عند قلعة قايتباى على رأس جزيرة فاروس و خلف الميناء الشرقى. سرحت ببصرها نحو رمل الشاطئ، الذى خلا من رواده و مصطافيه فى هذا الوقت الربيعى الباكر، لتقع عيناها على صورة رجل يلج الماء تحتها حتى خاصرته، بشورت قصير و صدر عار و ذراعين مرتجعتين إلى الوراء و مضمومتين إلى الظهر، و بين الحين و الآخر يفك ذراعيه و يمد بهما إلى الأمام و يشرع فى التصفيق، ليرجعهما وراء ظهره ثانية.
راحت تحتسى الشاى الساخن الذى أتى به النادل و هى ساهية عما يدور من حولها. قال لها: يقولون إنه، ربما تحت جلستنا بالذات، و قرب هذا الخليج الشرقى، أغرق أوكتافيوس قيصر أسطول أنطونيو ليحرمه حب كليوباترا و حياته معا. أتدرين؟ كم تشبه الحياة الحلم! و مع ذلك أنا لا أقايض حلمى بالحياة بكل ما فيها. ماذا يشتهون فى الحياة كل هذا الاشتهاء؟! إن كل ما فيها ماض إلى الانحلال و إلى الزوال، لا شيء يبقى منها، لا الثروة و لا المجد و لا السلطة، كله ينحل و يروح.
و الحب؟ سألت واجفة.
و الحب أيضا.
أنت من يقول ذلك؟! و فى هذه الليلة بالذات؟!
وضع يده على كتاب اللا منتمى، الذى كان لا يفارقه، و كأنه يستنجد بصديق. ران الصمت بينهما طويلا قبل أن يجيبها.
قلت لك إننى لا أقايض حلمى بالحياة ذاتها. ربما أكون قد بالغت على عادتى، فلا تزعلى، و ربما أكون مخطئا تماما حين اعتبرت أن الحب أيضا لا يبقى، و لم لا يبقى الحب؟ أليس الحب كالفن؟ ألم ينسج كلاهما من غزل الأحلام؟
عندما دخل على أبيها فى حوشهم المبنى على الطراز البدوى بمطروح، كان قد أمضى الليل بطوله مسهدا على سفر. لم يكن آملا كثيرا فى نجاح مسعاه و قبول طلبه، فما كان لديه ما يطلبه الرجال من الرجال فى مثل هذه الحالات، فقط حبه و ثقافته و شبابه و اعتداده، ربما غير المبرر، بنفسه. كانت قد استنجدت به ليتقدم قبل أن يفوت الأوان فالعريس هذه المرة يصعب رفضه. ذهب حاملا باقة ورد و علبة شيكولاته، و معهما حلم رومانتيكي لا يقايض نفسه إلا بنفسه، لا شيء أقل!
خمس و عشرون سنة حفظت إحدى هذه الورود مجففة بين صفحات كتابه الأثير اللا منتمى. خمس و عشرون سنة كانت قد قايضت حلمها بحياة كاملة لم تجد فيها و لو موجة ليلية واحدة تتنسم ذروة نغمة لرافيل فى كازينو قديم على بحر الشاطبى. أحبها زوجها، طبعا على طريقته، و أهداها الولد و البنت و الشقة و السيارة و الإحساس الدافئ السيال بالأمان الاجتماعى، و بالقطيعة مع حلم رومانتيكى كان يأبى مقايضة نفسه إلا بنفسه.
الحساب لو سمحت.
أتاها النادل بالفاتورة مصحوبة بابتسامة لزجة مداهنة و طامعة. تغاضت عن ابتسامته و قد بدا لها أن تسأله عن الرجل العارى الخصر فى الموج، الذى لم يكف عن التصفيق منذ مجيئها حتى دخول المساء. ابتسم النادل بحزن خفيف هذه المرة و هو يقول:
يغنى أغنية محمد منير.
محمد منير!!!
نعم، أغنية تقول أمانة يا بحر تستلم الأمانة، أحبابنا يا بحر فى عيونك أمانة.
صمت لحظة مشحونة، قبل أن يوضح:
غرقت ابنته أمام عينيه هنا منذ سنتين، و من ساعتها و هو على هذه الحال، يوميا من الصباح إلى المساء.
رابط دائم: