عندما فكرت فى استضافة ضيف كبير ومهم لأبدأ به برنامجى « شاهد على العصر» نهاية عام 1982، كان أول اسم تبادر إلى ذهنى المفكر والفيلسوف الكبير الدكتور زكى نجيب محمود، هكذا تحدث الإعلامى عمر بطيشة عن هذا الحوار مضيفا، جمعت مادة ثرية عنه من خلال كتبه، وأفكاره، وحواراته الصحفية، واتصلت به وشرحت له فكرة البرنامج، وسعد بها جدا ووافق على التسجيل، ويومها قال لى: «هذه مسئولية كبيرة تضعها على أكتافى أن أكون شاهدا على عصرى » وكانت من أعمق الحلقات التى سجلتها على مدى تاريخ البرنامج، فهو مفكر شجاع لا يخفى آراءه، ولا يتجمل أو يزوق ما يقوله، يلتزم الصراحة والحق والوضوح، وكانت أفكاره صادمة لتيار الإسلام السياسى، الذى كان موجودا بقوة بعد اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
وأذيعت أول حلقة فى أول يناير عام 1983 وأطلقت عليه راهب الفكر، ولم أقل الفيلسوف، وكانت الحلقة بمثابة القنبلة المدوية فى الوسط الإعلامى والسياسى وحققت فور إذاعتها جدلا واسعا وانتشارا كبيرا، وكانت خير افتتاحية لبرنامجى، ومن خلالها عرف الناس فى مصر بوجود برنامج اسمه «شاهد على العصر».. وعلى مدى ثلاث ساعات هى مدة الحوار لم يبد الدكتور زكى نجيب محمود أى امتعاض أو ضيق، بل كان هادئا وراقيا وودودا.. وإليكم نص حوار «شاهد على العصر»..
................................................
عبور الحدود إلى عالم هذا الرجل أشبه بتسلق قمم الجبال، جهد وعرق ومشقة من أجل نتيجة مجزية: نظرة من فوق إلى شمولية المنظر عند السفح. إن مجتمعنا يموج بعشرات الظواهر السياسية والثقافية والدينية.. وما أحوجنا لكل طاقة نور من كل عقل يفكر، لنرى أين نحن..؟ وإلى أين؟ إنه الفيلسوف كما يسميه تلاميذه، والأستاذ كما يلقبه الأكاديميون، والناقد المتخصص كما يناديه الأدباء، ورائد مدرسة الوضعية المنطقية فى مصر، كما تصنفه مؤلفاته، وراهب الفكر كما تطلق عليه الصحافة وهو أيضا شاهد على العصر، فى لقائنا اليوم الذى يحلل فيه القضايا، ويرصد الظواهر، ويسجل المواقف.
وقبل أن يسمع منى سؤالى الأول طلب التعقيب على هذه المقدمة، قال: أقولها بغير تواضع.. إننى لست فيلسوفا ولا أظن أن الوطن العربى بأسره فيه فيلسوف واحد، بل إن العالم كله لو اشتمل اليوم على فيلسوفين أو ثلاثة كان ذلك خيرا وبركة.
> فيلسوف وفلسفة كلمتان تخيفان البعض، بينما يسىء البعض الآخر فهمهما، فنبدأ أولا بوضع أيدينا على معنى الفلسفة وأنها ليست نظريات مجردة وإنما هى فكر خلاق من أجل الحياة وما بعد الحياة؟
لكل عصر قضاياه التى تطرح فى المناخ الفكرى، فيحاول كل من يستطيع محاورتها من زاويته، المفكر، الفنان، الأديب وهلم جرا، وعصرنا، وكذلك أى عصر، رغم التفرق والتشتت الذى يبدو على السطح، فيبدو الفكر من ناحية والأدب فى ناحية، والفن فى ناحية ثالثة، قد يبدو على السطح أن عالم الفكر وحده مفرق بين عدة زوايا أمام النظر، ولكن فى حقيقة الأمر يستحيل أن يكون هناك عصر يستحق أن يسمى عصرا إلا إذا كانت هنالك عند الجذور مبدأ أو مبادئ كبرى تضم العصر كله بكل أشتاته ومتفرقاته.
الذى يحفر الأرض الفكرية ليستخرج منها تلك الجذور المشتركة التى نبتت شجرة العصر هو الفيلسوف، انه يبدأ منطقيا من المتفرقات الفكرية والفنية والاجتماعية التى تحيط به فى عصره، ثم يصعد أو يهبط ليستقطب هذه المتفرقات فى الأم الواحدة التى تضمها، فإذا وصل إلى مبدأ يفترضه هو أنه يتمثل فيه المبدأ أو الأم ويرى أن فيه الينبوع الذى تفرعت منه فروع الشجرة بشتى أنواع الوجود والفكر والإنسان والأخلاق والجماليات والسياسة، فهذا هو الفيلسوف إنه يضع أبصارنا على نقطة واحدة نستطيع جميعا أن نراها، فنزداد فهما لعصرنا هذه هى الفلسفة وهذا هو الفيلسوف.
> بداية وبناء على هذا التعريف الدقيق هل لعصرنا سمات مميزة تصنفه كعصر بين العصور؟
نعم بغير شك وبما أن حضارة هذا العصر هى من صنع الغرب، ونحن وغيرنا ننقل عن الغرب حضارته وثمار وآثار هذه الحضارة ونهتدى بها، سواء رضينا أم كرهنا، لذلك كان الفلاسفة فى الغرب لأن الفكر فكرهم، وفلسفة الغرب التى ننقلها وندرسها، يمكن التبسيط والقول إنها تنقسم إلى أربعة اتجاهات بحسب التقسيم الجغرافى للعالم، ففى الشمال الغربى من أوروبا يأخذون بتحليل الفكر العلمى لاستخراج البنية العلمية والأساس المنطقى الذى تقوم عليه علوم العصور، فيحللون قضايا العلم للوصول إلى القضايا الأولية فى العلم.
وفى أمريكا تسود الفلسفة البراجماتية وهى تعنى أن المعيار الحق للتفرقة بين ما هو صحيح وباطل فى الفكرة هو النتائج، كل فكرة تضيف جديدا للدنيا وفائدة بشكل ما فهى فكرة صحيحة، هى فلسفة عملية تتفق مع عصرهم فى أمريكا، هذا يختلف مع ما كان سائدا من قبل حين كان المعيار هو الارتداد إلى أصول ماضية أقيس عليها الفكرة لأقيمها، فى أمريكا يقولون لا ترتد إلى الماضى، بل انظر إلى المستقبل بحثا عن المعيار والنتائج التى تتولد عن هذه الفكرة.
أما المدرسة الثالثة فتسود غرب أوروبا وهى الوجودية وأساسها حرية الإنسان الفرد، بمعنى أنه يصنع نفسه بقرارته وإرادته الحرة، فبقدر ما هو مؤلف قراراته وصاحبها بقدر ماهو حر، وبقدر ماهو انسان على الاطلاق، هذه المدرسة رد فعل للعالم الصناعى الذى يسود هذا الزمن، حيث يفقد الانسان ذاته أمام الآلات ولا يستطيع إلا أن يراقب ويقوم بدور ضئيل متكرر لا يحيط بالبداية والنهاية للعمل ككل، فجاءت الوجودية تتيح للانسان مجال خلق الذات بالقرارات الخاصة، وقد أثرت هذه المدرسة على الفن مثلا، فنجد أن اللوحة فى يد الفنان لا يسأل عن انطباقها على أى واقع وانما فقط على ما فيها من تكوين وتركيب والوان وخطوط، فاستقل الفنان بنفسه عن أى شيئ يملى عليه كيف تكون لوحته، وهذا أيضا انتشال للفردية الانسانية من الغرق فى العصر الصناعى.
الاتجاه الرابع هو المادية الجدلية التى تتركز فى شرق أوروبا وهى تقول باختصار إن التاريخ هو عبارة عن انعكاس للنظام الاقتصادى السائد، هذه المدارس الفلسفية الأربع، على اختلافها الشديد كما تبدو، تتفق مع أم واحدة مشتركة هى أن المهم هو الانسان فى هذا العالم، كيف يعيش وكيف ينبغى أن يعيش، وليس مهما اطلاقا البحث فيما وراء هذا العالم بل كل ما يعنينا هو الانسان هنا والآن.
وما ندرسه فى أقسام الفلسفة بجامعاتنا هو الفلسفة الغربية، بالإضافة إلى الفلسفة الإسلامية التى كانت، فقد تألقت هذه الفلسفة حين كانت الحضارة مصدرها المسلمون، ولكن نحن مع نقلنا للفلسفة أضفنا لها ما يسمى بالفكر الدينى نحن متدينون بحكم عقيدتنا أعمق تدين شاهدته الدنيا حتى الآن، وهنا على سبيل اليقين وليس على سبيل المبالغة لأن مصر عاشت على الأقل ستة آلاف سنة حضارات محورها الدين، فهذه الفترة الطويلة فى أحضان العقيدة الدينية لابد أن تترك طبقات جيولوجية فى ثقافة الإنسان المصرى، فالمصرى وديع مهذب وفيه عذوبة تميزه عن كل إخوانه العرب فيما أعتقد لأن الدين يرقق الطبع، اجتاز الإنسان المصرى أربع حضارات هى الفرعونية، واليونانية، والمسيحية, والاسلامية، وهو يخوض الآن الحضارة الخامسة التى هى حضارة الغرب، وهنا تأتى المحاولة لإضافة الجناح الدينى إلى الفلسفات السائدة فى هذا العصر.
> وماذا لو دخلنا مجال تطبيق هذه الفلسفات وحاولنا أن نرصد آثارها فى حياة العصر ماذا نجد؟
تحليل العلم يقدم معيارا للصدق فى الوضعية المنطقية أو التجريبية العلمية وهى ما أخذت بها أنا، لأنى وجدت أنها ما ينقص مجتمعنا العربى، لأننى وجدت أننا نقول كلاما فى أغلب المواقف، ولسنا على استعداد لإثبات انه صحيح، حيث تجرفنا الرغبة فى رنين اللفظ وجرسه، فنراعى هذا الصقل اللفظى قبل أن نراعى وجود معنى علمى أم لا حتى فى مجالات العلم، أيضا الوجودية بمعناها الحقيقى الذى يعنى أن الإنسان حر ومسئول فى نفس الوقت عن قراره هى شيء من صميم الفكر الإسلامى، فالإنسان فى الإسلام مسئول عما يفعل أمام الله عز وجل، أما المدرسة المادية التى تعنى بالقاعدة الصناعية رغم مبالغتها فإنها تفسح الطريق أمام التطوير، مثلا تطوير الزراعة والفلاح بالميكنة الزراعية يخلق إنسانا آخر على مدى للزمن فيه ضبط الزمن وللآلة هكذا.. هذه الفلسفات هى فى واقع الأمر تنظيم لطريقة التفكير، غاية ما فى الأمر أنها تبتعد وتقترب من الواقع أحيانا.
> ماذا عن الحركة الثقافية فى مصر؟
الواقع أن أهم ما يلاحظ أن هناك ظاهرة واضحة فى مصر أكثر من أى شعب آخر، اذا تتبعنا المسار بنظرة طائر منذ القرن الثامن عشر وقبل الحملة الفرنسية التى فتحت الباب على حضارة اوروبا كان العلماء فى الأزهر متجانسين مع الشعب، لم يكن الشعب بدناً والعلماء رأساً منفصلا، كانوا متصلين بقوة، ولكن بعد وصول وانتشار الثقافة الأوروبية الجديدة، خصوصا فى أواخر القرن الماضى وجدنا انفسنا أمام فئة أو جماعة المثقفين المنفصلة عن بقية الشعب والمنشغلة بقضايا أدبية وفلسفية وفنية بعيدة عن واقع الناس وقضاياهم الحقيقية، فقد كانت قضيتهم أشبه بالكرة بين أقدام اللاعبين فقط، أما الشعب فلم يكن يشارك، ولذلك لم يكن هؤلاء المثقفون إلا أقل الأثر فى كتلة الشعب، لأنهم كانوا يكتبون والشعب لا يقرأ بسبب الأمية وغيرها من الأسباب، هكذا أصبحنا أمام ظاهرة انسلاخية عجيبة استمرت الى ثورة 1952 حيث حدث أمر أعجب، وهو أنه الى ان حدثت الثورة كانت قلى المثقفين أو الرأس تحاول ان ترفع الشعب اليها، وكانت تنجح من حين الى حين، مثلا فى الجانب السياسى وأيضا فى الجانب الاجتماعى مثل حرية المرأة أو العناية بالصحة أو بالطفولة، أما بعد ثورة 52 وبالذات فى العشرين عاما الأخيرة انعكس الوضع، مازالت الفجوة قائمة بين الرأس والجسم والبدن، ولكن أصبح البدن هو الذى يريد أن يشد الرأس الى أسفل.
> كيف نشأ التطرف الدينى.. ولماذا نشأ؟
لأن هناك مناخا جديدا نشأ، المتطرفون ليسوا من الفلاحين أو العمال، وانما هم من المثقفين، بعضهم طلاب وبعضهم أساتذة بدلا من أن يكونوا أجنحة لمعسكر جماعة المثقفين أصبحوا أجنحة للكتلة التى تنظر الى الماضى لا ليكون عدة سلاح لبناء مستقبل جديد على أساس الثقافة الجديدة، وانما ليكون الماضى فقط، وهذا هو الفرق الكبير الذى يقتضى التعديل السريع بحيث لا ننسى أبدا الجانبين، اضمن لى أن الرؤية فى الماضى إنما هى للحفز إلى مستقبل جديد يأخذ فى حسابه العصر الذى نعيشه وأنا أرحب، ولو نظرنا فى تاريخ الإسلام فى أوله، على الأقل فى القرون الأربعة الأولى حيث الإيجابية والإبداع فى كل النواحى، الإيمان القوى يجعلهم يقيمون عدة علوم على أساس هذا الإيمان القوى دراسة اللغة العربية دراسة لا نظير لها على أيدى الخليل بن أحمد وسيبويه وغيرهما، وذلك لكى يفهموا القرآن فهما صحيحا، كما نشأ الفقهاء الذين أستطيع القول عنهم واثقا أنهم احسن تطبيق عملى للمنطق العقلى الذى ننادى به، كانوا يطبقون المنطق فى استخراج الاحكام من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، هذه حركة فكرية لبها ومحورها الإيمان، ولكن ترمى إلى أمام ومستقبل للأمة الإسلامية.
> ماذا عن دور وسائل الاتصال الجماهيرى وأثرها؟
انها بحكم طبيعتها تخاطب جماهير، وطريقة العرض تقتضى منها أمرين أولا أن تبسط المادة المعروضة، لأنها تخاطب جماهير، وثانيا لابد أن تجزئ هذه المادة فى أحاديث وبرامج مددها متفاوتة خمس أو عشر دقائق أو نصف ساعة، وهكذا حسب طول البرنامج، فماذا تكون الحصيلة النهائية عند المتلقي؟ مادة مبسطة ومجزئة! فاذا ربيت مواطنا على هذه المصادر وحدها، فسأجد المحصول فى رأسه عبارة عن فتافيت، قد تكون كل جزئية على حدة لا بأس بها، ولكن المثقف هو صاحب الرؤية وصاحب وجهة النظر، وهذا هو ما نستهدفه، أما هذه الفتافيت فلا تؤدى الى وجهة نظر أو رؤية موحدة، ولذلك فانى أقول دائما انه لابد من الكتاب، لأن الكتاب موضوع متصل، لذا يجب اضافته الى وسائل الاعلام الجماهيرى وجمعه معها.
ولست أنادى بسلاسل شعبية وكتب رخيصة الثمن، وانما أريد هرما ثقافيا فيه درجة لكل درجات الثقافة، واختلف مع المسئولين فى تصريحاتهم عن ثقافة الجماهير - أهلا وسهلا بثقافة الجماهير -ولكن من الذى ينتج ثقافة الجماهير إلا أن يكون مثقفا فوق الجماهير.
> ما نظرتك الى الشارع المصرى؟
لقد خرج الإنسان المصرى عن طبيعته بشكل أرجو أن يكون مؤقتا, فالانسان المصرى كان فى طبيعته دائما يراعى الآخرين، وحين يتصرف فانه يتصرف والآخرون فى اعتباره.. وكان يصعب جدا على الانسان المصرى ان يدوس على طرف الآخرين مثل الجار أو الزميل فى العمل أو شريك السوق وما الى ذلك.. ولكن فى السنوات الأخيرة يلاحظ بوضوح شديد أن الاحساس بالآخرين كاد ينعدم..! فيتصرف الفرد فى حياته كما لو كان وحده فى هذا العالم..!
> لماذا حدث هذا؟
السبب هو تكاثر الأمثلة أخيرا فى حياتنا التى يصل فيها الانسان الى منصب كبير أو مال كثير ونفوذ بغير جهد، كان المألوف أن يقطع الانسان حياته بالعمل منذ تخرجه أو التحاقه بالعمل، فيقضى فترة حتى يصل الى المال أو النفوذ ولكن جاءت فترة مكنت الصغير من الوثوب من أدنى إلى أعلى طائرا فوق الدرجات الوسطى بهليكوبتر، هذه الدرجات الوسطى يشغلها آخرون صاعدون وكتب عليهم أن يصعدوا الدرجات متوالية، فينظروا ويجدوا هذا الطائر الهليكوبتر يقفز فوق رءوسهم، وفى غمضة عين يصبح هو الرئيس والمسئول، وصاحب النفوذ والمال والقوة فى المجتمع، وعليهم أن يطيعوا وأن يتبعوا أو على الأقل أن يكونوا صغارا بالنسبة إليه فهل يمكن الا أن يسأل السائل كيف وصل هؤلاء؟! لقد وصلوا اذن بشطارة أخرى غير العمل والمكابدة, انما يطير فوق العقبات بمعونة أصحاب النفوذ - و سادت القيمة الجديدة - وهى أن أحصل على أكثر ما يمكن بأقل جهد ممكن، وهكذا بالتدريج فقدنا الحس بالآخرين، وكان لذلك ما كان من نتائج مما نسميه الآن اللامبالاة والتسيب والانحرافات والفساد هكذا، ومع ذلك فانى أعتقد انها ظاهرة مؤقتة, لأن التاريخ أمام ووراء الانسان المصرى طويل, وهذه الظاهرة كالمرض الطارئ الذى سرعان ما يزول.
من ناحية أخرى يجب ألا نغفل هؤلاء الآلاف من المصريين المتوارين هنا وهناك فى ساحة الحياة العامة، فى غاية الاخلاص والدأب، والكد والجدية والجهد، ولا أحد يدرى شيئا عنهم، وهم كالجنود المجهولين.. الجسم الشعبى المصرى بخير.. الفلاح لا يعرف هذه اللامبالاة.. فالانسان المصرى الأصيل قائم بقيمه... وقد كتبت مرة لصديق مصرى كان يعمل فى بلد عربى ثم جاء ساخطا على الحالة فى مصر.. وقلت له: يا أخى... مصر هى أنت.. انك سافرت الى هذا البلد العربى وأنت لتحمل فى حقائبك مصر.. وما أعطتك مصر من علم، حقيبتك كانت « مليانة» مصر! يا صديقى... مصر هى أنت، تذكر هذا فى كل لحظة من لحظات حياتك، واذا كان هناك نقد توجهه لمصر فابدأ بنفسك!
> رأيك فى مبدأ أهل الثقة والولاء؟
هذه الظاهرة تسببت فيها أيضا أسباب معقدة، من بينها أنه بعد ثورة 1952 ساد مبدأ أهل الثقة والولاء على حساب أهل الكفاءة والخبرة والتخصص، فأصبح كل رؤساء الأعمال من فئة أصحاب الولاء، فوضعنا الخيوط فى أيدى من لهم ولاء وليست لهم دراية، فأخذت المرارة نفوس من يعملون تحت رئاستهم من ناحيتين.. أولا من أن الصغير يحكم فى غير ميدانه، وثانيا لأنهم هم أصحاب الميدان والخبرة ولم يصلوا الى مراكز القيادة فى هذا الميدان، وقد ترتب على ذلك انفصال بين المسئولية والأمر..، فصاحب الأمر ليس هو المسئول! فلا يحاسب صاحب الأمر على الخطأ اذا وقع، وانما يحاسب الذين نفذوا أمره!!
> «العزلة» موقف فلسفى أم عزلة جغرافية؟
والله لا هذا ولا ذاك..! لقد تعودت منذ طفولتى على الانطواء.. وهذا واضح من كتابى « قصة نفس»، تعودت على الانطواء، ولم اخرج إلا للعمل الى أن تقاعدت.. ومن ناحية أخرى لقد خلقت نوعا متفرغا للفكر, سعادتى الكبرى أن أقرأ كتابا, أن أنقد فكرة, أن أكتب انطباعات تخرج فى صورة مقالات أو كتب هذا أنا وهذه حياتى..!
وفى بيتى وفى وقت مثمر الى جوار زوجتى الدكتورة منيرة حلمى وهى نعم الرفيق.. وقد تزوجتها بعد تخرجى بربع قرن.. ولا أنصح الشباب بذلك.. وإن كانوا يضطرون الآن الى ذلك بسبب أزمة السكن.. ولكنى أقولها لهم صادقا، انى لم أحس بنعمة الحياة كاملة الا بعد أن عشت مع زوجتى.. نتبادل الأفكار والمشاعر حتى ونحن صامتان.. حاملين هم بعض, ننتظر للمستقبل سويا.. نتبادل التعاطف والمودة والرحمة.. وهما ما أوصى بهما القرآن الكريم.
> أزمة الوعى التحليلى والنقدى أو الضدى كيف تراها؟
هذه الأزمة أبشع ما يخيفنى فى الفكر العربى.. فنحن أميل الى أخذ الفكرة مكورة مثل « شلة الخيط »، دون التنقيب فيما تحتويه هذه الفكرة بل نكتفى بالكرة من السطح.. مثلا الديمقراطية والحرية والاستقلال كلمات تأخذها كما هى بلا تفصيلات، ونحن ابعد ما نكون بعيدا عن التفصيلات التى تترتب على مدلولات هذه الكلمة.
لقد قرأت مرة لمفكر غربى كبير تحليلا عن من هو المثقف.. ولأول مرة أسمع هذا الرأى، ولكنى اكتسبته، على الأقل على اعتبار أنه جزء من الحق إن لم يكن الحق كله، وهو أن المثقف هو من يحلل، حينما تقول ديمقراطية دون أن تدرى ما تفصيلات الديمقراطية، ثم تذهب الى بيتك أو الشارع أو الحكومة ولا تعيش ديمقراطيا! معنى ذلك أنك أخذت الكلمة ولم تأخذ مدلولاتها، هذا هو موقف غير المثقف، لا يأخذه الشغف ولا القلق لضرورة معرفة المحتوى بالضبط، أما المثقف فإنه يدقق فى المعنى.. مثلا فى كلمة اشتراكية يكتشف ان هناك عدة اشتراكيات.. وأن هناك عدة ديمقراطيات.. وعدة حريات.. هكذا يكتشف تفصيلات الحياة العملية للمفاهيم. ودور المثقفين بناء على هذا يتحدد بأنه ينبغى أن يكون معيار الفكرة عنده هو مقدار وجدوى تطبيقها على الواقع... وقد قطعت شوطا طويلا فى حياتى لإثبات هذا ولكن مجهوداتى لم تثمر لأنها ضد ما تعود عليه الانسان العربى الذى يهتم بصقل اللغة.
> أخيرا ماذا تسمى هذا العصر؟
انه عصر انتقالى بين حضارتين, حضارة استقرت فى القرن التاسع عشر وما قبله, وحضارة أخرى يرجى أن تستمر فى القرن الحادى والعشرين, وقد كتب على أهل القرن العشرين أن يكونوا هم مرحلة الانتقال بين الاستقرارين.. لذلك نلاحظ اهتزاز القيم وعدم تحديد الفواصل بين الصواب والخطأ.. ومن هنا ضياع شباب العصر لأنه لا يستطيع الاختيار على بيئة سليمة بين هذه التناقضات والاختلافات بين أنواع الحكم والاقتصاد وحتى الفلسفات والاتجاهات الأدبية والمذاهب, فهو عصر تجارب سريعة, ونرجو أن نرسو على ما نطمئن اليه والوصول الى حياة مستقرة.
رابط دائم: