ترجع أهمية د. زكى محمود إلى أنه دافع فى كل كتبه عن التفكيرالعقلانى وعن الفلسفة المادية (رغم أنه غير ماركسى) بمراعاة أنّ أى مجتمع إنسانى تحكمه (قوانين وضعية) بمعنى القوانين التى يتــّـفق أبناء الوطن على صياغتها لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين..ومن هنا كان تركيزه على (دولة المؤسسات) و(دولة القانون) وكل ذلك فى إطار(علمنة مؤسسات الدولة) وأتذكــرأنّ أول كتاب قرأته له فى الخمسينيات كان كتابه (خرافة الميتافيزيقا)
...................................................................
ونظرًا لأنه انتقد المغالاة فى التدين، المغالاة التى أنتجتْ جماعات الأصولية الإسلامية، لذلك- كما ذكر فى كتابه (مجتمع جديد أوالكارثة) أنّ مجلة (مصرية) خصّـصتْ أربع صفحات كلها ((سهام مسمومة ضده)) وأنّ كاتب المقال من الذين ((يحلو لهم قذف الناس بحجارة الكفر والإلحاد)) (ص259) وذكرأنه قرأ مقالا فى مجلة عربية (واسعة الانتشار) ناقش فيها كاتبها (قضية) ظنّ أنها تستحق البحث (هل يجوز للمسلم العمل بالزراعة أم لا؟) وعن أمثال هذا الكاتب فإنّ الشاعرالمعرى كتب: إنّ أهل الأرض أحد رجليْن..فإما أنْ يكون الرجل ذا عقل فلا يكون له دين..وإما أنْ يكون ذا دين فلا يكون له عقل (من ص19- 26) وذكرد.محمود أنّ مصرلاتحتاج لخلفاء أو أمراء، إننا نريد ((دولة يقظة لقيمة علمائها وأدبائها)).
وقال أنه قرأ كتابـًـا (عن العلاقة بين الإسلام والعلم) لكاتب يدّعى أنه (من العلماء) وعنوان الكتاب (الأرض لاتدور) وأهداه إلى ((الرئيس المؤمن محمد أنورالسادات..راعى العلماء..ورافع شعار دولة العلم والإيمان. أهدى نظريتى العلمية)) وكان تعقيب د.محمود: لوكانت هذه الكارثة خاصة بفرد أومجموعة أفراد لهان الأمر..ولكن الكارثة أنها ((علامة على مرض يستفحل فى أجزاء كثيرة من الوطن العربى)) وذكر له صديق عمل مدرسًـا فى دولة عربية أنه من الممنوعات الرسمية ذكر(دوران الأرض) فى مقرر الجغرافيا، لأنّ هذا ضد الدين (ص117، 128)
وقال إنه شهد بعينيه كيف تبادل الكبار من مثقفينا (علماء وأدباء) الأحاديث فيما بينهم ((عن أشباح تصعد إلى السماء..وأشباح تهبط إلى الأرض)) فكان تعقيبه أنه إذا كانت الفجوة بيننا وبين أوروبا فى العلم وتطبيقاته التكنولوجية..فإنّ الفجوة أبشع وأخطر عندما يختلط العلم بالخرافات (ص152، 153) وذكرأنّ د.مصطفى كمال حلمى (وزيرالتعليم) طلب منه الاشتراك فى كتابة مقررالفلسفة للمرحلة الثانوية (علمى وأدبي) بهدف تأصيل (منطق التفكيرالعلمى) وبكل أسف فإنّ (هذا الحلم) لم يتحقق. وعن علاقة المفكرين والعلماء والمبدعين بالسلطة، ذكر أنّ رئيس قسم بجامعة القاهرة حـدّثه تليفونيـًـا وطلب منه الحضورإلى مكتبه..ولما ذهب قال له: إنه ((مُـكلف بأنْ يأخذ منى بيانــًـا بكل ما أملك من مال وأشياء..وعن المال فقد أحلته على البنك الذى أتعامل معه..ولم أفهم المقصود بالأشياء فقال الرجل: بيان بقطع الأثاث والأجهزة الكهربائية..مثل المراوح والمكواة والثلاجة والغسالة..وكم غرفة فى المنزل ومحتوياتها..ذكرتُ ما أراد ولم أجرؤ حتى على سؤاله: من أنت؟ ومن الذى كلفك بهذه المهمة؟ وما مغزى الاهتمام بهذه المعلومات..وعندما خرجتُ من مكتبه ومشيت فى الشارع ملأنى الشعور بالخزى والعار(ص190)، وعن التناقض بين مظاهرالتدين والسلوك الذى (يشمل الكذب والسرقة والاختلاس والرشوة..إلخ) ذكر واقعة نشرتها بعض الصحف ((عن طالبة محجبة، وضعت أمامها المصحف..ورغم ذلك ضبطها الملاحظون متلبسة بالغش)) فكان تعقيبه: أنه لاكتاب الله الذى تبرّكتْ به ردعها..ولاحجابها هو العنوان للإيمان..ولم يكن هذا المشهد حالة فريدة..وإنما الازدواج فى معاييرالأخلاق على هذا النحو الشاذ، يكاد يكون هوالقاعدة السارية فى حياتنا (ص267)
وتطرق إلى مقال قرأه فى صحيفة بريطانية أحدث فى نفسه مزيجـًـا من الدهشة والتفكير..وكان عنوان المقال (استفتاء عالمى عن الله والمال والسعادة) قام به (معهد جالوب) الشهير..وأجراه على عشرة آلاف إنسان (من جنسيات مختلفة) وتـمّ تجميع نتائجه فى ثمانية عشرمجلدًا..وكان من أهم نتائجه تلك الفروق العميقة بين دول تقـدّمتْ وأخرى تخلــّـفتْ (والسبب هوأنّ الأولى أخذتْ بالعلم والثانية لم تهتم به) ووصل تواضع د.زكى نجيب محمود لدرجة اعترافه بأنّ عنوان كتابه ليس من اختياره..ولكنه عنوان كتاب يشتمل على بحث علمى، اضطلع فيه فريق من الباحثين..مستهدفين به وضع الأساس النظرى، الذى يمكن أنْ يـُـقام عليه مجتمع جديد فى أمريكا اللاتينية..وأضاف د.محمود أنّ تقدم الشعوب والأنظمة الحاكمة، يعتمد على مفهوم التقدم..وأنّ معيارالتقدم هوالعلم التقنى (التكنولوجي) ودرجة التصنيع (ص233، 234)
وعن كارثة مناهج التعليم ذكرالرسالة التى بعث بها طالب إلى الأديب توفيق الحكيم..وحكى فيها عن سعادته عندما قرّرتْ وزارة التعليم تدريس كتاب (عصفورمن الشرق) ولأنّ هذا الطالب من محبى الأدب والأديب الكبير توفيق الحكيم بشكل خاص، لذلك قارن كتاب الوزارة بالنص الأصلى..فاكتشف أنّ الوزارة ألغتْ الصفحات التى لاتــُـعجبها..وأبقتْ على الصفحات التى جاءتْ على (هوي) واضعى الكتاب..وذكر هذا الطالب أنّ من بين الصفحات المحذوفة، الصفحات التى ركــّـز فيها الحكيم على ((حديث القلب والجسم)) وكأنّ هذا الحديث (عورة)
وعن كارثة الفكرالأحادى ذكر أنّ المسلمين الأوائل اختلفوا فى الرأى حول الموضوعات التى طــُـرحت عليهم..واختلفوا فى الفقه وانقسموا إلى مذاهب. واختلفوا فى حرية الإرادة وجبرها..واختلفوا فى عقوبة المذنب: أتكون على الأرض أم نــُـرجئ الحساب ليوم الحساب؟ واختلفوا فى السياسة بين شيعة وخوارج.. واختلفوا فى تصورهم لحقيقة الله عزوجل..فكان منهم المُـشبـّه وغيرالمُشبّه..وبالرغم من هذه الاختلافات بين المسلمين الأوائل..فإنّ لهم فضل التعدد من خلال الاجتهاد..وذلك عكس الإسلاميين فى عصرنا، المُـتمسكين بالفكرأحادى الجانب (ص331)
رابط دائم: