على عكس ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، فإن المفكر الكبير زكى نجيب محمود (1 فبراير 1905 ــ 8 سبتمبر 1993) لم يكن ينتمى إلى ذلك الصنف من المثقفين، الذين نصفهم عادة - بأنهم يعيشون فى «برج عاجى» منفصلين عن حركة الناس فى الشارع، فبرغم نخبويته ككاتب يعالج أمورا فلسفية، كان قادرا على خوض المعارك الفكرية والثقافية، مشتبكا مع عدد من مجايليه، والمهتمين بالشأن الثقافى، وقد سجل الدكتور مصطفى عبد الغنى طرفا من هذه المعارك فى كتابه عن زكى نجيب محمود.
...................................................................
فى سنوات ما قبل ثورة يوليو 1952 كان «أنور المعداوى» أكبر ناقد أدبى فى الوطن العربى، وكان آنذاك فى الثلاثين من عمره، واستطاع منذ مقالاته الأولى فى مجلة «الرسالة» أن يصنع حالة من الحراك الثقافى فى مصر والعالم العربى، ويكفى أن نشير إلى أنه أول من ألقى ضوءا على موهبة نزار قبانى، حين كتب عن ديوانه الأول فى مجلة «الرسالة».
أصدر المعداوى كتابه «نماذج فنية من الأدب والنقد» فأشاد به كثيرون، على رأسهم صاحب «الرسالة» أحمد حسن الزيات، لكن الدكتور زكى نجيب محمود كتب افتتاحية مجلة «الثقافة» بتاريخ 15 أكتوبر سنة 1951 مستهلا مقاله بالتعبير عن إعجابه بصديقه الناقد «أنور المعداوى» وهو يدعو للثورة ويحث عليها، وفجأة يشن هجوما حادا عليه، فبعد أن يعلن عن فراغ حياتنا الفكرية كلها من «أصالة خالقة» يصل إلى «المعداوى» الذى يدعو إلى تقسيم الأدباء إلى شيوخ وشبان، ويسمى ذلك «بدعة».
وبعد أن يشير زكى نجيب محمود إلى صغر سن «المعداوى» بما يشبه السخرية (لم يتخط الثلاثين) يصرح بأن كتابه يخلو من تلك النماذج التى وعد بها، كذلك يخلو من شخصيات من لحم ودم، تنطق وتتحرك، وراح يهاجمه: فهو لا يعرف غير المقال الأدبى، والمقال «حيلة العاجز» حسب تعبير زكى نجيب محمود.
يعلن الدكتور زكى نجيب محمود أن ما كتبه المعداوى لا يعدو أن يكون «فتات موائد» فهى لا تزيد على أن تكون تعليقا على رجل أو كتاب، ويصل غضبه إلى أقصاه حين يختتم مقاله: «إنه ليس بالثائر كما رجونا لشبابه الطموح أن يكون، إنه لا يزال يسير على النهج، الذى لا بد من الثورة الحقيقية على أسسه وأوضاعه، إنه لا يخلق جديدا على نحو ما يخلق الأدباء».
فى اتجاه آخر فإن الدكتور زكى نجيب محمود لأسباب لم يكن هو نفسه يعرفها - (كان عائدا من بعثته الدراسية بالخارج) قد حرمنا من متابعة فصول معركة جديدة، حين فضل الحوار الشخصى بينه وبين العقاد، بعيدا عن الصحف والمجلات، إجلالا للعقاد، من أن تكون معارضة آرائه علنية أمام الجماهير بصفة عامة، لكنه سجل طرفا منها فى كتابه المهم «مع الشعراء» حين كتب: «التقينا فى سهرة طويلة لدى صديق مشترك، وكانت تلك الجلسة فاصلا بين عهدين فى علاقتى بالعقاد، فقد كنت قبلها أتبع وأسمع، وأصبحت بعدها أصاحب وأعارض، ذلك أن اختلافات بعيدة المدى، أخذت تباعد بين رأيى ورأيه فى كثير من مواضيع الرأى».
فى تلك الأمسية دار الحديث حول رأى العقاد فى الفلسفة وكان زكى نجيب محمود حسب تعبيره: «رسوت بمراكبى فى خضم الفلسفة على شاطئ «الوضعية المنطقية» وهو شاطئ ارتضيته مطمئنا، أما العقاد فكان بدوره قد استقر إلى آخر يوم من حياته على رأى آخر هو رأى الفلاسفة العقلانيين، الذين يقبلون المفاهيم الذهنية، حتى ولو لم يقابلها فى عالم التجربة الحسية مسمى قريب إلى عين الإنسان ويده».
يقول المفكر الكبير: «جادلنى (يقصد العقاد) جدالا عنيفا وجادلته، وانتهت الجلسة كما تنتهى عادة جلسات المحاورات الفكرية، فلا أقنعنى ولا أقنعته، لكننا ارتبطنا منذ تلك اللحظة بصداقة فكرية وثيقة العُرى، حتى إذا أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، كنت ألقاه دائما كل ثلاثاء من كل أسبوع، حيث كان مقررا ورئيسا للجنة الشعر، وكنت عضوا بها، وفى هذه اللقاءات عرفت العقاد على حقيقته».
واشتعلت معركة فكرية أخرى بين زكى نجيب محمود ومحمود أمين العالم، فى أعقاب نشر مقال فى مجلة «علم النفس» عن المدرك الحسى، شرح فيه الدكتور زكى نجيب محمود مفردات «الوضعية المنطقية» الفلسفة التى اعتنقها، فانتقده محمود أمين العالم قائلا: «لقد خلط خلطا غريبا بين منهج التفكير فى الحقائق الدينية والحقائق الميتافيزيقية» ورأى «العالم» أن: هذه الفلسفة مجرد امتداد للنزعة التجريبية الساذجة، على أساس التحليل المنطقى لا التحليل السيكولوجى أو النقدى.
واتسعت المساجلات بينهما، وانضم إليهما آخرون، ولم يخرج زكى نجيب محمود عن الإطار العام لمنهجه، الذى جعله يزداد تشبثا أكثر بالوضعية المنطقية، التى تفصل المادة المراد تحليلها عن مضمونها، وحيث يكون المجال هو مجال الحديث عن العالم وحقائقه، فليس للفيلسوف أن ينبس ببنت شفة، أما عمل الفيلسوف المعاصر فهو العبارات العلمية.
ويرد «العالم» قائلا: «إن موضوع الخلاف بيننا هو أننى أرى أن هذه ليست الفلسفة المعاصرة، وإنما هى تمثل وحسب جانبا ضيقا للغاية من الفكر الفلسفى المعاصر، يعبر عنه حفنة من المفكرين فى أمريكا وإنجلترا، ولا تكاد تتنفس منه نبضة صادقة واحدة عما فى حياتنا الإنسانية المعاصرة من إيجابية وجهود مبذولة من أجل التقدم».
يخوض زكى نجيب محمود معركة أخرى حول «قضية النقد الأدبى بين الذوق والعقل» مع الناقد الكبير محمد مندور، الذى يرى أن الذوق فى ذاته هو أساس كل نقد أدبى صحيح، وأن هذه حقيقة واقعة، بل هى ضرورة إنسانية، وعنده أن زكى نجيب محمود أخذ الحقائق الأدبية والفلسفية، بل والحقائق الإنسانية العامة، على نحو مسرف فى التبسيط.
ويرفض مندور منهج زكى نجيب محمود فى إصراره أو تمسكه بإقحام الفلسفة باصطلاحاتها المعروفة، ومناهجها الخاصة فى علوم النفس والاجتماع، على الساحة الأدبية والفنية، ويرى أن فى هذا الإقحام إفلاسا أدبيا وعقما فى الإحساس المباشر وفى الحاسة الفنية، التى لا يمكن أن يغنى عنها شيء فى إدراك المفارقات الدقيقة، التى يتميز بها الأدب.
فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى دارت معركة أخرى بين كبار الكتاب المصريين (توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود) والشيخ محمد متولى الشعراوى، ففى أول مارس 1983 نشر الحكيم فى «الأهرام» سلسلة مقالات بعنوان «حديث مع الله» على مدى أربعة أسابيع، أحدثت دويا كبيرا، وتولى الشيخ الشعراوى الهجوم على الحكيم فى جريدة اللواء الإسلامى، فكتب بتاريخ 17 مارس 1983: «هذه أول مرة أسمع فيها أن الله كلم واحدا من البشر من غير الأنبياء والرسل، وكان له الحق - ولكل منا الحق - فى الحديث «إلى» الله، لكن اعتراضى على أن حديث توفيق الحكيم «مع» الله وأن الله تحدث إليه، فهل أباح توفيق الحكيم لنفسه ما لم يكن مباحا لمحمد صلى الله عليه وسلم؟»
أضاف: «لقد شاء الله ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد، كان يهمس بها ولا يجرؤ على نشرها، وشاء الله ألا تنتهى حياته إلا بعد أن يضيع كل خير عمله فى الدنيا فيلقى الله بلا رصيد إيمانى» وإن كان ذلك لم يمنع الشعراوى من زيارة الحكيم أثناء مرضه الأخير والتصالح معه.
لكن يوسف إدريس آنذاك انبرى مهاجما الشعراوى فى مقال نشره بجريدة الأهرام، عنوانه «عفوا يا مولانا» وصف فيه الشيخ بأنه: «يتمتع بكل خصال راسبوتين المسلم، قدرة على إقناع الجماهير البسيطة، وقدرة على التمثيل بالذراعين وتعبيرات الوجه، وقدرة على جيب كبير مفتوح دائما للأموال، إنه يملك قدرات أى ممثل نصف موهوب».
وأيد د. زكى نجيب محمود ما قاله يوسف ادريس متهما الشيخ الشعراوى بأنه «كهنوت دينى يقود مجموعة من رجال الدين للهجمة على الثقافة والمثقفين، معتبرا أنه زعيم كبير روحى مثل الخمينى، يقود مجاميع متطرفة ضد حرية الرأى والتعبير والصحافة» وتدخل بعض علماء الأزهر للوقوف بجانب الشيخ الشعراوى، واستغلت التيارات المتطرفة الفرصة، وكتب أحدهم مقالا بعنوان: «أهكذا تختم حياتك أيها الحكيم»؟
فى كتابه «قيم من التراث» ساق زكى نجيب محمود طرفا من هذه الواقعة، فقال إنه مضت أعوام وهو يسمع عن الشيخ، ولا يسمع منه، وقد أرجع ذلك إلى استخدام الشيخ للتلفاز، وهى أداة متابعتها مرهونة بالصدف، ثم أخذ يحكى عن اللقاء الأول بينهما، حيث كتب الشيخ يدافع عن حديث الذبابة، شافعا رأيه بمراجع لعلماء ألمان، وقد وجد الدكتور نفسه لا يستسيغ الأمر، فكتب ردا.
أما اللقاء الثانى فقد حدث عندما شعر زكى نجيب محمود أن الشيخ ملأ الدنيا، وشغل الناس، فأصبح واجبا ثقافيا، أن يتابع أحاديثه التليفزيونية، دون تركها للمصادفات، فشاهد الشيخ أربع أو خمس مرات، بعدها أعجب به إعجابا شديدا، إلا أن ذلك لم يحل بينه وبين إعلان رؤيته المختلفة مع الشيخ، والمتمثلة فيما لاحظه من عدائه الشديد للعلم الحديث.
كانت المعركة قد اندلعت عندما صرح الدكتور زكى نجيب محمود بأننا ممتلئون حقدا على الغرب، لأنه يملك العلم وأدوات الحضارة، ونحن لا نملك إلا مجموعة من الكتب التراثية القديمة، التى لا يرتبط معظمها بالعصر الذى نعيش فيه، وأن حقدنا هذا ناتج عن عجزنا الحضارى، والعاجز لا بد أن يحقد، ويدعى فى نفسه تميزا متوهما ما ليس فيه.
وضرب الدكتور زكى نجيب محمود مثلا، بما فعله الشيخ الشعراوى حين سخر من الحضارة الغربية فى إحدى حلقات برنامجه الأسبوعى، الذى يذيعه التليفزيون المصرى، فقال: إنهم فى الغرب فرحون بصعودهم إلى القمر، فما قيمة ذلك؟ ثم أخذ الشيخ من علبة المناديل الورقية التى أمامه واحدا، وهزه فى الهواء وقال: «هذه الورقة أنفع من الوصول إلى القمر».
استفز هذا التصرف الدكتور زكى نجيب محمود، فتصدى لبيان خطأ هذا القول، موضحا أن الشيخ الشعراوى هو أول المستفيدين من الصعود إلى القمر؛ لأن إحدى النتائج الفرعية لهذا الصعود هى الأقمار الصناعية التى تنقل أحاديثه إلى العالم، كما أن الشيخ يجلس أمام كاميرات التليفزيون فيدخل ملايين البيوت، والتليفزيون هو نتاج العلم الغربى، ولو كان الشيخ جادا ويعتقد أن العلم الغربى لا يساوى منديل الورق - الذى هو أيضا اختراع غربى - فكان عليه أن يرفض الجلوس أمام الكاميرا، ومقاطعة المنجزات التكنولوجية للعلم الغربى.
لكن هذا لم يحل دون أن يخاطب المفكر الكبير الشعراوى واصفا إياه بـ «الشيخ الجليل» وكان أن زار الشيخ المفكر فى مرضه الأخير، تعبيرا عن حقيقة أن ما بينهما ليس أكثر من خلاف فى الرأى، دون أن يتجاوز أحدهما فى حق الآخر.
رابط دائم: