قصتان
1- طريق القناصة
الثامنة صباحًا تبدو ساعة مبكرة فى سراييفو الخارجة لتوها من الحرب، رغم اعتياد المدينة على النوم المبكر من أثر التعب الطويل وتقييد الإضاءة. والطبيب النفسى المتطوع، يستشعر الغلظة فى أن يذهب مبكرًا إلى مشغل التطريز ليناظر حالة الصبية التى أعطوه ملفها بالأمس، والتى رشحتها الجهات الصحية ليفحصها بأولوية. إنها تستحق ذلك، بل تبدو له حالة نادرة ومؤثرة حتى أنه كان يتعجل مرور الوقت الذى يمضى ببطء شديد داخل الفندق الذى لم يستكمل خدماته بعد، فتناول إفطاره على عجل، واندفع خارجًا إلى التقاطع الفسيح أمام الفندق.
راح يعبر شارع فويبود بوتنكا، ولاحظ أن البشر القليلين كانوا يمضون بسرعة لا تتطلبها الأرصفة شبه الخالية والصباح الغافي، وأبدت أعوادهم النحيلة فى مجملها انحناءة ما، كأنهم ينوؤن بعبء غير مرئي، أو أنهم اعتادوا هذه الانحناءة الخائفة من انصباب الطلقات بينما يعبرون الشوارع المكشوفة تحت أبصار ومناظير القناصة المتمركزين فوق التلال المحيطة بالمدينة. شارع فويبود بوتنكا أسموه طريق القناصة لأن عابريه من بشر ومركبات كانوا هدفًا دائمًا لطلقات البنادق الآلية ومدافع المورتر، بل والمدافع الثقيلة التى أحرقت عيون الأبنية العالية فى مدخل الشارع، كما أحرقت بعض السيارات وعربات الترام التى تفحمت فى أماكنها ولاتزال.
اجتاز طريق القناصة موغلًا فى شارع «المارشال تيتو» الطويل الفسيح وكان الترام يدرج مصلصلًا فى فضاء الشارع. عودة الترام إلى الحياة فى سراييفو كانت بشارة السلام، فقد رمموه وطليت العربات بألوان زاهية تتخللها رسوم وخطوط غير متقنة. كانوا بالتأكيد يتعجلون عودة الترام ليوقنوا من حلول السلام، أول ترام يجرى فى شوارع وسط أوروبا، ومع ذلك لم ترحمه نيران المتعصبين المنصبة من ذرى التلال. عبر الشوارع الجانبية كان يرى التلال العالية البعيدة، وشعر برعشة وهو يتساءل عما إذا كانوا رحلوا عنها بالفعل وعن احتمال أن يكونوا هناك ما زالوا. كانوا يصوبون عبر فتحات هذه الشوارع على المارة فى الشارع الرئيسي، لا على التعيين، لهذا سُدَّت فتحات الشوارع بمتاريس من كتل خرسانية بأعلى من طول قامة الإنسان، وكان على الناس أن ينحنوا ويسرعوا وهم يمرون أمام هذه المتاريس. أى حشد من الأعراض النفسية يمكن أن نلحق بالبشر فى لحظات وجيزة كلحظات توقع الموت هذه؟ البنت لم يحدث لها ما حدث على خلفية ذلك. جعله التفكير فيها ينظر إلى ساعته، وعاد يقطع شارع المارشال تيتو على الرصيف نفسه وإن فى الاتجاه المعاكس.
لم يقرأ عن حالة تماثل حالة البنت فى مراجعه الطبية، ولم تصادفه حالة تشبهها فى حياته العملية الطويلة، ولم يسمع واحدًا من زملائه فى أكثر من مكان بالعالم يتحدث أو يكتب عن حالة تقاربها. فقط يتذكر أنه قرأ عن شيء مماثل فى كتب سلوك الحيوان المقارن التى يقتنيها. حالة فريدة تحدث للإناث العذراوات من الفيلة الآسيوية فى الأسر مع الأفيال الرضيعة التى فقدت أمهاتها. فما وجه المقارنة، وقد كانت البنت طليقة فى الغابة عندما سفحتها تلك الأعراض.
التقرير الذى قرأه لم يشر إلى سبب فرار البنت- مع معظم نساء القرية والأطفال- إلى الغابات والجبال، لكن الأحداث التى تكررت من قصف القرى ثم مداهمتها وقتل الرجال وتقطيع الأوصال واغتصاب النساء، كانت كافية لأن تدله على رعب الدافع الذى جعل بنتًا صغيرة- كان عمرها آنذاك أربعة عشر عامًا- تشرد فى مجاهل الغابة وأخاديد الجبال وبين يديها طفل رضيع لم تعرف كيف ومن أين وصل إليها - لم يشر التقرير الطبى إلى طبيعة صلة القرابة أو الجيرة التى تربط بين الرضيع والبنت، وعوّل هو على أن يتبين ذلك خلال مناظرته اليوم للحالة - وفى دروب الغابة ومفاوز الجبال تشتت سرب النساء والأطفال وكانت متعبة وجوعى وتنوء بحمل الرضيع عندما وجدت كوخًا مهجورًا على حافة الغابة.
لم يكن الرضيع يصرخ، لكنه كان يتلوى كأنه يتألم ويفتح عينيه بين موجات الألم وينظر إليها فتبكى متحيرة لكن لم تكن هناك دموع، كانت تحس بجفاف فمها وعينيها، وعندما رقدت من شدة التعب على أرض الكوخ محيطة الرضيع بذراعيها بدا لها أنه يناغى ثم تبينت أنه ساكت تمامًا ومغمض عينيه ومطبق فمه، فاجتاحت كيانها الصغير موجة من لهيب، وكانت أولى مداهمات الحالة لها، والتى ظلت تتكرر كلما تذكرت ملابساتها.
وصل إلى مشغل البنات فى التاسعة والربع تمامًا، واستقبلته المديرة فى مكتبها الصغير، هى نفسها واحدة ممن شردتهن الحرب، رأت ابنها يُقتل أمام عينيها، كان جميلًا وفى السابعة عشرة، فقدت أيضًا زوجها وإخوتها، لم تعرف إن كانوا ماتوا أم أنهم على قيد الحياة فى مكان ما. مرت به على قاعة العمل فى المشغل، وحاول أن يحدس من تكون البنت بين الأخريات دون أن تسميها له المديرة، لم يستطع. كن جميعًا منكفئات على ماكيناتهن، فى زى قرمزى باهت، كاسفات ويحدقن بنظرات خالية من أى معني. بينهن من رأت أهلها يذبحون، ومن ضاعت طفلتها، ومن فقدت كل أهلها، ومن اغتُصبت. وعندما نادت المديرة صاحبة الحالة التى جاء لمناظرتها أحس بوجل غامض كأنه طالب طب صغير يتأهب للوقوف بين يدى ممتحنيه.
عندما يعجز الطبيب النفسى عن العثور على طرف خيط انفعالى فى ملامح أو إيماءات من يناظره خلال أول دقيقة فى الفحص يصير كمن وقع فى شرك. كانت فتاة صغيرة متماسكة ولا تشى ملامحها بأى انفعال، لا عداء ولا مودة، فقط شكت من أن الحالة تداهمها فجأة وهى تعمل، وتكون خائفة من تلويث الثياب التى تطرزها. كان الطبيب منشطرًا يفكر، كأنه فى لجنة امتحان إكلينيكي، فى آليات حدوث الحالة لعله يعثر على آلية مضادة لمنعها، وفى الوقت ذاته كان يعانى من شتات وجدانى غامض كأنه ضائع فى غابة، أو صحراء، أو فضاء كوني. وفكر فى تقنية التحليل النفسى لعله يمسك بشيء ما.
كانت هناك فجوات فى القصة المرضية يريد أن يملأها، وراح يحض البنت على الحكي، الحكى بتفصيل، لكنها لم تكن تقول شيئًا أكثر مما فى التقرير الذى قرأه عن حالتها. ثمة ثقوب مظلمة فى الحكاية، وهو يستعيدها لعل هذه الثقوب تمتلئ بالضوء. وكان يشرد ناظرًا إلى الخارج مكتشفًا أن المشغل يقع عند طرف فويبود يوتنكا حيث تظهر بقعة حمراء برتقالية مرسومة على الأسفلت، إنها الطريقة التى سجلت بها سراييفو وقوع المجازر من جراء سقوط طلقات القناصة على الناس. وثمة مقبرة تحت أعشاب الرصيف المقابل كانت شواهدها تتراءى له من البُعد وكأنها أوراق بيضاء فى خضرة العشب. وأدرك أنه شرد عندما انتبه إلى صمت البنت.
أراد أن يسألها أين توقفت فى حكايتها، لكنه ابتلع سؤاله إذ انتبه إلى انفعال وجهها، انفعال كتيم يكظم غيظًا أو قهرًا أو ألمًا أو كل ذلك معًا. وامتد بين وجهه ووجهها صمت كشف عن صوت رتيب.. صوت قطرات تتساقط على لُجَّة، ونهض بلا إرادة موشكًا على الصراخ إذ كان صدر البنت مبتلًا مما أحال لون ثيابها إلى قرمزى داكن عميق، ومن نشع هذا البلل كانت تتكون قطرات متسارعة من حليب خفيف ــ حليب عذراء ــ تتعاقب على سطح بركة لؤلؤية البياض أمام قدميها.. بركة صغيرة.. تتسع.
2- فى حقول القتل
«إذا كنت تريد إنجاز برنامجك اليومى فى «فنوم بنه»، فابدأ يومك مبكرًا».
وكان ذلك يعنى أن نخرج إلى الشوارع قبل شروق الشمس، حتى ننهى كل أعمال النهار عند الظهيرة، فالمطر الكاسح يبدأ هطوله من بعد الظهر وحتى آخر الليل.
كان الوقت مبكرًا حقًا حتى أن نور الصباح بدا أبيض رماديًا، ومع ذلك كان الناس يتدفقون إلى الشوارع الترابية الفسيحة المسيجة بالأشجار المدارية الوارفة. ومن تدفق الناس وخضرة الأشجار بدت العاصمة الكمبودية ترتسم أمامى وكأنها مصحة مترامية للمعاقين من مبتورى الأطراف. منظر يتكرر فى كل ركن وعند كل منعطف، لهؤلاء المتقافزين على ساق واحدة أو المتوكئين على عصى متواضعة بعد أن رُكِّبت لهم أرجل صناعية. أو لمبتورى الأذرع الذين تخفق أكمامهم الخاوية مع الحركة. بعضهم حصل على أذرع صناعية تنتهى بخطاطيف معدنية مروِّعة البؤس لكنهم يلوحون بها لا شعوريًا فى زهو.
من أين أتت كل هذه التعاسة؟ أسأل نفسى ونحن نمر بضفة الميكونغ الذى بدأت الشمس تسكب شفقها الوردى على صفحته الرقراقة الرحيبة، وفى الحدائق البسيطة المترامية أمام سلسلة القصور والمعابد الملكية المغبرة كان يتقافز ويتناثر مبتورو السيقان والأذرع.
لقد زرعت سنوات العمى والدم فى كمبوديا ما يقارب أربعة عشر مليون لغم، بمعدل لغم ونصف لكل واحد من السكان البالغ عددهم تسعة ملايين وثلاثة أعشار المليون نسمة، حتى يحمى التخبط الأسود ساحة بطشه الدامى ويمارس سعاره بارتياح.
وبعدما خمدت الحمى وأخذت العتمة فى التراجع، ظلت الألغام فى الحقول، والدروب، وباحات المدارس التى تحولت إلى مراكز توقيف وتعذيب، وحول أسوار المستشفيات التى أغلقت أبوابها كقلاع لنمور الافتراس البشري. وراحت الألغام تتصيد ضحاياها فى زمن الخمود بحمية، إذ يقدر أن من بين كل أربعة من السكان يصاب واحد من جراء انفجار لغم، وغالبًا ما تكون الإصابة قاتلة نظرًا لتدنى الخدمات الطبية فى كمبوديا عمومًا وفى القرى خاصة، التى يعسر على أهلها مدقعى الفقر نقل مصابهم إلى مستشفى بمدينة قريبة، فيظل ينزف حتى يلفظ آخر أنفاسه.
مع ارتفاع الشمس التى أضاءت بياض أبراج المعابد، وكشفت عن ابتلال أديم الشوارع واغتسال الشجر، جذبتنى حوانيت الحرير، وشدنى بينها حانوت النساجة «برانغ سن» ذات الجمال الهادئ والابتسامة الغامضة، شأن من تنطوى صدورهم على أحزان قديمة. كان حانوتها يبدو كماسة تتألق بالألوان من الأرض إلى السقف حيث تتراص لفات قطع الحرير، لامعة بهيجة، «لكل لون ميعاد ومعني» قالت برانغ، ففى التقاليد الكمبودية لشعب الخمير يقولون إن من يحترم تناسب الألوان والأيام يجد السعادة والنجاح، الأحمر ليوم الأحد، والأصفر الداكن للاثنين، والبنفسجى للثلاثاء، والأخضر صدأ النحاس ليوم الأربعاء، والأخضر الفاتح للخميس، والأزرق الغامق للجمعة، أما السبت فيناسبه الكحلي.
سألت ناسجة الحرير غامزًا: وأيام «بول بوت» أى الألوان كان يناسبها؟ قالت بمرارة: «كانت أيامه لا تحب الألوان» وأردفت تكرر: «أبدًا لا تحب الألوان.. لا تحب الألوان» وبدا أنها ستبكى فسألتها: «هل أخذوا أحدًا من عائلتك؟ قالت «خطيبي» وأخرجت من حقيبة يدها المركونة على أحد الأرفف صورة فى غلاف بلاستيكى شفاف لشاب صغير يرتدى قميصًا مشجرًا بخليط من ألوان القرمزى والأصفر والأخضر.
«أيام لا تحب الألوان»!.. تعبير أخذ يترجع فى خاطرى بعد أن غادرت حانوت ناسجة الحرير برانغ سن، وأخذ التعبير يزداد رسوخًا فى ذهنى وأنا أسترجع حكايا تلك الأيام التى بدأت بذلك اليوم الرمادى من عام 1975، ففى السابع عشر من أبريل ذلك العام، سقطت «فنوم بنه» فى يد الفصيل الأقوى من الشيوعيين الكمبوديين الذين أطلقت عليهم تسمية «الخمير الحمر»، بقيادة شخص غامض يحمل اسمًا حركيًا هو «بول بوت». كانوا يدعون الماوية، وبأن كمبوديا لا سبيل لرفعتها إلا بالعودة للجذور ونبذ كل ما هو غربى استعماري، والعودة إلى المجتمع الزراعي. وفى أقل من أربع سنوات حكم فيها الخمير الحمر كمبوديا، قُضى على أكثر من مليون إنسان معظمهم من المتعلمين، وزرعت الأرض بأربعة عشر مليون لغم لحماية مواقعهم، وأظلمت كمبوديا وأقحلت برغم شعار العودة للزراعة، ومات الناس من الجوع والمجازر.
مع ارتفاع شمس الصباح بما يكفى لإلقاء الضوء على الأركان القصية من المدينة، دلفنا إلى شارع طويل نحيل يشكل إحدى ضفتيه سور مرتفع مسود اللون بتأثير نمو الطحالب الداكنة عليه. ثم انعطفنا نعبر بوابة فى هذا السور. قلت بنبرة التساؤل: أهذه مدرسة؟ وجاءنى الرد: «كانت مدرسة عليا اسمها «تول سفاي» أغلقت فى سنوات الرعب وأصبحت تحمل اسم المعتقل الأمنى رقم 21 أو معتقل «تول سلنغ». وأصابتنى رعدة رغم رؤيتى لأشجار التين والمانجو ونخيل جوز الهند وهى تسيج المكان من الداخل وتفعم محيطه وباحته بخضرة الحدائق.
ومع الخطوات الأولى يسارًا كانت المشنقة تنتصب بين جذعى نخلتى جوز هند سامقتين فى الفناء الغربي، الذى توجهت منه إلى فصول المدرسة التى تحولت لقاعات تعذيب لمئات الآلاف الذين كان يقضى منهم عام 1977، وحده، قرابة مائة قتيل فى اليوم الواحد.
ومن المشنقة إلى روافع السلخ والعصر وأدوات الحرق والإغراق وصناديق التعذيب بلدغ الأفاعى والعقارب وأجهزة الصعق بالكهرباء. تكشف لى أننى أمام عالم قاحل من أدوات فظة، منحطة كالقسوة، لا دقة فيها ولا براعة ولا نظافة. مجرد قطع من حديد معتم الصدأ ومن خشب رميم. عصى حديدية عجراء وسخة، وقيود غليظة ركيكة، وصناديق لا مهارة فى صنعها، وصواعق مشوشة الأسلاك. هى نفس القذارة والغلظة والركاكة التى رأيتها من قبل فى معتقلات أخري، فالقسوة منحطة، وأدواتها لا بد وأن تشبهها على ما يبدو، إذ تُختزل كل الألوان فى لون واحد قوامه القتامة: قتامة صدأ الحديد وقتامة القذارة وقتامة بقع الدم المتيبسة على أسرة الحديد وأدوات التعذيب والأرض والجدران. إضافة لقتامة خريطة كمبوديا المرسومة بالجماجم الحقيقية فى جدارية هائلة، وقتامة الأرشيف الذى يضم آلاف الصور بالأبيض والأسود للضحايا الموتي.
خرجت مرورًا من «فنوم بنه» متجهًا لساحة أخرى للمرارة على بعد 30 كيلومترًا بحثًا عن «حقول القتل». وتحدرت سيارتنا الخائفة المبطئة على دروب حذرة بين حقول غامرة الخضرة مبثوثة بالألغام التى تتصيد يوميًا ضحاياها من المزارعين الفقراء وأطفالهم ودوابهم. ورحنا نعبر جسورًا خشبية متهالكة تئن عند مرورنا فوقها، وعبر نفق من ظلال الشجر الاستوائى الثرى البديع وصلنا إلى بوابة حقول القتل فى ناحية «شوينغ إك».
درت مقبوضًا واجف القلب حول «برج الجماجم» الذى شيدوه عند مدخل المكان. بناء من الخرسانة والحوائط الزجاجية هو أقرب إلى شكل المسلات فوق قباب المعابد البوذية المسماة «ستوبا». ووراء الزجاج تعلو الأرفف حتى ارتفاع عشرين مترًا، مكدسة بجماجم الضحايا التى عثروا عليها فى بعض المقابر الجماعية بحقول القتل. ثمانية آلاف جمجمة.
ثمة نفق مفتوح فى الطابق الأول للبرج، عبرته بين صفين من أكداس الجماجم التى بادلتنى التحديق بمحاجر لا أعين فيها. أيها كانت جمجمة خطيب «برانغ سن»؟ عبر التساؤل خاطرى الذاهل بلا إجابة، وأسرعت أهرب من موجة صراخ وأنين توحى بها أكداس الجماجم، فدخلت حقول القتل..
أينما توجهت فى المكان الشاسع توجد آثار المقابر الجماعية، حفر عشوائية بُقِرت بسرعة وابتلعت أجساد الضحايا بسرعة ثم ردمت بلا اكتراث. أمشى على الجسور الناحلة بين بقايا الحفر المردومة التى غزتها بعض الأعشاب، 129 مقبرة جماعية اكتُشفت فى المكان، تُركت 43 مقبرة منها دون أن تُمس وأُخذت من الأخريات جماجم البرج الزجاجى الثمانية آلاف.
سرت بحذر، أدور وأعاود الدوران والتوقف، ذاهلًا بين حقول القتل، ولاحظت أن العشب النابت فيها كان رهيفًا كألحان الأسي. ثمة أطراف عظام تطل من التراب ومزق ثياب غبراء تتناثر فى المكان. انحنيت أنبش بطرف قلم فاستخرجت مزقًا شتى من ملابس كان يرتديها الضحايا عند دفنهم. رحت أتأملها: كانت هذه لبشر انتقوها ببهجة أو أهديت إليهم من أمهات أو حبيبات أو زوجات. مزق من نفوس بشرية استباحتها نفوس أخرى لبشر توحشوا. ترى هل أعثر على مُزقة بألوان قميص خطيب ناسجة الحرير هنا؟ واصلت النبش بطرف قلمى مستخرجًا المزيد من مزق الثياب، لم أستطع أن أميز فيها الألوان التى انمحت بفعل الدفن ومرور السنين، فلم يعد لها غير لون واحد هو.. لون التراب.
رابط دائم: