المتعة جزء أصيل فى صناعة السينما.. ولست محترفاً للفن والشغف هو ما يحركنى
وحده يقف المخرج السينمائى المصرى داود عبد السيد فى منطقة خاصة، يحكى عن العالم من حولنا انطلاقا من وجهة نظره الخاصة، ويخلق عوالم موازية لواقعنا المرير، ويجعلنا نحلق بعيدا فى محاولة لإكتشاف أنفسنا، ودائما ما نخوض معه رحلات انسانية ونفسية تماما مثل التى يخوضها أبطاله بدءا من فيلمه الصعاليك ووصولا إلى رسائل البحر وقدرات غير عادية تلك الرحلة التى تجعلنا نطرح العديد من التساؤلات حول ماهية الحياة، والحرية والعلاقة بالآخر فى محاولة لفهم المجتمع وتحليله وعرضه على شاشة السينما كما يراه داود من خلال روحه.
داود عبد السيد حكيم السينما وفيلسوفها كما يروق للبعض أن يطلق عليه.. يمنحه مهرجان الجونة السينمائى فى دورته الثانية جائزة الإبداع الفنى عن مشروعه السينمائى المتكامل الملامح، الذى يصعب أن تخطئه عين أو أذن فهو يلامس الروح من خلال شخصيات لا نمل أبدا من مشاهدتها، وحوار سينمائى نستدعيه فى الكثير من الأوقات، وأفلام نعيد أكتشاف تفاصيل جديدة فى كل مرة نشاهدها فيها.
داود يبوح فى هذا الحوار بالكثير عن مشواره، فتعالوا ننظر معه للوراء، قبل أن نتكلم عن الحاضر والمستقبل.
.....................................
> تم تكريمك والاحتفاء بإنجازاتك السينمائية فى العديد من المهرجانات والمحافل المصرية والعربية ماذا عن تكريم مهرجان الجونة السينمائى فى دورته الثانية؟
ما يهمنى فى التكريم هو الجهة التى تكرمنى ومهرجان الجونة فى دورته الثانية هو مهرجان شاب وجديد، وأذكر اننى فى العام الماضى حضرت الدورة الأولى، التى شهدت فيها العديد من التجارب السينمائية الهامة، إضافة إلى طموح ومحاولة جادة ومخلصة لإقامة مهرجان يحتفى بالسينما والصناعة، لذلك أرى أننا أمام مهرجان يتحول تدريجيا لواحد من أحسن المهرجانات فى مصر.
> ماذا عن مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الاربعين المقبلة وتوقعاتك له؟
لا أعلم كيف ستكون الدورة المقبلة لمهرجان القاهرة فى ظل الإدارة الجديدة، لكن مهرجان الجونة به حرية حركة وإمكانيات ليست فقط مادية فالقاهرة العام الماضى مثلا كان به إمكانيات مادية لكن ما أعنيه هنا الحرية والتنظيم والرؤية.
فقد يكون هناك إدارة جيدة جدا ولا ينجح المهرجان لكونه مكبلا بالروتين إضافة إلى أن مشكلة القاهرة هى أن أغلب المهرجانات عبارة عن أسواق ولكن مهرجان القاهرة ليس به سوق للأفلام،فالمهرجانات أما اسواق للأفلام او مهرجان فنى أو دعائى ولكن للأسف القاهرة مكبل بوهم عضوية الاتحاد الدولى.
> هل توقيت التكريم يحمل معنى ودلالة بالنسبة لك؟
بالتأكيد فكرة التوقيت مهمة خصوصا أن أى شخص بحاجة للتقدير وأنا لا أدعى قلة الاهتمام بهذا الأمر، والحمد لله كثير ما أصادف شبابا فى الشارع أو مشاويرى الخاصة يبدون تقديرهم لفنى وأفلامى، وهذا يسعدنى بكل تأكيد لأننى أعلم بأننى مخرج لديه نوع معين من الجمهور، فخور بهم إلا أن التقدير فى حد ذاته شئ جميل،
(ويضيف داوود مازحا) هل معنى أنه اذ لم يتم تكريمى سأكون حزينا أو أنتحر مثلا؟ بالعكس تماما لأننى اشعر بأننى مقدر من جمهورى دائما.
> حب السينما بشكل كبير يعنى الشغف، وما بين اللحظة الأولى التى دخلت فيها إستوديو جلال فى مراهقتك لتتابع تصوير فيلم سينمائى، هذا العالم المبهر كما وصفته وصولا إلى تحققك كمخرج صاحب مشروع مكتمل الملامح هل لا تزال تعيش نفس حالة الشغف مع السينما؟
بالفعل هذه اللحظة تحديدا كانت مبهرة لأن تفاصيلها كانت تحمل نوعا من الاكتشاف الغامض، شيء ما أحبه ولا أعرف تفاصيله وهاهى تتكشف أمامى بالتأكيد لم أنس هذه الحالة يوما ما.. وإذا كان هذا الشغف قد إختفى من حياتى كان يصعب على الاستمرار.
> لذلك دائما ما تردد مقولة إنك لست مخرجا ولا كاتبا؟
أقصد من خلال هذا التعبير إننى لا أتعامل مع الفن بإحتراف، بمعنى إننى لست مخرج إستوديو يأتينى أى نوع من السيناريوهات فأقوم بإخراجه، أو يطلب منى منتج صياغة سيناريو بوليسى أو رومانسى، ولست كاتبا محترفا أيضا، وهذا لا يعنى أننى اقلل من هذه الطريقة فى العمل بالعكس فقد أكون انا من أفكر بشكل خطأ واقول «ياريتنى» وافقت على ذلك، وعادة ما يحركنى شغفى لإنجاز أى شئ بداخلى لأنقله للناس وأشاركه معهم لذلك يختلف الاحتراف بالنسبة لى عن الآخرين فأنا محترف بمعنى أن حرفتى ومهنتى هى السينما.. من خلالها أكون ذاتى والذاتية هنا معناها رؤيتى الخاصة للعالم.
> منذ عقود ونحن نسمع عن «أزمة السينما». برأيك..أين تكمن الأزمة..من أطرافها وكيف نصل بها إلى حل؟
أزمة السينما لها أبعاد مختلفة منها البعد السياسى، وحرية الإبداع التى يواجهها الفن ليس فقط من الرقابة ولكن أيضا من المجتمع، ولكن ما يحيرنى هى الأزمة التى لا يتحدث عنها أحد بشكل كبير هى وجود نوعين من السينما سواء التجارية، أوحتى المستقلة وأحيانا يطلقون عليها سينما الشباب.
السينما التجارية موجودة و بالتأكيد لست ضدها فهى برأيى قوام السينما حتى يحدث تطور ثقافى فى المجتمع ويصبح هذا النوع التجارى غير مبتذل المهم أن يحقق النوع الثانى نجاحات فنية فى المهرجانات وأحيانا دخلا معقولا عند عرضه ولكن السؤال المهم والذى يفرض نفسه متى يصبح النوع الثانى هو السائد جماهيريا؟ عن نفسى شك فى ذلك.
وهنا أزمة السينما برأيى خاصة وأن النوع الثانى «المستقل» متأثر كثيرا بالسينما الغربية فى تناول المجتمع وتناول الموضوع وطبيعة القصة وتكنيك جذب الجمهور لموضوعك يمكن تلخيص ذلك.
فهل هم غير مهمومين أن يصلوا للناس، وهل مثلهم الأعلى أصبح مختلفا تماما عن الجمهور بمعنى أن هناك نموذجا يتتبعونه مثلا هل هو السينما الإيرانية؟ وفى ظنى أن المقارنة مع السينما الايرانية مقارنة ظالمة لأن التجربة مختلفة تماما فالسينما الإيرانية ناجحة لأن ايران لا تعرض افلاما أمريكية وبالتالى الأفلام الايرانية وحدها هى المتاحة لذلك تنجح السينما الايرانية سواء فى المهرجانات وحتى فى ايران لكنها ليست تجربة نقيس عليها
وبالطبع هناك أفلام حققت نجاحات فى المهرجانات العالمية وهى أفلام جيدة. شاهدت «أخضر يابس» وعن نفسى أنا شديد الإعجاب به ولكنى غير متصور بأن أخضر يابس «هيقف الجمهور عليه بالطوابير ولا بعد خمس سنين مثلا «وحتى لو كان هناك شركة توزيع كبيرة أو عرض فى خمسين دور عرض.
تلك قضايا لابد وأن تكون محل مناقشة، اذا اردنا الخروج من أزمات السينما بشكل حقيقى.
والخلاصة برأيى أن الأزمات التى يتم الحديث عنها ثانوية ولكن الأزمة الأساسية هى ازمة رؤية مصر أكبر دولة تقدم سينما فى المنطقة وللأسف تم تهميش كل جمهور السينما بمعنى أن شاشات العرض التجارية موجودة فى المولات وبأسعار مبالغ فيها و باتت الأغلبية تنتظر ان تشاهد الفيلم فى التلفزيون وللأسف فهو لا يوضع فى حصالة الإيرادات إلا بعد سنوات إلا لو بيع الفيلم لروتانا والقنوات المصرية تعرض افلام قديمة جدا والشاهد أن هناك شريحة عريضة لا تذهب للسينما وهذا الجمهور قد يؤثر على نوعية الأفلام وقد يجعلها بالمناسبة أكثر تجارية، وقد يكون الاختلاف بأن تتنوع الأفلام عن مدن وقرى مصر فحتى السينما الأمريكية تصنع أفلاما عن الغرب والشرق والريف والفلاحين وافلام تاريخية ونصوص أدبية وتجارية لكن احنا التاريخ عندنا «عنتر بن شداد» وهو لا علاقة له بتاريخنا،وايضا «الشيماء» وهى شخصية دينية.
فمثلا من يهاجم السبكى،السبكى منتج شاطر وأشطر منتج فى هذه الفترة وأفلام السبكى تتماشى مع الجمهور ويقبل عليها وبرافو عليه وأنا بحترمه جدا.
> وما رأيك فى اننا نواجه أزمة عدم وجود نص أصيل فأغلب الأفلام مقتبسة من أفلام اجنبية؟
لا يوجد رؤية «فالزاوية ضيفة «وبالتالى الألوان فقيرة أوى والعقل صغير أوى»، وهو ما كنت أقصده بأن وجود الجمهور سيفرض نوع سينما جديد ومخلتف لا أعرف ماهيته بالظبط لكن سيحدث تغيير، وهو ما قد يجعلها أكثر تجارية وبعد الحرب العالمية الثانية، مثلا ووجود تجار «الاورنس «كانت الأفلام أكثر ابتذالا لكن الجمهور لابد وأن يتطور فالشعب اذا أصبح منتظما فى نقابات وجمعيات وأحزاب ولهم دور فى المجتمع بمعنى أنى اكون عامل ولدى نشاط نقابى ودور سياسى ومدنى فى المجتمع وبالتالى حينما أشاهد السينما سأكون بحاجة لنوع مختلف فالتقدم لابد وأن يكون على كل المستويات لكن للأسف قضايانا لا تناقش بجدية وبشكل عميق.
> فى تاريخ السينما المصرية أفلام تجارية لكن غير مبتذلة وبها درجة عالية من المتعة وهذا لا يتوفر الآن فهل هى مشكلة مبدع أو صانع عمل؟
-فى رأى هى مشكلة دولة،لو هناك رؤية واضحة عند الدولة والقائمين على الثقافة فلابد وأن يكون هناك تصور ودعم، ولكن دعم بفلسفة معينة وليس بدون معايير واضحة، فأى نوع من السينما سيتم دعمه؟ وتساؤلاتى أيضا موجهة للمبدعين ولجيل الشباب ممن يقدمون أفلاما محترمة وبعدها اسأل الدولة ووزارة الثقافة وإن كنت غير متوقع أن يكون هناك دعم حقيقى فى المرحلة القريبة ولكن أتمنى أن تكون توقعاتى غلط.
> أفلامك كما قلت ليست بعيدة عن الجمهور،ولكن لماذا لا يطلب المنتجون داود عبد السيد؟
أقصد بالنجاح الجماهيرى لفيلمى ان يحقق ايرادات معقولة فمثلا اذا كان فيلمى يحقق 5 ملايين جنيه كإيرادات فهناك افلاما تحقق 20 مليون، لذلك من الطبيعى أن ينجذب المنتج لهذه النوعية وأنا أقدر هذا الأمر كثيرا،والحل هنا وليس خاصا بى فقط ولكن لابد وأن يكون هناك دعم من الدولة كنوع من أنواع التوجيه وأقصد هنا بالتوجيه المحتوى الفنى للأعمال أو نوع السينما المقدمة.
> المتعة جزء أصيل فى أفلامك فالمتفرج يكتشف كل مرة جديدا فى العمل والمقصود هنا الأصالة فى النص والكتابة والحالة الموجودة والمتعة الموجودة من اول العمل لآخره..داود عبد السيد «مش مخاصم الجمهور»؟
-لا أتصور أن أقدم فيلما «لكراسى فاضية «وهو ما كنت أقصده حين تكلمت عن أزمة السينما، وسأكون «عبيط» ومحتاجا بنكا يمولنى ويخسر» لأقدم أفلاما تخسر، لكن المهم فى المتعة هل هى متعة فنية متكاملة أم مجرد إلهاء ودوشة ولا تسلية،أم تغيير الوعى وخلق وعى مزيف؟ وأنا اختياراتى أن يكون هناك متعة للمتفرج مع درجة من الرقى الثقافى وهو أمر مرتبط بالتقدم والتساؤل الذى يجب أن نطرحه هنا هل «احنا ماشيين فى اتجاه التقدم ولا العكس»؟
> الممثلون فى أعمالك تؤدى الشخصيات بنفس الهدوء والحالة وكأنهم اكتسبوا جزءا من روحك،كيف يشتغل داود عبد السيد على الممثلين؟
50 % تتعلق بالاختيار ونسبة أخرى تتوقف على صياغة الدور فى السيناريو ورسم تفاصيل وتركيبة الشخصية هذا بالنسبة لى، أما مدرسة تماهى الممثل مع الشخصية فأنا لدى شكوك بها فمثلا «جورج ابيض» وهو يقدم شخصية عطيل فى مشهد خنق ديدمونة كان لابد وأن ينبه أحدا كى لا يقتلها..فلا أعترف بهذه المدرسة كما أننى لست من المخرجين الذين يهتمون بالتاريخ الخاص بالممثل اتولد فين؟ وعلاقته بأهله والجنس وكل التفاصيل الخاصة به،أو أن الممثل يقدم المشهد 25 مرة كى أحصل على اللقطة المناسبة فكلها الوان او «أوهام».
فالأمر بسيط ممثل جيد ودور مكتوب ووصف المشاعر مكتوب بشكل كاف، والمخرج عليه اختيار الممثل الجيد ويشتغل بعدها كعسكرى مرور ينور أخضر وأحمر ويعطى توجيهات ويكون مرايا للممثل،لكن فكرة أن المخرج هو مدرب للممثل فهو كلام فارغ،وفى النهاية قد أكون أنا الغلط لكنى أعبر عما يخصنى فقط.
> من هو الممثل الذى شكل مفاجأة للمخرج داود عبد السيد فى الاستوديو؟
محمود عبد العزيز فاجأنى كثيرا فى فيلم «الصعاليك» وفى مشهد واحد بالمناسبة وهو ما جعلنى اكرر التجربة معه فى «الكيت كات» والمفاجأة هى أن محمود فى هذه الفترة كان «الولد الحليوة «الجان لكنى وجدته قدم تعبيرا ليس بسيطا وفاهم الشخصية وهو مجتهد جدا.
أما نور الشريف فكان المفاجأة فى موافقته على تقديم فيلم «سيد مرزوق»، وفى فيلم «مواطن ومخبر وحرامى» المفاجأة كانت صلاح عبد الله بدور المخبر فاجأنى بأدائه وأيضا شعبان عبد الرحيم شكل اختياره مفاجأة كبيرة.
وهند صبرى كانت مفاجأة هايلة وهى فنانة شديدة الموهبة وشديدة الثقافة ورأيى أنها معجونة بمية عفاريت.
آسر ياسين فى رسائل بحر كنت أشعر بشكوك ومخاوف لكن بعد أن شاهدت الفيلم بعد تجميعه فاجأنى بتقديمه للشخصية بدون أن تفلت منه فى أى مشهد.
أما بسمة فكنت مرعوبا منها خصوصا واننى كنت اسميها «كابتن بسمة» على اعتبار أنها كانت رئيس فريق «الفولى» الكرة الطائرة، وهى بنت رياضية «سبور» لكن فكرة الأنوثة كانت تقلقنى ولكنها مفاجأة لى..فى رسائل البحر.
وأيضا أحمد كمال فى «الكيت كات»، وعلى حسنين كان مفاجأة لأننى كنت أبحث عن ممثل مثله فى «البحث عن سيد مرزوق» ونجاح الموجى فى «الكيت كات» وحسن حسنى ولوسى وحنان ترك فى «سارق الفرح».
(وأضاف داود) المفاجأة احيانا تكون من خلال مشهد كأنك تختبر عمق البير أو المحيط والمشهد هنا هو العمق فهناك من ينزل الحبل بعد متر ونصف وهناك الأعمق على حسب الموهبة.
> هل هناك مشاريع جديدة،وهل نرى «يحيى» بطل داود عبد السيد قريبا؟
بداخلى أكثر من فكرة لكن للأسف احنا بنفكر وراء السور،سواء سجن الرقابة والجمهور والسوق والجهل لكنى لدى بالفعل أكثر من فكرة وبدأت الشغل عليها ولا اعلم إن كنت سأنجح فى كتابتها ام لا ولكنى اتمنى لأن الأمر كالولادة لو لم يخرج للنور يكون صعبا.
رابط دائم: