خلت البيوت تقريباً من الرجال. وامتلأت بهم شوارع القرية متجهين إلى الصوان.. متى عرفوا اسم المقرئ ارتدى بعضهم أفضل ما لديه وتعجل المصلون فى وضوئهم وصلاتهم. تتردد بينهم عبارات العزاء.
- والمضيفة هتساع البلد, الله يرحمه ويحسن إليه.
- أكيد هو فى مكان أحسن من هنا.
يمر الجميع ببيت المتوفى بقرب الصوان حيث لا يزال يسمع الصراخ. فالميت شاب, وكم فكر العابرون بزوجته الجميلة. التى يمكن تمييز صوتها المبحوح يصرخ كل حين.. يا حبيبى يا خويا. هذه الكلمة التى سمح بنطقها بعد أن مات الرجل.. ظلت ترددها المرأة الشابة فى الطرب حيث أصابها الإغماء والفواق مرات. بمرور الرجال تجود إحداهن بالصراخ واللطم من أمام البيت حيث أقيم معزى النساء. تطلع وتنزل عليها العيون وتشعرن فداحة الخسارة. ولم يكن للأسود أن يخفى جمالاً فى تلك الأرملة التى صار حزنها حزناً لكل البلد.
كل قارئ يفتح الله عليه بتلاوة سورة معينة. إلا هذا القارئ الذى سيحيى سهرة الليل فقد برع فى تلاوة حتى قصار السور. ترصص الرجال وجلبت كراسى إضافية. ووقف من لم يجد مكاناً منتظراً انتهاء الربع. استوى مولانا على كنبة عالية كثيرة النقوش. ووضعت له طقطوقة عليها منفضة سجائر وكوب ماء. طرق بإصبعه لاقط الميكرفون. ووضعت فوق الطقطوقة أجهزة تسجيل صغيرة فى وضع التشغيل. جلى مولانا صوته ببعض النحنحة حتى لان له السر. ليطلق أوتار حنجرته أول الأمر برفق. ثم يبتعد ويقترب أو يميل فمه هوناً. فلا يقتحم عبارة أو يغتصب معنى.. الله الله. علت التعليقات من جنبات الصوان الذى لم يسمع فيه أحد أعذب ولا أقوى من صوته صوتاً يتلو.. والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين.. الله يفتح عليك يا مولانا.
يابنى لا تقصص رؤياك على إخوتك.. كررها فى نبرة محب خائف عليهم أجمعين ثم راح ينغم حلقة بمسحة خضوع.. ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب.. حبّب إلى السامعين آل يعقوب كلهم حتى وهم يتآمرون. ثم عاد ليبطن صوته بمسحة خنساء ماكرة لدى قول أحدهم.. ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا. ظل يعيد العبارة فى ليونة مقهورة لعاجزين.. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً.
هكذا أرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم الذى كف بصره.. ما دار فى عقلي, دار مثله فى كل العقول.. يا للأب, والله يستحق أكثر من الأجر اللى طلبه. ذلك الذى ما كاد يترجل عن عربته حتى سأل.. راضيتو السواق.. راضوه.
ثم ضرب بالعين ناحية الصوان الممتلئ, وما رأته النساء المنتظرات فى بيت الراحل. حتى سرت الحركة فى الشباب والعجائز. وبسرعة جاءت صينية مغطاة بالشال الذى كشفه أحدهم. أزاح مولانا كمى الجبة وتململ فى جلسته مثنى الذراعين. بقى مرفقاه العاريان غير مرتكزين على شيء. ظل يحدق فى دكر البط إلى أن قال أحد الرجال. اتفضل يا مولانا.
وكأنما كانت إشارة البدء. إذ غرس الرجل أصابعه فى بطن الطائر. ورعش يديه فى الهواء قليلاً. كان البخار يبخ من بطن الطائر كأنه خارج لتوه من الماء المغلى. أعاد مولانا غرس مجساته المدربة, حتى قسم الطائر سائلاً لم يوجه السؤال لأحد بعينه -:
- وديتو أكل للسواق؟
لم أحسب أن رجلاً محباً للطعام والمال يمكن أن يفيض بهذا الصوت الساحر. رغم أننى كنت أسمع باسمه وأحب اقتناء شرائطه. بعدما تخلصت من شرائط المقرئين رخيصى الأجر ذوى الأصوات المسرسعة. الذين يقرأون كأنما فى درس مطالعة من كتاب بصوت يزن على وتيرة واحدة مثل مروحة تالفة. فلا يحس ما يقرأ بل ينام البعض خلال قراءته بحيث يبدو أنهم جاءوا تأدية واجب. يجاريهم المقرئ ويتلو فيتوعدهم ثم يختم بسرعة ويأخذ أجرته ويسرع ليتوعد غيرهم فى مكان آخر. إلا هذا الشيخ الذى كان لا ينظر حوله ولا إلى أحد.
تمتمت شفتاه بالحمد وما أسرع ما سال دهن من الذقون والأصابع. وأحمرت الشفاه بلمعة الشحم. وجاءت امرأة لجمع الصحون والبواقى. وجاءت أخرى بإبريق ماء لواقفة تنتظر بصابونة فض غلافها تردد.. ألف هنا وشفا. ثم راحت أعواد الكبريت تدخل بين الأسنان.
مضى الشيخ الواضع يداً على أذن.. قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف.. وظل يتوسل الرحمة كأب عجوز فاهم لبنيه واحداً واحداً. رحمة تضىء بها أغوار الحقد الإنسانى الذى يخلق الأذى. تلك التى ترعش صوت الرجل فيتلو.. إنه ليحزننى أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب.. فى أبّوة تعرف ما سيحدث وتدعى الجهل. يا له من أب حقيقى. ابيض شعره وسقطت نصف أسنانه, ذلك الذى لا يبوح بما يعرف أبداً.
جرّ مولانا صوته جراً بطيئاً حسبه الناس إلى ختام. بعدما طالع صفوف الواقفين خارج الصوان. والنساء وقد وقفن أمام بيت المتوفى جماعات. فإذا به يطلع على الأسماع من جديد. والجلوس يستحثونه على إكمال قصة يحفظونها.. الله الله يا مولانا, حرام عليك والله.. بينما يشخص مولانا بصوته عجوزاً يتمنطق بحبل متكئاً على عصا يتوعد بكل رفق. عجوز يخاف على أبنائه حتى الكذبة منهم بنبرة أسيانة مثل نهاية اللحن التى تجىء مذبوحة دائماً. الله الله يا مولانا.. بل سولت لكم أنفسكم أمراً. والله المستعان على ما تصفون. لم يعبأ الرجل بسامعين أسكرهم صوته. صوته الذى يراوحه بين صوت ينشرخ وآخر ينزف وثالث يبث البشرى. وغيرهم ينطق بضعف الأب ولينه. صانعاً له أبعاداً ثلاثية وألواناً وصوراً تتحرك. كنا كأنما نسمع القصة المعروفة لأول مرة.. الله الله.
ظل مولانا يلوى حلقة ويبطئ إظهاراً للحق من أكاذيب زليخة الجميلة. لم أشك فى أن أكثر الرجال حزنوا لزوجة المتوفى. وأحسوا كمثل حشرة تنشب أظافرها الطرية فى ورقة بشجرة كثيفة الخضرة. والحشرة ينفرد منها جناح ثم يطوي, وهى تهتز موشكة على السقوط. لدى هبة عاتية من رياح تضطرب منها الشجرة والأفرع والأوراق.. فقد بلغ مولانا بصوته أقصى قوته.. ما هذا بشرا.
ظل الرجل يعيد ويستغيث بكل قوة تعين بشرياً ضعيفاً. ذلك الذى لمتننى فيه. وعمل مولانا بكل أحبال حنجرته إجلالاً لجمال الإنسان. وظل يستجير كمن يقوى عزمه بعد أن تأكد أن لم تعد لديه أى حكمة. ما هذا بشرا. كان فى تلك اللحظة كمراكبى يوشك قاربه الصغير على الغرق. وتعالت أصوات الاستغاثة والإعجاب.. الله الله يا مولانا. أطلت على الجالسين زليخة الحلوة كأنثى لها عينان واسعتان, وشعر ينزلق رغماً عنها من تحت عصبة الرأس ترتدى الأسود الذى تظهر منه مواضع الأنوثة دون أن تقصد.. كل شيء فيها حلو, حتى صوتها المبحوح بكثرة البكاء. عاد الرجل بعدها إلى هدوئه. وعاد الصوان ساكناً سكون الحقول فى الليل. ترمى الإبرة ترن. إلى أن عم الهرج فجأة واضطرب الجالسون. نهض أقربهم إلى المدخل والواقفون لتلقى العزاء يحيطون شخصاً يحاول الدخول.
كان الأخرس.. بكابوظة, عارٍ تماماً مثنى يتقدمه وجهه. بينما بعضهم يشير له أن يبتعد. وهو يزق بذراعيه مصراً على الدخول. هكذا نراه فى شوارع القرية فلا يهتم أحد بأمره. قد يستر عورته أو يتركه أو يصحبه إلى الخلاء كان مجرد شيء سمين وعارٍ يزحف قدميه.. مجرد كتلة طرية بيضاء. أما الآن فإنهم يحيطونه منكوش الشعر, تسيل الريالة على ذقنه. ذراعاه طويلتان ممتلئ وعارٍ تماماً. رؤيته هكذا مألوفة, إنما فى صوان.
نهض بعضهم ونزل عليه ضرباً, لكنه لم يكن يبالى بالصفعات ولا الشلاليت. بدا مصراً على الدخول. نزع آخر شالاً عن كتفيه ولف به الخصر العارى وصحبه إلى حيث جاءه بكرسى وأجلسه.. مشيراً لمولانا أن يواصل. وعاد مولانا يقرأ بصوته الخام كمن يقرأ خبراً فى جريدة. كانت نبرته محايدة هادئة تحكى الحقيقة. الحقيقة التى لا يستدل عليها بغيرها.. وابتدأت الرءوس فى الالتفات نحوه والأيدى المشبوكة فى الإشارة له أن يقرأ من جديد فأخذ الرجل يعيد ويزيد.
بعد ثوان بدا للأخرس أن هذا الموضع لا يعجبه. فنهض والشال يتدلى من خصره مثل جيبة حريمي, إلى حيث يكون قريباً من المقرئ. فأخلى له أحدهم كرسيه واضطرب الصوان ببعض الهمهمة. وعادت الصيحات إلى الإعجاب حين قال مولانا.. وهكذا مكنا ليوسف فى الأرض. والله العظيم هذا الرجل أحب. بدا الصوان هادئاً وتفتحت فيه القلوب من جديد, بسحر مباغت لفتاة, تطلع بفتنتها على جمع من الرجال العزل. وعم الاضطراب الصوان حين بدا للأخرس أن الأمر لا يعجبه. إذ نهض مطوحاً بالشال. وراح يهرول فى ممرات الصوان, أو يركض مترنحاً. هرع إليه بعض الجالسين ونزلوا على وجهه صفعاً. كان يجذب وجه من يضربه ويقبله. بدا الأمر مربكاً, وعمت الفوضى. أفلت الأخرس من أيديهم, كانوا كمن يطاردون دجاجة. وإذا به يزحف قدميه مثلما يسير. يقطع الممرات مصفقاً بيديه يصيح.. هى ى ى ي, وحدوووه. كانت الكلمة الوحيدة التى ينطقها.. وحدوووه.
- سيبوه.. هيخرج لوحده.
- حد يشيله يطلعه بره.
- أما واد ابن كلب أوي, ده وقته.
- وده إيه اللى جابو هنا.
تداخلت الأوامر, ولم يكن بُد من حمله وإلقائه خارج الصوان. مرت ثوان وإذا الطوب والزلط ينهمران على رءوس الجالسين. فقام بعضهم إلى مطاردته.. وبعد قليل هدأ كل شيء.
عاد مولانا الذى بدا منصرفاً عن الأمر كله يبدع بصوته كمن يحرك أصابع يديه وعاد الجلوس إلى إطلاق التعليقات.. الله الله. فكان يلوى حنجرته ويطوى الآيات ويفردها فى دربة.
ظل يصل الأرض بالسماء, والسماء بالأرض. وينتقل بالمعجبين من هجيعة بعد العشاء, إلى مغربية مشمسة ومفعمة بعنفوان الظهيرة. ويلعب بهم فيلضم الآية من أخرى دون أن يأخذ نفساً ولا شهقة خاطفة. كان وجهه يحتقن حد الانفجار ثم يهدأ. فيضيف إلى أدائه بحة أو يبوسة يعرف مقدارها.
أين اختفى بكابوظة السمين العاري؟.. بدا أن لا احد يعرف حتى الآن. بينما مثلت زليخة الحلوة ويوسف الجميل. مثلوا للعين كجمال ينازل جمالاً. يتوسل بعضه بالسماء, وبعضه بالأرض فى ذلك الكبد الدائم للجمال البشرى.
رابط دائم: