تتواصل الحرب غير المعلنة بين موسكو وواشنطن، رغم كل ما كان يتبدى من مؤشرات تحسن وتقارب فى وجهات النظر بين رئيسى البلدين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب منذ انعقاد قمة هلسنكى فى منتصف يوليو الماضي. وبات واضحا أن روسيا تقف أمام تكرار محاولات الإطاحة ببوتين، فى نفس الوقت الذى اعتبرت فيه موسكو العقوبات الأمريكية الجديدة «إعلان حرب» سترد عليه «بوسائل أخرى» إذا لزم الأمر.
فلم يكد يفرغ الرئيسان من مؤتمرهما الصحفى المشترك، حتى تحولت «ماكينة الدعاية المضادة» فى واشنطن الى محاولات النيل من نتائج قمة هلسنكي، وما أسفرت عنه من انفراجة نسبية فى علاقات الزعيمين. وعلى غير المنتظر اتخذ الرئيس ترامب الذى كان قد أعرب عن ارتياحه من نتائج القمة، قراره بالتحول إلى الاتجاه المعاكس، فى محاولة من جانبه لدرء الاتهامات التى قالت بوقوعه فى شرك نظيره الروسي. عاد ترامب ليتهم روسيا بالوقوف وراء حادث تسمم الجاسوس الروسى السابق سكريبال فى بريطانيا، وهو الحادث الذى كان سببا فى اشتعال حملات الطرد الدبلوماسى المتبادل بين واشنطن وحلفائها وبين روسيا. نكص الرئيس الامريكى عن وعوده بتحسين العلاقات مع موسكو، وأعلن عقوبات جديدة وكأنما يريد ان يقول لخصومه فى الداخل، إنه لم يقع فى «حبائل» بوتين، وأنه يستطيع مقارعته والنيل من مصالح بلاده.
من هذا المنظور جاءت العقوبات التى وصفها الكونجرس الامريكى بـ«الجهنمية» ضد روسيا، والتى رد عليها سيرجى ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية بقوله انها «تكشف عمليا عن عجز الولايات المتحدة». وقال المسئول الروسى ان العقوبات ضد البنك التجارى «أجرو سويوز»، هى الحزمة رقم 54 من مجموعات العقوبات التى فرضتها الولايات المتحدة ضد روسيا منذ عام 2011، أى منذ ما قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية فى عام 2014.
وكشف عن أن هناك من الساسة الامريكيين الموغلين فى عدائهم لروسيا، من يعترف بأن هذه العقوبات لم تسفر عن أى تأثير، ومع ذلك يصرون على الاستمرار فى فرضها «بعناد مهووس» بعد ان صارت روسيا قاسما مشتركا فى كل نزاعات الداخل الامريكي. وفيما استعرض عددا من الجهود «المحمومة» التى يبذلونها فى الكونجرس الامريكى من أجل إحكام حلقة الحصار حول روسيا، قال ريابكوف ان بلاده لا يمكن ان تنصاع لأى ضغوط، ولن تحيد عن طريقها المرسوم. ومضى ليقول ان «هذه العروض المثيرة للسخرية من جانب أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب أمام الرأى العام الأمريكى تستهدف التأثير على الناخبين واستقطابهم قبيل إجراء الانتخابات النصفية فى نوفمبر القادم، مؤكدا انها لا تثير لدينا سوى الابتسامة».
ومن اللافت فى هذا الصدد، انه لم يمض على إقرار ما وصفته واشنطن بـ«العقوبات الجهنمية»، سوى أيام معدودات، حتى عادت الادارة الأمريكية فى نهاية الأسبوع الماضى إلى إعلان مجموعة جديدة من العقوبات قالت انها سوف تنفذها على مرحلتين، الأولى اعتبارا من 22 اغسطس الحالي، والثانية بعد ثلاثة اشهر. وتتدرج هذه العقوبات من حظر توريد ما يسمى بالتكنولوجيا الدقيقة، وحتى تخفيض المستوى الدبلوماسى للعلاقات، وحظر الرحلات الجوية لشركة طيران ايروفلوت الروسية إلى الولايات المتحدة.
وكان الكرملين قد بادر بإعلان رفضه وشجبه لهذه العقوبات، التى وصفها ديمترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين بانها غير قانونية، مؤكدا انها تقف على طرفى نقيض مع الأجواء الايجابية التى خيمت على القمة التى جمعت زعيمى البلدين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب فى هلسنكي.
من جانبه أعلن ديمترى ميدفيديف رئيس الحكومة الروسية انه يعتبر إعلان هذه العقوبات إعلانا للحرب الاقتصادية ضد روسيا، مؤكدا ان بلاده سوف ترد عليها بقرارات اقتصادية وسياسية، بل ومضى الى ما هو أبعد حين قال باحتمالات اللجوء الى «وسائل أخرى إذا لزم الامر»، وهو ما يجب ان يفهمه الامريكيون، على حد تعبيره.
ومن جانبها نقلت وكالة انباء «سبوتنيك» الروسية عن سيرجى ريابوخين رئيس لجنة الموازنة فى مجلس الاتحاد الروسى تصريحاته حول «ان لدى روسيا ما ترد به»، وكذلك قوله «إنه فى حالة اتخاذ تدابير جوابية، فمن الممكن ان تشمل هذه العقوبات محركات الصواريخ «آر.دى 180»، ذات الاستخدام المزدوج، لأنها لا تستخدم فقط للأغراض المدنية ولكن فى الأقمار الصناعية العسكرية أيضا». وفى إطار ردود الافعال من جانب العاصمة الروسية تجاه العقوبات الامريكية الجديدة، أعاد فيدور لوكيانوف رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع الى الاذهان ما سبق وأعلنه كولين باول وزير الخارجية الامريكية الاسبق فى جلسة رسمية لمجلس الامن الدولى حول العثور على القرائن والأدلة، بل واستعراضه لنماذج «وهمية» بالأسلحة الكيماوية زعم أن العراق كان يمتلكها. ونقلت وكالة «انترفاكس»عنه تصريحاته حول ان العقوبات الامريكية الجديدة تستهدف تقويض الاقتصاد الروسي، وان ما تفعله الإدارة الأمريكية بهذا الصدد يعيد الى الأذهان ما وصفه بالسيناريو العراقي.
ورغم قسوة العديد من هذه القرارات، ومدى الفاعلية النسبية لبعضها تجاه الحد من التطور الطبيعى للاقتصاد الروسى وعلاقات موسكو مع العالم الخارجي، فإن الواقع يقول بفشل هذه الإجراءات على المدى البعيد، مثلما كان الحال عليه على مر العديد من العقود منذ ما يزيد على مائة سنة من محاولات إحكام الحصار حول روسيا وفرض العزلة السياسية عليها.
وفى هذا الصدد نعيد الى الأذهان ما سبق وأعلنه الرئيس بوتين فى العديد من خطاباته، ومنها الخطاب السنوى الأخير فى ربيع هذا العام الذى كشف فيه عما حققته روسيا من انجازات على الصعيد العسكري، بما فى ذلك إنتاج عدد من الاسلحة قال ان العالم لن يستطيع إنتاج مثلها قبل عام 2025. وقال أيضا ان روسيا استطاعت خلال السنوات القليلة الماضية تطوير قطاعها الزراعى بما جعلها ليس فقط تتوصل الى تحقيق الاكتفاء الذاتى من المنتجات الزراعية، بل والى تصدر قائمة مصدرى الحبوب فى العالم. وإذا أضفنا الى ذلك بعضا من مشاهد الماضي، ومنه ما يتعلق بذلك الحصار واسع النطاق الذى فرضه المجتمع الدولى حول روسيا السوفيتية عقب اندلاع ثورة اكتوبر 1917، فإننا نكون امام مواقف متشابهة لما دفعت زعيم تلك الثورة فلاديمير لينين إلى إقرار ما سماها آنذاك بـ«السياسة الاقتصادية الجديدة»، التى وضعت لبنات تجاوز تبعات ما بعد الثورة، استنادا الى الجهود الذاتية. ويذكر التاريخ ما حققه الاتحاد السوفيتى من إنجازات وطفرة هائلة فى مجالات الصناعات الثقيلة، التى ساهمت فى تلبية احتياجاته لمواجهة العدوان النازى وتحقيق الانتصار الهائل على الفاشية فى الحرب العالمية الثانية بما فرض الاتحاد السوفيتى كقوة عظمى تحتل صدارة الساحة العالمية منذ ذلك الحين.
وبغض النظر عن مدى مصداقية ما تطرحه الأجهزة الرسمية الامريكية من اتهامات، فان هناك ما سبق هذا «التدخل الروسي» فى الانتخابات الامريكية فى عام 2016، من حقائق وبراهين تقول بان الولايات المتحدة هى التى لم تكف يوما عن التدخل بكل أجهزتها السياسية والامنية والعسكرية، لا فى شئون روسيا وحدها، بل وفى شئون كل بلدان العالم بما فيها المانيا وفرنسا وغيرهما من حلفائها فى الناتو. ولعل تاريخ الأمس القريب يكشف عن العديد من وقائع التنصت على المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل وغيرها من حلفاء واشنطن فى الناتو. أما عن التدخل فى شئون روسيا، فقد اعترف الكثيرون من قيادات الولايات المتحدة بأن واشنطن لم تكن بعيدة عن كل المحاولات التى استهدفت زعزعة استقرار الاتحاد السوفيتى إبان سنوات الحرب الباردة، وما بعدها فى تسعينيات القرن الماضي. ويذكرون إضافة الى ذلك، ما قامت به الولايات المتحدة ابان سنوات الحرب فى الشيشان وشمال القوقاز من تدخل مباشر فى تغذية الحركات الانفصالية، فضلا عن دورها المحورى المباشر فى إدارة الحملة الانتخابية للرئيس الاسبق بوريس يلتسين فى عام 1996.
وما بين الأمس القريب بكل كوارثه ومآسيه، والحاضر الراهن بكل مرارة واقعه، وما يحمل فى طياته من قرائن وبراهين حول التدخل الامريكى المباشر فى شئون الفضاء السوفيتى السابق، ومنطقتى البلقان والشرق الاوسط، وتغذية وادارة ما سميت «الثورات الملونة»، وثورات «الربيع العربي»، تواصل موسكو محاولات التخلص من تبعات ما لحق بها من كوارث جيوسياسية نجمت عن سقوط الامبراطورية، ولم تكن الإدارات الأمريكية عنها ببعيدة.
رابط دائم: