السينما يجب أن تحمل أسئلة وليس رسائل لتحريك المياه الراكدة بالمجتمع
حصل المخرج المغربي عز العرب العلوي علي جائزة أحسن مخرج من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي في دورته الحادية عشرة عن فيلمه « دوار البوم»، الذي يغوص بأسلوب سينمائي جرئ كاشفا عن خبايا المعتقل السري خلال الفترة التي يطلقون عليها في المغرب «سنوات الرصاص».
ويحكي الفيلم معاناة المعتقلين والحراس وأهالي الإقليم الذي يوجد به السجن، وحصل الفيلم علي تمويل إنتاجي من الدولة وحظي بدعم المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
وحول ظروف وملابسات إنتاج الفيلم والمعوقات التي واجهته، ومشروعه السينمائي الشامل
دارت محاور هذا الحوار كالتالي:ـ
مشهد من دوار البوم
هل يكون للسينمائي بالضرورة ما يسمي بمشروعه الفكري؟
بالتأكيد لأنه لا يمكن للمرء أن تكون له زوايا متعددة للوجود ، إنما هي زواية واحدة وجميع الأفلام تكون في الاتجاه نفسه، وفي نفس الزاوية مهما اختلفت المواضيع التي يتم تناولها، فلا يمكنك أن تكون، صاحب مبادئ وقيم في فيلم، ولا تكون كذلك في فيلم آخر، ولا يمكن أن تنتصر للإنسان في فيلم وتهاجمه في آخر ، إذن زاوية الرؤية يجب أن تكون متماسكة وثابتة.
وما أقصده هنا بزوايا الوجود هي فلسفة فكرية للمخرج حاول اكتسابها منذ الطفولة بالدراسة، وبالعلم وبالفكر وبالنقاش وبالمحاورات وبالكثير من الأشياء، وحينما تنضج وتصبح قابلة للتنفيذ يخرج بها في شكل كتب أو أفلام أو روايات أو شعر .
قضية فيلمك الجديد «دوار البوم» لم تكن الأولي بل هناك من تناول قضية وموضوع السجن الكبير، ما أهمية تقديم هذا الفيلم الآن وهل تري أن الظروف الآن خدمتك أكثر ممن سبقوك؟
بالفعل تم إخراج كثير من الأفلام حول ما يسمي «سنوات الرصاص» مع بداية سنة 2000 وهذه الأفلام شاهدتها وكانت بالنسبة لي كناقد وليس كمخرج أفلاما مباشرة إلي حد ما واعتمدت علي روايات وتجارب الآخرين في هذا المعتقل .. ولكن حينما فكرت في إخراج هذا الفيلم الذي كان من الممكن أن ننجزه بين عامي 2004 و2005 بل أنجزتة بعد 15 عاما من التمحيص والبحث والأفكار الجديدة والحرص علي أن أكون جديدا، خصوصا أنني ابن هذه المنطقة التي كانت فيها المعتقلات، أما الآخرون الذين قدموا أفلام هذه القضية فهم فقط درسوا روايات إنما أنا ابن هذه المنطقة وكنت أشعر«بكهل» وثقل هذه المعتقلات التي كانت جاثمة علي المنطقة وجاثمة علينا،
فطفولتي لم تكن عادية كالأطفال العاديين.. ونحن أطفال هذه المنطقة لم نعرف سوي اللعب ما بين المعتقلين والحراس وكنا نلعب مع أبناء حراس السجن ، فلك أن تصدق وأنا ابن الثماني سنوات كنت أعرف معني المعتقل، فالمنطقة كان مغضوبا عليها، وكان كل شخص يرتكب أخطاء في الرباط في أي مكان يرسلونه إلي هذه المنطقة كنوع من العقاب والانتقام .
سكان هذا الإقليم كان يجب أن يقوموا ويقدموا عريضة طلب « جبر ضرر» لأن الإقليم تضرر بشكل عام من هذه المعتقلات ولهذا كان لابد وأنا مخرج أن أقدم هذا الموضوع لأن المسئوليات الجسيمة التي كانت علي عاتقي وبالتالي ليس « ترفا» أن أقدم هذا الموضوع ولا أبحث عن التميز من ناحية «التيمة» بل أبحث عن التميز من ناحية المقاربة وابتكار نظريات جديدة في السينما تساعد علي تطوير هذا الحقل السينمائي، وبالتالي هناك فرق كبير بين ما تم إنتاجه وإخراجه وبين ما أخرجت وأنتجت.
«دوار البوم» أخذ منك سنوات طويلة حتي خرج إلي النور.. هل تتذكر متي جاء مخاض الفكرة ؟
فيلمي السابق «اندرومان» شاركت به في جميع مهرجانات القارات وتجولت به كثيرا وحصل الفيلم علي 23 جائزة ووسط هذا النجاح كنت أحمل هم الفيلم التالي ، وعندما كنت في إيطاليا جاءت الفكرة بسبب الخوف فالخوف جعلني أسرع بتقديم« دوار البوم» .
كنت ضيفا علي مهرجان للأفلام الإفريقية تدعمه الكنيسة وعندما وصلت في الثالثة فجرا وكان يستقبلني شخص ذهب بي مباشرة إلي غرفة كانت مخصصة لقس من الكنسية وأمدني بالمفتاح وتركني وحيدا داخل الكنيسة الضخمة فجاءني رعب كيف أنام وحدي في هذا المكان ووسط هذا الخوف والرعب لم أجد للنوم طريقا ، فبدأت أكتب بعض الكتابات وكانت هذه البداية الأولي فهذا الخوف الذي كنت فيه تلك الليلة هو ما فكرني بخوف ورعب قديم وبدأت كتابة « دوار البوم» وكيف يمكن لمجتمع كنت أعيش فيه أن أنتج وأخرج منه فيلما متكاملا.
ما أول المشاهد التي رسمتها؟
أول شىء بدأت بتخيل ديكور المكان الذي يتم فيه التصوير وهو عبارة عن أصفاد «كلابشات» دائرة ثم قنطرة ثم دائرة .. ومن بعد ذلك بدأ الفيلم يتنقل معي فكنت أكتب في الطائرة والقطارات .. وتجول معي الفيلم كثيرا وفي أماكن ودول ومدن لمدنة عامين وانا أكتبه وفي عام 2015 تمكنت من الحصول علي الدعم وتم التصويرو الانتهاء من انجاز الفيلم كاملا في 2018 فالفيلم أخذ مني ست سنوات لكي يخرج إلي النور.
البعض يقول: لماذا أهدرت كل هذه السنوات في فيلم وكان يمكنك إخراج عدد أكثر من الأفلام ؟
لا أهتم أن أخرج أفلاما كثيرة بقدر أن أخرج أفلاما باقية ، أفلاما لها قوة وقيمة وتعيش، وفيلمي السابق «اندرومان» مازال يطلب حتي الآن وهناك دراسات وأطروحات دكتوراه حوله وهذا أسعدني كثيرا وأتوقع أن يكون فيلمي « دوار البوم» أقوي من السابق لأن فيه رؤي وافكارا وجديدة.
من الملاحظات الإيجابية أن الدولة أنتجت الفيلم رغم أنه «يعري»أو يدين فترة من تاريخها وهي« سنوات الرصاص» ؟
لا أظن أنه يعري شيئا .. الدولة كشفت عن هذه القضية بنفسها منذ زمن وقامت بالمصالحة وطلبت من جميع المعتقلين ان يتحدثوا أمام الملأ عما عانوه من ويلات. إذن الدولة مارست التطهر منذ مدة وعوضتهم جميعا ماديا.
ولكن ما هدفك من تقديم هذا الفيلم الجرىء الآن؟
الهدف أن اقدم فيلما كان يثقل كاهلي باعتباري ابن المنطقة وفي الوقت نفسه، يحمل رؤي جديدة فنيا ويصلح لأي زمان ومكان وبالتالي لا أري أن هناك جرأة في الموضوع لأن القضية معروفة والدولة، أسهمت في الإنتاج والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، فالجرأة تحسب للدولة التي تحمست وأنتجت ولم تخش من تناول وتقديم وعرض أخطاء حدثت في الماضي.
هل بالضرورة أن يكون لكل عمل سينمائي قضية ورسالة؟
السينما ليس بالضرورة أن تحمل رسائل .. بل يجب أن تحمل اسئلة ، لأن بداية المعرفة هي الأسئلة. والأجوبة تكون موتا دائما لهذه الأسئلة وموتا للمعرفة .. وحينما يحمل الفيلم أسئلة أو سؤالا يتكرر عبر السنين يجيب عنه هذا الجيل وقد تجيب عنه الأجيال القادمة بطريقة أخري ، المهم في السينما أن يبقي السؤال حاضرا في الفيلم ويتكرر دائما وليست الرسالة .. الرسالة معرفة فوقيه وسفلية بمعني أنه أنا من أملك الحقيقة وأبعث برسالة للآخرين، أنا كسينمائي لا أملك الحقيقة بل أحاول أن أرمي بالحجر في الماء الراكد وأن أحرك هذا الماء بأسئلة متعددة داخل الفيلم وعلي الآخرين أن يقوموا بالبحث عن الجواب.
في فيلمك « دوار البوم » يوجد محور يتعلق بتوظيف الدين في أغراض سياسية هل هذا مقصود؟
طبعا.. لأن الدول العربية في فترة السبعينيات كانت توظف الدين لأغراض سياسية وأيديولوجية وهذا دين سياسي، أما الدين الحقيقي الموجود في كل الديانات فهو أن تكون متصالحا مع ذاتك وأن تري الخير خيرا والشر شرا، فنحن لا نحتاج لأحد أن يفسر لنا الدين أكثر من هذا.
رابط دائم: