بدايات
»أبى الذى حاولت قتله فى طفولتى،
فاختبأت تحت سريره ليلا،
وبيدى السكين، مخبأ فى جوربى،
نادانى فى الظلمة وأمرنى بالنوم بجانبه.
هيأت له النعاس وصفعته على وجهة وأنا مذعور،
أيقظنى بزلزلة، تحت سقف البيت الناشع بماء المطر،
داسنى وركلنى ورمانى فى الطريق بلا جناحات،
قال بغضب، انهض: ( لن يطعمك إلا يدك)،
وكان بوز الحذاء الكريب الراقد تحت سرير التهجير،
يوميء لى بدهشة يدعونى للتحديق لشكل أصابعه التى لونها البرد فلفظت الجورب المثقوب وتوارت فى دولاب الماضى الذى رمانى بسترة هلنكة ماركة ترانسفير روسى،طبع على صدره صورة بارزة لجندى يحمل طبنجة ويصوب فى الفراغ...،
والدى الذى ودع عقده التاسع بحصاد الهشيم،هاتفته اليوم فى المغارب فأوصانى بالنهوض بعد أن نهرنى ووبخنى على تلك المدية الحادة اللامعة التى أحملها دائما فى أسفارى، قال لى احجب أسلحتك ولا تنشغل بغير الطريق
.................
فصل (1)
(الشحاذ)
كنا قد تواعدنا لأكثر من خمس مرات بغية أن نتقابل. ونتناقش، هو مخرج كبير بلا شك. على الأقل من وجهة نظرى الشخصية المتواضعة حسام الدين صاصا الذى درس الإخراج بأمريكا، ولكنه عندما عاد إلى مصر فى منتصف الخمسينيات قرر أن يخُْرج ما يروق له. أوقل مايتماشى مع بعض طموحاته ولانه كان قد أخرج أكثر من عشرة أفلام صنفت فى خانة أفلام الحركة من قبل بعض النقاد المتواضعين فقد وضع على رأس قائمة مخرجى الأكشن، الآن صرت أستدعى اول لقاء تم بيننا لن أقول الصدفة هى السبب وإلا أكون قد بدأت مشروعى كمؤلف بكذبة دنيئة، أو ادعاء رخيص لم يعد مجدياً فى زمنى هذا،، أحببت حسام فى صغرى دون شك، ولن أجامل إذا قلت انه كان لى مثلاً أعلى فى أولى خطواتى فى طريق الكتابة،لُقب (بشجيع السيما) لايهم البورسعيدى المهياص أو المظراب سخافة مرفوضة، المهم أنه كان الفارس الهمام بالنسبة لشخص مثلى مُحب للسينما، كنت قد تعمدت أن اسعى لمقابلته عندما ذهب إلى مركز الثقافة السينمائية بشارع شريف وقابلنى يومها المؤلف الطيب الراحل أحمد عبد الوهاب قائلاً بحنو و ود (أهو صاحبك البورسعيدى جاى الاسبوع ده يا بطل هنعرض له الشحاذ) حضرت عرض الفيلم، وبمجرد أن أسودت الصالة وأضيئت شاشة العرض، وأنا ألهث وراء البطل الذى سمى فى النص الأدبى وجودى..؟! يبحث عن ذاته ليل نهار..؟! ومن خلال الملذات السهر ومرافقة النساء كل ليله كنت أرانى وأنا أحدق فى عيون بطلاته الذى كان يطاردهن فى البارات. وكل ليلة يفوز بواحدة أكثر ضياعاً ورخاوة مما قبلها. طالت قعدتى صامتاً ولأكثر من ساعتين، كان حسام صاصا قد دخل العرض من البدايه وتعمدت أن أحدق بوجهه عندما سمعت صرير الأبواب الخلفية. وظهر سكرتير الجمعية بصحبة أحمد عبد الوهاب الذى نادى بصوت خفيض، إتفضل يا أستاذ حسام، إلتفت للخلف أرقب المشهد، وأتأكد من ملامحة التى لم أرها من قبل إلا من خلال صفحات الفن وأخبارة، كان لم يزل يحمل نفس السمات. الوجه العظمى البيضاوى والعيون الضيقة الحائرة فى محجريها وشعره الأشعث المتدلى خلف قفاه النحيل المعروق المحجوب خلف الجاكيت الكاوبوى الأمريكى ماركه Lee وكان كل هذا التدقيق كفيلا بتركه من ناحيتى بعدما تأكدت أنه صورة طبق الأصل من صورته التى قطعتها من إحدى أعداد مجلات “المصور” القديمة، فى غبشة الضوء ظهرت بجانبه أنثى، أشار لها الأستاذ أحمد بالدخول فضربت ذراعها الأيسر فى يد حسام ودون أن تلتفت ودون درايه منى ودون توقع. رأيتها ترمقنى كونى كنت الوحيد الذى ترك شاشة العرض وإلتفت للوراء لتتبين وتراقب من هذا الذى دخل صاله العرض بعد أن دارت الماكينة المسلطه قِبل الشاشه البيضاء،
ــ عفواً السادة الحضور أسفين على الإزعاج ( الأستاذ حسام الدين صاصا حضر وهيشوف الفيلم معاكم ) تابعت الفيلم بإهتمام، من ملهى لآخر. ومن فتاة ليل لأخرى عين ترقب شاشة العرض والأخرى ترصد حركة الأنثى الجالسه بجانب المخرج محاطه بهالة من التقديس والنورانيه الغير مفتعله بعد مرور الساعتين حاولت أن استجمع حواسى لعلى أفوز بمعنى واضح أو تفسير أوضح لتلك الخواء الذى ظهرت به وعليه بطلات الشحاذ، حتى طريقه توزيع الإضاءة على شخوص الفيلم كانت فاترة وشبه هلاميه وكأن حاله اللايقين أو اليقين المراوغ كانت واضحه تصبغ كل مشهد بل كل لقطه فى الفيلم إلا أن مشهد الفينال كان أكثر من رائع، متماهى مع ذاتى كثيراً، من الضوء الأبيض مع الأسود المسلط على وجه البطل الباحث عن ربة.. راكضاً للخلف يزحف بمقعدته فى شبه برارى مجهوله، صفقت وزاد تصفيق الحضور من خلفى، وبدأت الندوة، ووجدتنى وقد صرت أحدق لرفيقته فى الصالة، والتى لم تنبس بحرف واحد منذ دخولها القاعة، أخيراً ضحكت برقة غير مصطنعة، وأعتلت المنصة لتجلس بجانبه وبدأت الندوة، طللت فى وجوه الجالسين بحرص وكياسه عكس ما تعودت، ورأيتها تضحك فى وجهى عندما التقت عيوننا فجأة أو بتعمد من ناحيتنا سوياً، قدمتى أحمد عبد الوهاب للحضور، وزاد التصفيق وتقدمت الصفوف فجاءت قعدتى بمواجهه الإستدج الذى أُقيمت فوقه الندوة، برقت فى عينى.. تلك الرقيقة الطيبة أو الواضحه على ما يبدو وسمعتها توجه لى السؤال الذى حيرنى وجعلنى أكثر خجلاً مما هو معروف عنى أوما أعرفه عن نفسى قالت
ــ (واضح إن الفيلم عاجبك)
صمتُ … وطال الصمت ورأيت المخرج يرقبنى بتعمد وقد أنهى نظرته بضحكه من القلب تنم عن شعورة بالإمتلاء والثقة فى النفس، خرج المؤلف وهو المعنى على الدوام بإدارة الندوة، خرج عن صمته وترك بشاشته، ليفضح صمتى المستور خلف خجل حقيقى عانيت منه كثيراً فى بدايه مشوارى فى الكتابه قال المؤلف (إللى حضرتك متعرفوش يا حسام بيه إن حسين عبد الرحيم بورسعيدى ودارس سيناريو وجه النهارده عشان يتعرف عليك، ياريت نبدأ بـــ حسين).
ــ قال صاصا ودا شيء أكيد هيسعدنى أنا شخصياً،
وقفت وكلى ثقه أعدد مساوئ الفيلم وحسناته التى كثرت مع زيادة تسليط الأضواء على شخوص هشه بالفعل داخل الشريط السينمائى ومن الممكن أن تكون خارجه أيضا، وقفت قريبا من الميكروفون الذى قربه إلى أحمد عبد الوهاب فأخذتنى العزة والكبرياء وقلت على مسمع الحضور سأتحدث دون مايك،، الصالة كانت صغيرة تتسع لحوالى خمسين مشاهداً،
قلت. ما أجمل شحاذك وهو يخرج بشكل نسبى مما رسمة وخطط له أو حطه مؤلفه كاتب أو صاحب النص الأدبى (عن نفسي) ودون أدنى مجاملة أعجبنى الفيلم، وليس وحدة (الشحاذ) ولكنه ولكننى عفواً سيدى أراه مكملاً لحواس عيسى الدباغ فى السمان والخريف هناك عدة طرقات فى نفس المضمار وهذا رأيى الشخصى ودون أدنى مجاملة الشحاذ طرقه أولى فى سكة ضياع البطل المنتمى واللامنتمى والسمان والخريف هو منتهى آلام بطلك لن أقول إن صابر سيد الرحيمى هو المنفصل عنهما ولكنه كان ولم يزل بالنسبة لشخصى المتواضع هو الخارج من أحشاء الفجيعة، والإنفلات المسمى دنس من قِبل الرائى لأحوال الأم أم صابر سيد الرحيمى التى لم تخش المجاهرة بالسوءً،، ووجدتنى أنظر فى ساعه يدى خلسة ورمقنى المؤلف ليعقب ووجهه ناحية الحضور عفواً يا سادة كمل يا حسين؟!
كنت قد ايقنت وبما لايدع مجالاً للشك أننى أصبت الهدف طرحت بعض المفردات الفلسفية التى جاءت على هوى الأستاذ المخرج وأرضت غروره، انطلقت أعدد كم الألام التى شعرت بها وأنا أتابع وعلى الدوام مشاهدة هذه الأفلام تحديداً الثلاثة، ” السمان والخريف ” ” الشحاذ ” ” الطريق ” كان قد زاد إرتجالى وتوترى وكأننى أتحدث عن نفسى، أحكى عنها أقبض على ذاتى وهواجسى.. وجودي؟! ماذا فعل بك الوجود وماذا فعلت أنت فى الوجود.. وهل أنت موجود بالفعل ….؟! وكيف طُرحت الأقدار رؤاها أو أفكارها أو حواجزها فى سكك أو مسارات بطلها الباحث عن جدوى وملاذ فى حياة عابثة. صفق الجميع دون استثناء، وأعتذرت مرات ثلاث عن الإطاله وأعقب صمتى وجلوسى على مقعدى أكثر من مداخله تشابكت مع ذروة الفيلم، وموضوعة. الوجود وحيرة الإنسان مع الأقدار وماهيه الخطى وكيف تتحدد المسارات،ساعة ونصف وقت أضيف على ساعتى العرض، الثلاث ساعات ونصف التى أنقضت فى المشاهدة وما قيل فى الندوة كانت الدنيا قد صارت جميله. وتمددت جسور. بل باتت التربه أو أرضية الحوار ممهدة، للقفز فى مناطق أخرى بينى وبين حسام الدين صاصا، الذى ترك كرسيه وهبط من أعلى الإستدج تتقدمه رفيقته مبتسمه تطل فى وجهى بحبور غير مفتعل، ترجل من خلفى ليضع أصابع كفه الأيمن على كتفى مردداً بود واضح إنك قاريء النصوص كويس. وعاجبك السمان والخريف أكثر، ولا ليك رأى تانى يا سحس
ــ هى دى الحقيقة يا أستاذ
التفِت إلى يتفحصنى وكأننى وجه جديد يريد تقديمه للعالم. أو العالم يعرفه ويحبه. بل ويحترمه هو شخصياً
ــ وإنت بتكتب أدب؟
ــ (روايه وأحياناً قصة)
ــ (ياريت أشوف إنتاجك؟!!)
فاتت سنوات. وكل يوم استعيد ما جري
صاصا ساكن فى االزمالك فى شارع السراى. قريباً من (بار توماس)، (بار توماس) فى شارع 26 يوليو ( وجريمة فى الحى الهادى )؟!! وشوارع ضاحيه الزمالك المتناغمة عشر سنوات مروا منذ أول لقاء مع الشحاذ و كلما انتهيت من كتابه نص جديد هاتفته
ــ مساء الخير يا أستاذ،
ــ مساء الفل. إزيك يا حسين (إيه مش هشوفك)
ــ شاهدت لك اليوم جريمة فى الحى الهادي
ــ إيه بتكتب إيه فى الأيام دى
ــ بكتب حاجات كتير. لكن للأسف ما زلت أبحث عن بطلى أو قل نفسى يصمت وأضيف وسماعة الهاتف على أذنى اليسرى مركوناً بكوعى على شباك النافذة المطله على ميدان العباسية، وقت الغروب …. ضاحية الزمالك جميلة، الشرفات فاتنه، والنوافذ الزجاجية المغلقة حبلى بألأسرار. فى وهج ضوء أبيض خافت..؟! ضوء أحمر متوهج، مرشحات ضوئيه وظلال … ثمة ذوبان لأطياف لونية. كونية، نفسية، روحيه،حُلمية … تنادينى من هناك.. تدعونى بالتلميح، تناجينى. تلُح على النداءات بلا صوت أشبه بنفحات تحرك ثمة حنين وذكريات، وسياط تلهب جسديوتتجلى روحى من جديد قرب شرفات بعيدة.. هناك؟!.. نعم هناك، الضوء الهارب يلقى بظلاله فتتمدد الستائر الأِرجوانيه،القرمزية الحمراء. البيضاء. السوداء. وتنسدل الستائر فتغلق النوافذ على مرمى بصرى، وتستقوى على الحواجز وتتعالى الجدران فالتفت منهكً الحواس، أبحث عن دار، ومنزله..؟! (ومنزلاً ……. كان هناك)
ــ (بار توماس ) الفيلم واكل حته من روحى يا أستاذ
ــ انت بتحب الزمالك.
ــ لأ حبيت الكونستابل اللى كان بيطارد المجرم فى شوارع نظيفة أد إيه كان فيه إحساس بالقيمه
ــ قيمة الناس. ولا قيمة المخرج.
ــ وباغتنى بالسؤال،
ــ (خلصت موضوعك القديم الذى حكيت عنه معى منذ عامين)
ــ (بار توماس يا أستاذ) هو ده اسم روايتى الجديدة،
ــ (وده لية ولا «لجون» صاحبك)،
ــ جون بيصور (اسكندرية كمان وكمان)؟!!
واعتذرت على الفور للإطالة خاصة أننى قد رنا إلى سمعى أن هناك من يقف بجانبه ويتكلم بصوت خفيض وأحسست بصوته يخشوشن ويصير أكثر جديه، مؤكداً
ــ ماشى يا حسين، أصل موعد دروس الأولاد الآن، عفوا نتكلم بعدين، (وخلصّ الرواية)
ــ شكراً يا جان اعطينى فرصه شهرين هزور بار توماس
ــ براحتك،
تذكرت ما حدث فى بار تو ماس وتلك الليلة الغرائبية التى جمعتنى بتلك الكاتبة الألمانية والتى تعرفت عليها فى مكتبة (ديوان) تذكرت كيف كنا نتحدث. وهناك ثمة هواجس كانت قد طفت فجأة تصبغ ملامح وجهها البديع الزائب فى الشقار … ورغم كل هذا إلا أن الأحاديث والحوارات بيننا قد طالت، تحت ظلال الأشجار القاتمه الموازية للأرصفة الرمادية قِبل نيل الزمالك وتختتم الليلة الليلاء داخل (بار توماس) فيا لها من ليلة …. ويا له من ضوء هارب تمدد بظل شاحب. خاتلنى وهالنى وأنا جالس ليلتها على البار وكاسات البلاك هورس ترسم على شفاهها قوس قزح يتمازج فيه الأُرجوانى والقرمزى. وهذا الأصفر البشع الذى كسى سحنتى المطبوع على صفحة المرآة الثقيله على جدران بار توماس.
فصل (2)
وجود؟!!
براحتك … براحتك ….؟!
وأى راحه تلك التى تسعى إليها.
“عيسى الدباغ” انت..؟! لا.. عيسى الدباغ كنت.. نعم، فى الصغر فى صباى كنت شحاذا اتسول العطف بالعذاب اشتريه فمن يبيع. أنا عمر بلا شباب وحياة بلا مستقر، مشتت أنا. ليتنى عيسى.؟!!. خرجت من عند صاصا وقت الغروب تذكرت هيئتة فى عدة لقاءات مضت، اشفقت عليه، أشفقت عليه أم على نفسي
مشتت انت بين واقعك الذى تحياه، وماضيك البائس، تفاصيل كثيرة هى التى لا يعرفها عنك حسام الدين صاصا فأى الأشياء تُرى سوف تدفعك للكتابه عن وجودك. ماضيك الأليم، طبيعة عملك الأنى، والتى لا تجهر بها ولا يعلم عنها أحد أية تفاصيل معاون إداري؟!.. مضطرا.ً مندفعاً وراء النسيان قبُلت بها. موظف، يمضى ويختم أوراق الموتى. رقيب على مشرحة مستشفى أحمد ماهر ترقُب الموتى. تحوطك الكلاب الضاله كل ليله، احادث نفسى،
ــ عن أى الأشياء ستكتب، وكيف ستكون روايتك الجديدة، عن من ستدون كل من تحمله من ذكريات ومواقف وأحداث وأحاديث طويله مضت ولم تنقطع،
ــ قُل أنت يا عبد الرحيم! ماذا يمثل لك البحر
ــ (بحر بورسعيد) يا أستاذ نجيب دنيا تانية بلاد غريبة، وموانئ عديدة بلا شطوط. بلا ضفاف. بلا شطآن،
ــ.. ( هناك مشيت يصحبنى أبى، رحلة يوميه، الأولى بعد الفجر والثانية قبل المغيب يحدثنى بوعى وبثقه العارف
عارف يا اد يا حسين،
عبد الناصر سكن فى الكابينة دى لمدة ست ساعات مع عبد الحكيم عامر بعد رحيل العدوان الثلاثى فى 56
ــ عارف يا حسين (عبد الناصر كان رجل وطنى شريف لكنه إنخدع).
ــ إنخدع ولا خدع الناس يا أبا ــ
أحاور نفسى، أجتر شريط سينمائى مفتوح على الماضى القريب والبعيد،
وأنت تسائل نفسك، تثرثر كثيراً دون جدوى،
ــ عن أى الأشياء ستكتب، زادت الظلمة وتخطت عقارب الساعه الثامنه مساءً، وأنا مازلت جالساً أرقب الكبائن البعيدة على الضفه الأخرى من كورنيش العجوزة، أمام مسرح البالون.
كانت الكبائن قد أطلقت ثمة أنوار مريبه،غبشه ضوء أحمر ضبابى وثمة إمرأة فى إسدال أسود تصعد درجات السلم قاصدة العوامة الوسطى. أحدق دون جدوى اردد فى نفسى هل هناك أحد فى الداخل قد ودعته هذه المرأة، فجأة صرخَت وكان الصراخ مدوياً، نهضت واقفاً فوق الجسر المؤدى لساقيه الصاوى بت أرتجف مستسلماً لهوى الخريف فعن اى الأشياء ستكتب. عن أى نفس، وعن أى روح وكيف كانت المسيرة والمسار، والمنتهى، وهل هناك نهايه لهذه الرحلة الطويله، ثمة محطات عديدة متناقضة فى سيرة حياتك أيها الجوزائى المتردد، جئت …؟!!
لا أعلم من أين.
ــ ابن أى زمن أنت.
أين ولدت. وكيف كانت الرحلة،
تحمل غيوم عيسى دباغ.. ضبابى الملامح شارداًً ترقب أنفاسك ولا تحصى مكنونها ولا تجلياتها، ولكنك تسعى. فى الأرض. فى المهد. طفولة وصبا وشباب ورجولة وأزمنة منتصف العمر عبرت منذ سنوات ست. وما زلت متناقضاً ولكنك تعى ما تريد.. دائخ أنت تترنح أمك هناك. وأبوك وأشقاؤك، شقيقاتك المرضى … بل مئات المرضى هناك يرقدون فى عنابر مستشفى أحمد ماهر فى باب الخلق،
أطل فى مرآة السيارات العابرة، الواقفة فوق كوبرى الزمالك، مخنوق تجتر، تعود للماضى، أحاول القبض على ثمة يقين نافع يصلح دليلاً فى خطى دربى، وعمرى رحلاتى الملموسة سعيى مسعاى.. دون جدوى. مشتتاً أُزهقت نفسى من نفسى،،
ترجل. فكم ترجلت،
أربعة وأربعون عاماً من عمرك، ستة وأربعون، مائة وأربعون يا انسان مشيت، منذ ساعة وأنا أمشى من شارع السراى الموازى لكورنيش الزمالك حتى صعودى للكوبرى الحديدى المؤدى لساقية الصاوي
جسدى ينتفض يراودنى هوى الفصول الأربعة رغم ركضى ومسيرى فى الخريف وقت المغيب أحدق فى شرفات عاليه بضاحية الزمالك، شرفات لا اعرفها ولا أعرف سكانها. ثمة ونس بعيد … بعيد … ملابس أطفال قرمزية وبرتقالية ونبيذية اللون معلقة فى مشاجب صلبة فى العُلا يطوحها هوى الزمالك بشرفاته الخالية مفتوحة على رب السماء الرمادية الغامقة دنوت اجلس قرب الرابية. المنخفضة قبل الكبائن الخشبية، ها هى العوامة70، كثرت الثرثرة وأنا جالس القرفصاء شارداً أحادث نفسى لعلها تستجيب تنطق بالمكنون الفعلى الراقد والمنسى، ارقب ما يدور فى الكبائن، هنا كان يرقد عيسى الدباغ فى زمن آخر مضى، تذكرت الأستاذ،
ــ قولى يا نجيب بيه ما هو الفارق بين النيل والبحر كتبت عن الأسكندرية فى (ميرامار) (الشحاذ) والسمان والخريف، وشهد النيل وكبائنه ثرثراتك مع الرفاق،
( قُلى انت يا عبد الرحيم؟)
ــ البحر دنيا تانية يا عم نجيب،
النيل محفوظ، وأنا مولود فى بحر بورسعيدى المولد كنت ولم أزل. وسأظل
حدثنا عن عيسى الدباغ يا أستاذ
عيسى الذى لم يكُتب بعد،
وسقطت الشمس فى جبها الغميق وأنا مازلت قاعداً فوق التراب أطل للعوامة (70) وأتذكر حديث الأستاذ
هتكتب عن أيه يا حسين
ــ وجودى؟!!
عيسى الدباغ كان مكهفراً على الدوام
وريرى. ريرى لم تكن داعرة.
وهذه الطفلة البديعة التى صرخت على اسفلت كورنيش الأسكندرية بالقرب من ميدان مصطفى كامل، لم تكن غواية، ولا خطيئة كان مثالاً و ثمة رمزاً. رمز طرحه القدر او قل عبثاً تجلى به القدر وخلته مجازاً يخرج مكنون عيسى من شرودة ورقدته الطويلة مع أفكارة،
ــ اكتب يا ابن عبد الرحيم
عن ريرى، عن الأستاذ، أصداء السيرة الذاتية، أحلام فترة النقاهه، عمرك، عمرك انت يا بن عبد الرحيم، صفحة النيل تطفح بالسواد، لم يكن الماء أبيض، لم يكن النيل نجاشيا، لم يعد صريحاً. طريداً أنا بُت، مستسلماً لسيرتى وذكرياتى وهواجسى وتقلباتى. وتناقضاتى فى أمكنتى وكافه حوادثى فى الزمان والعديد من الأمكنه، عدد محطاتك، عشرون عاماً فى بورسعيد وثلاثه وعشرون فى القاهرة.
فأى سيرة ستكتب،؟!!
التفت أطل لمكانى من فوق الكوبرى
استند بكوعى على الساتر الحديدى، احدق لعمق النيل الغامق.. اخاطب نفسى هل تفكر فى الإنتحار راودتنى الفكرة كثيراً.
ولكنى وللأسف عاشق للحياة،
عفواً فمن عرف جلال الموت. لهو قادر على القبض على لآلئ الحياة وإستنطاق جواهرها.
..........................
رنه الموبايل نبهتنى لفحوى المكالمة، (حسين أنت فين). تعالى ضرورى الأستاذ شفيع مشى تعب فجأة لازم تيجى المستشفى أنت نوبتجى الليله،
جريت فوق الكوبرى ألوم نفسى كان ضرورى تعّرف الأستاذ حسام بطبيعه عملك الوظيفى، معاون إدارى ترافق الموتى على الدوام حاولت ان أوقف الباص المتجه إلى بولاق أبو العلا حدقت لعقارب ساعتي
كان العقرب القصير الممتلئ قد تخطى التاسعه، بردان أنا. صرت اتحسس ركبتى قدمى اللابدة فى الحذاء الكرب البنُى،
كانت السيارات تنطلق على الأسفلت الأسود دون توقف ليأتينى صدى إصطاك الإطارات بخشونة الطريق غير متساوى،
جريت، فجريت حتى طال ركضى حتى وصلت محطه الإسعاف فى تمام التاسعه وخمسه عشر دقيقة، ركبت الأوتوبيس المتجه إلى السيدة قاصداً مستشفى أحمد ماهر، اشعلت سيجارتى الأخيرة فوق المقعد الأخير الخالى أخر الأوتوبيس كان الكمسرى منهمكاً فى إحصاء نقودة الورقيه طارداً النوم من عينية متحسساً جبينة كان يرقبنى من بعيد متواطئاً ناظراً نحوى بحنو مفرط وقد حدق يتفحص هيئتى وملابسى الباليه بدله كاوبوى زرقاء اسفلها قميص كاروهات أخضر يشبة بطانية من الصوف الرخيص، جهه عابدين وعندما فارق الأوتوبيس قصر عابدين طللت انظر لشارع بورسعيد من بعيد. الشارع شبه خال. إلا من بعض الشباب العاملين بالبورصه وقد جلسوا على رصيف مقهى «التجاريه» يلعبون الدومينو وشفاههم تقبض على مباسم النراجيل.
رابط دائم: