تذكرتُ فجأة ذلك اليوم الذى جلستْ فيه أمى وقد أسندت صدغها إلى كفها فى أسى. كانت لتوها قد نزلت من فوق السطح. ما أن كان أحدنا يقترب منها متسائلا: ماذا جرى؟ حتى كانت تنفضه بعيدا عنها بأصابع يدها الأخرى وهى تردد بصوت خفيض: لا شىء.. لا شىء. كانت تنفض وتردد، دون أن ترفع عينيها عن الأرض.
ما الذى حدث فوق السطح؟ ما الذى نزل علينا من مقادير؟ أسئلة باح بها بعضنا إلى بعض. وأراد أحدنا حسم الأمر حين تطوع قائلا: هل أصعد لأرى لكم ماذا هنالك؟ فنهرناه، أسكتناه: إياك حتى تخبرنا هى ما الأمر.
جلسنا بعيدين، وسرعان ما انصرف كل منا إلى ما كان يشغله. كان أخى قد أنهى تخريم أغطية الكازوزة، فانهمك فى لضمها فى الأستك ليصنع منها عجلات لعجلته الخشبية. وأخذ أخى الآخر كعادته كل يوم جمعة يفكك أجزاء قلمه الأبنوس ليغسلها بالماء فى أحد أكواب الشاى.
دخلتُ إلى أختى فى غرفتها فإذا بها تضع المكواة الحديدية على رأس وابور الجاز المشتعل بقوة: «خلصتْ واجب الحساب؟» «شاطر». ضع الكراس على هذا الكرسى وسأصححه لك بعد أن أنتهى من كى المريلة. اذهب الآن كى تورنش حذاءك ثم استحم. كنتُ أتلقى الأوامر والتعليمات صاغرا، لكنى كنت أود ساعتها أن أقول لها: لكن أمى... لكنى سكتْ, فلم أكن أعرف حينها كيف أصوغ العبارة التى شعرت بها مُسننة فى فمى. فكيف كنتُ سأقول لها إن أمى جالسة هناك وهى كمن تدارى ما تشعر به من عار؟ عار! أفى بيتنا عار؟ رفعتْ أختى عينيها إليّ فانصرفت.
أى عار ذاك الذى نزلتْ به أمى إلينا من فوق السطح؟ كاد قلبى ينفطر حزنا على أمى. ماذا ابتلاها؟ ماذا دهاها؟... أمى.. يا أمى. كنتُ قد دنوتُ منها، فرأيتها عدّلتْ من جلستها، ورّبعتْ رجليها. أردتُ أن ألقى بنفسى كعادتى فى حِجرها، فسمعتها تتمتم بالفعل وهى تقلب بعض بيضات الدجاج، واحدة إثر أخرى، فى راحة يدها، وقد جعلتها كزورق صغير، ثم تضعها فى أسى فى حجرها بعناية: «يادى العار».. «يادى العار».
يبدو أن الأمر جلل! تراجعتُ تاركا أمى فى حالها وأنا لا أعرف ما هى العلاقة بين بيضات الدجاج والعار! لا بد أن هناك سرا آخر.. لا بد أن أعرف ماذا بأمى. وتوا استعدتُ بعضا مما قالته أختى لى: انتَ كبرت، فاعتمد على نفسك. تفضل، «ورنش جذمتك» واستحم بنفسك.
سأنفض الغبار عن «جزمتى» ولا يهم الاستحمام اليوم. مالك يا أمي؟ تسّحبتُ نحوها ثانية، فكدتُ أسمع منها كلاما متكسراً لم أفهم منه شيئاً: بيض من غير بذرة! وأنها لن تجرؤ على البوح بهذا لأبى عندما يعود، وبغتة وجدتُ أبى فوق رأسى أنا وأمى التى مازالت توشوش نفسها. خير! فزعتْ أمي: إن شاالله خير. ثم طأطأتْ رأسها، كأنها تُحّمل نفسها المسئولية، وهى تلم البيض فى يدها ناهضة: الديك طلع..... حقك عليّ.
رابط دائم: