وافق التاسع من شهر سبتمر الحالى الذكرى الثامنة والعشرين على رحيل لويس عوض (1915 1990). وعلى الرغم من العطاء الخصب الذى قدمه كناقد وشاعر ومترجم من أرفع طراز، كتب القصة والرواية والمذكرات والسيرة، فلم يلتفت أحد فى هذه الذكرى لهذا العطاء المتنوع الذى قدمه فى نحو خمسين كتابا تخطى الفكر والابداع المصرى فى العصر الحديث، كما تقف بتمكن على الحضارات الفرعونية واليونانية والعربية وعصر النهضة الأوروبية، والآداب الغربية فى العقود الأخيرة، لا يستطيع المؤرخ لتاريخنا الثقافى أن يتجاهل أو يقلل من قيمة كتاب واحد منها.
وتعد كتابات لويس عوض عن هوميروس وشيكسبير ودانتى وميلتون، والحقب التى عاشوا فيها، من أنضج هذه الكتابات.
وتتضمن الأعداد الأولى من جريدة «الجمهورية» التى صدرت فى ديسمبر 1953 حوارا عقده لويس عوض مع طه حسين عن محنة الأدب، أكد فيه عميد الأدب العربى أن هذه المحنة تتمثل فى توقف المجلات الثقافية، وضعف ما يصدر من انتاج لايعنى بالجانب الفنى أو الموضوعات، وانما يهبط بالأسلوب الى مستوى عامة القراء، بدلا من أن يرتفع بهم، بينما يرى لويس عوض ان هذه المحنة ترجع الى التحولات الجذرية التى تجرى على المجتمع بثورة يوليو 1952، ويقصد بها تصدع التقاليد المتوارثة، والظمأ الى المعرفة، وبزوغ الجديد الذى تنهض عليه الدولة العصرية المتحررة من قيود الماضى.
ومن الواضح أن رؤية لويس عوض كانت أكثر صوابا لأن التقاليد التى تصدعت بفعل الثورة صحبها تسلط النظام لتأمين نفسه، وإن لم يمنع هذا التسلط طاقات الابداع من الظهور فى الخمسينيات والستينيات، واستفادة الثورة منها فى تدعيم أركانها، ونشر ألويتها، وفق توجهاتها السياسية.
ونقد لويس عوض يتغلغل فى أعماق النص لكى يستخلص منه ومن روحه وجوهره ما يصعب على غيره استخلاصه، بفضل ثقافته العريضة المتفتحة التى تضرب بقوة فى الآداب والثقافات المختلفة، وتقوم على عقد المقارنات بين الأعمال الفنية، وبين الظواهر الكلية، وبيان مواطن الأخذ والعطاء والترابط والتطور بينها.ولاشك أن دراساته العليا فى انجلترا وأمريكا، ورحلاته الصحفية إلى الشرق والغرب للكتابة عن حركاتها الأدبية والفنية، قد مكنتاه من إعداد هذه الدراسات المقارنة العديدة، التى تتميز بالعمق، سواء دراساته النظرية فى الجامعة، قبل فصله منها فى 1954، أو فى مقالاته التطبيقية خارجها، التى لم تكن تقل فى تأثيرها العام عن دراساته للطلاب.
ويتضح للقراء من هذه الرحلات أن مصر لم تكن تجهل فقط ما يدور فى أوروبا من أحداث ثقافية فى مراكزها العالمية، بل كانت تجهل أيضا الأحداث الثقافية فى الأقطار العربية الشقيقة كبيروت وغيرها، التى كان لويس عوض يزورها فى أسفاره، ويقضى فيها أياما مع أدبائها وأصدقائه من أساتذه الجامعة.
ولويس عوض فى التقييم النهائى مفكر وباحث موسوعى، ينتمى الى اليسار بعيدا عن أى تنظيم، دون أن يتنازل عن الليبرالية أو الديمقراطية القائمة على حرية الرأى والتعبير، ورفض مدرسة الفن للفن ايمانا منه بأنها، على مائدة الفنون، مدرسة عقيمة لا تحمل رسالة أو تؤدى وظيفة، لا للفرد أو للمجتمع، تحقق تقدما للحياة.
وعن الابداع يعلى لويس عوض من قيمة الموضوع فى علاقته بالبيئة، دون أن يغض من قيم الفن والجمال، التى تسربل العمل الأدبى بغلالة من الغموض، لأن الوضوح أو السفور فى تقديره نقص فى درجة الابداع.
ولكنه اذا صادف من يستهين بهذه القيم السامية، مثل وصف أساطير اليونان بأنها أدب عفاريت، ووصف الأدب العربى القديم بأنه أدب تقعر، تصدى له، وكشف جهله، دفاعا عن أثمن ما فى التراث الانسانى، لأن التقعر شيمة المحدثين الذين لا يملكون فطرة القدماء ولا صدق مشاعرهم.
أما الأساطير فهى التعبير والخيال والرمز عن حقائق الوجود.
آزر شعر التفعيلة الحر، كما لم يؤازره ناقد آخر، وكتب عن أعلامه الذين استجابوا للحساسية الجديدة وطرحوا وحدة القصيدة محل وحدة المقطع أو وحدة البيت والقافية فى شعر الرومانسيين والكلاسيكيين.
ولم يتحرج من تشبيه المعادين لهذا الشعر، الذين يصادرون حق الآخرين فى الاختلاف، وحق التطور، وادعوا انه يتعارض مع الدين، شبههم بمحاكم التفتيش التى تنشر الإرهاب. وكانت له الكلمة الفصل فى المسرح التجريبى أو الطليعى، وهو غير مسرح العبث واللا معقول، نتيجة تمسكه بالكلاسيكيات كنصوص أدبية جادة وخالدة، وليست كعروض فنية، ورفض ما يعرف بالتأليف الفورى المرتجل، الذى يشترك فيه الجمهور، لأنه بلا قواعد، ودعا للكتابة بالعامية جنبا الى جنب الكتابة المتقنة بالفصحى التى تسلم من الوصف والإنشاء، ولا تضحى بالمعنى.
وكانت احاطته واهتمامه بالفنون والفنانين التشكيليين بأجيالهم المختلفة مساويا مع احاطته واهتمامه بالأدب والأدباء.
غير أنه لم يكن مع القومية العربية التى اعتبرها دعوة عنصرية أو عرقية، تفتقد المقومات الإنسانية المادية والروحية.
كما كان ضد الانتاج المحلى أو الاقليمى الذى لا يندمج فى المحيط الانسانى.
وكتب لويس عوض أكثر الكتب العربية توزيعا، وإثارة للجدل، وأسرعها نفادا بعد فترة قصيرة من طرحها.
وكان من عادته أن يتيح لبعض المثقفين والكتاب المقربين منه الاطلاع على أعماله المخطوطة، قبل أن يدفع بها للنشر، استطلاعا لرأيهم، ولو أنه لم يكن يأخذ بهذه الآراء اذا خالفت معتقداته ومنهجه، وإلا لما قدر للثقافة العربية بالتالى أن تتجدد بهذا الشكل فى شعرها ونثرها ولغتها ونزعتها الثورية.
وليس بمقدور من يكتب عن لويس عوض أن يغفل ما تعرض له من هجوم وتشهير وأحيانا من سخرية وتهكم تتجاوز كل الحدود.وهذا غير الفصل والمصادرة. وقد دافع عن مؤلفاته دفاعا يدحض ما أخذ عليه، واصفا خصومه من غلاة اليمين واليسار بالشدة، معترفا فى الوقت نفسه بأنه انتفع ببعض ما ورد فى كتاباتهم، وطلب منهم ومن عامة القراء التماس العذر له عن أخطائه،لأنها ليست متعمدة، مما توصد دونها الأبواب، فهى من نبع الاجتهاد، وعلينا أن نقف دائما باحترام أمام كل اجتهاد.
وبذلك احتفظ لويس عوض بالتقدير الذى ظل يحظى به فى الأوساط العلمية والمثقفة والعامة، وهو ما يحفظ اسمه فى تاريخنا وفى تاريخ التنوير، لا يقوى أحد على ملء مكانه الشاغر.
رابط دائم: