عندما رأيت «تفيدة» تدخل بيتنا, شعرت بشىء غامض يدبر لشقيقتى سرا,وشعرت بنوع من الألم, خاصة أنها لا تقوى على إبداء رأيها, فى موضوع يخصها, خوفا من أبى, لم تكن «تفيدة» تتمتع بسمعة حسنة, لأنها لا تتجنب الكلام مع الرجال والشباب, كسائر السيدات فى بلدنا, وكانت تبتسم دائما, وتبدو ابتسامتها موحية بنوع من التورط, وكانت تبتسم لى دوما كلما رأتنى. كما كانت تقوم بتجميل العرائس ليلة زفافهن, وتساعد العريس على الدخول بزوجته, على الطريقة البلدية,, وكان بعض الخبثاء, يتداولون سرا, أحاديث غامضة, بأنها تقوم بالمهمة نيابة عن بعض العرسان, فى حال ما إذا كان العريس غبيا أو محرجا, وفضلا عن هذا, تقوم تفيده بتزويج البنات للشباب, وكانت اختياراتها دائما ناجحة.
بعد أسبوع من زيارة تفيدة, جهزت أمى حجرة الضيوف, كنستها, ورشتها, وأزالت الأتربة عن الدكك والمفارش الصوفية, وجهزت لأبى الجلباب الصوفى البنى, والشال الكشمير الفخم الذى يضعه على كتفه فى المناسبات, وأمرتنى ألا أتكلم فى حضور أبى. لم أعرف أهمية هؤلاء الضيوف, إلا عندما شاهدت السيارة البيضاء الفارهة التى وقفت فى الساحة أمام البيت, نزل منها رجل يرتدى بدلة كاملة, ليست أنيقة, كانت ضيقة عليه, من الناحية الأخرى من السيارة, نزل رجل آخر فارع الطول وفى قامته انحناء, ويرتدى جلبابا أبيض ضيقا وخفيفا، كانت للجلباب ياقة مقفولة, كياقات القمصان عندنا.
وكان يضع على رأسه «شال» على طريقة الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات, ويربط رأسه بعصابة سوداء, تتدلى من مؤخرة الشال على ظهره، عندما انتصبت قامته, رأيت عوده الهش!
سارا ببطء معا, نحو بيتنا, ولاحظت أن الرجل الطويل والذى يلبس الجلباب يعرج قليلا, ويضم إلى صدره المرتفع حقيبة جلدية صغيرة.
سلم الرجل ورفيقه على أبي, ثم قادهما إلى حجرة الجلوس، ثم جاء أعمامى وجلسوا.
تكلم الرجل المرافق للضيف, يبدو أنه موظف، كان قصيرا, لم يوجه كلامه إلى أبي, ولكنه توجه إلى الضيف, وقال:
أنت الآن فى منزل رجل شريف,عميد عائلته وشيخها, ذو الحسب والنسب.
ثم أومأ إلى الضيف العربى ليتكلم, وقال الضيف كلمتين لا ثالث لهما بلهجة مصرية:
معلوم. معلوم.
لاحظت انه لا يريد أن يتكلم أكثر من تلك الكلمات. وكانت مخارج الألفاظ عنده غير ميسرة, ولا تطاوعه, وكان يجاهد لإخراجها, ربما كان يعانى من ضيق فى التنفس, وهو ما بدا, من حركة صدره الواضحة المتسارعة, كانت رقبته تهبط بين كتفيه عند الشهيق, عندما يسحب الهواء من خلال عنقه الهائل إلى رئتيه.
كان من آن لآخر يتحسس الحقيبة, التى رفض أن يتركها بعيدا عن صدره, وكان يرمقها كل لحظة, كما لاحظت أنه كان يتعمد أن يجلس مستقيما, وعندما كان ينسي, تبدو إنحناءة ظهره واضحة وصريحة.
تكلم أبى, وقال وهو ينظر إلى الضيف, إن ابنته صغيرة ولا تتحمل تبعات الزواج. تململ الأفندى فى مكانه, وقال وهو ينظر إلى العربي:
إن الحاج (ثم نظر ناحية أبى ), لم يوافق على زواج ابنته, إلا بعد أن أقنعناه, وكان رافضا لفكرة زواج ابنته, بعيدا عن العائلة.
ثم سكت لحظة وقال:
ولكننى أقنعته.
وكررها مرة ثانية وقال:
أنا أقنعته بأن الثرى العربى, يريد مصاهرة عائلة من أكابر الصعيد..
وأشار إلى العربى الذى خفض بصره حياءً, ثم استطرد:
يريد مصاهرة أسرة مصرية كريمة وعريقة..
وأشار ناحية أبى.
راقت للعربى كلمة فابتسم, وكانت إحدى ساقية تهتز بطريقة تلقائية وعصبية, نظرت فيهما لأول مرة, فرأيته يرتدى «صندل», وداخله جورب من الحرير لونه أصفر, صعدت بعينى إلى جلبابه الأبيض, فرأيت بقعا قذرة عند بطنه, ربما تكونت تلك البقع, من تساقط الطعام بقايا الأكل, الذى كان يلتهمه بنهم شديد, قبل أن يأتى عندنا.
أيقنت وقتها أن كلمة ربما استعارها هذا الأفندى من أجل تحسين الصفقة..
كانت لحيته ناتئة, يبدو أنها لم تكن هكذا, لأنها كانت قصيرة, ولم تمض على حلاقتها أكثر من خمسة أيام, ورأيت لأول مرة العروق النافرة من رقبته, وألتى أظهرت أنه كبير السن. كانت كهولته واضحة, وظهرت التجاعيد عند رقبته, وفيها خطوط بارزة متهدلة, وكانت فتحة فمه واسعة, ومظلمة كالقبر.
خيل إلى أن أبى سيدفن شقيقتى النضرة كالوردة, فى هذا القبر, إذا وافق على زواج أختى من هذا الكهل.
هاجمت الرجل نوبة سعال, كانت خفيفة فى أول الأمر. ثم بدأت تسبب له إزعاجا وتقلقه, وكان بطنه يقفز فى كل مرة, عندما يسعل, كما كان فمه ينفتح تلقائيا, أيضا كلما سعل, وكان يخرج منه الرَزَاز, ويتطاير فى كل اتجاه, ولم يكن ضيفنا يهتم بمسح أنفه وفمه..
ثم بدأت نوبة السعال تشتد عليه وتضايقه, وتأتيه متباعدة, ثم بدأت تتقارب وتتضخم, ورغم ذلك فتح حقيبته, وأخرج منها علبة سجائر بيضاء مستوردة, وقدم لأبى سيجارة. لم يكن أبى يدخن فرفض, ولكن الأفندى تناول واحدة, ورفض عمها محمود أن يدخن فى وجود أبي, وأشعل لنفسه واحدة من ولاعة كانت فى حقيبته, رغم نوبة السعال التى كانت تفتك به!!
كان أبى ينظر إلى عمى قلقاًص, كأنه يستنجد به, لعله يقول شيئا يساعده, وظهر الإحراج على وجه الأفندى.
الغريب, اننى لاحظت أنه يحيط نفسه بكبرياء مصطنع.بدا ذلك من الطريقة التى وضع بها ساقا فوق أخري, وجلبابه القذر.
ثم هاجمته نوبة سعال أشد وطأة من الأولى.
والحق أننى تمنيت أن يعدل ضيفنا, عن فكرة الزواج ليستريح, ودعوت الله أن يخرج من بيتنا قبل أن يقضى عليه السعال.
كان الأفندى ينظر إليه بارتياب, وظهر عليه الخوف والقلق, وكانت عيناه تتحركان بسرعة فى كل الاتجاهات, وسرعان ما وجد الأفندى تبريرا لحالته قدمه إلينا على الفور, وقال أنه لم يتعود على البقاء بعيدا عن الغرف المكيفة.
وبدأ يستريح من أزمة السعال.!
وكان صوت تنفسه فيه حشرجة مسموعة وواضحة, ثم أخرج من جيبه شريطا به أقراص, خلع منه واحدة بأصابعه, ثم ألقاها فى فمه الواسع, لم ينتظر حتى يأتيه الماء, ثم مط عنقه الطويل المجعد, وبلع القرص بطريقة روتينية رائعة, وكأنه مدرب على بلع الأقراص بتلك الطريقة الجافة بدون ماء, من مدة طويلة,,بطريقة روتينية!
وبدأ صدره يعلو ويهبط فى تسارع, وكان يصدر عن تنفسه أزيز, ولكنه مع ذلك استعاد لياقته على إنتاج الكلام, وقال إن مدينتنا أعجبته, وأنه يريد أن يبنى مقبرة تشبه مقبرة الأغاخان فى أسوان!
وقال إنه يعرف أن تلك المقابر غير شرعية, وأنهم يدفنون موتاهم فى مقابر غير ظاهرة, ولكنه عاد واستدرك, ثم وجه كلامه إلينا وقال:
ولكنكم فراعنة, وتحبون المقابر.
ثم فاجأته نوبة ضحك غير مبررة, وقهقه بطريقة سوقية وفجة, ولكن السعال لم يمهله, ليستكمل قهقهته, فخرج منه صوت يشبه نقيق الضفادع!!
الاستهلال الذى أظهره الضيف, لم يعجب الأفندى المرافق له, وحاول أن يوجه مسار الحديث, بعيدا عن سيرة المقابر, ولكن صهرنا أشار إليه بالسكوت, وأعقب ذلك بابتسامة مصطنعة, كاشفا عن أسنان صناعية, رخيصة فضية اللون, ورأيت على وجهه صفرة باهتة منطفئة, لم تكن واضحة فى أول الأمر, ولكننى عندما دققت النظر فيه, وجدت أن عينيه أيضا صفراوان, وقال:
أنا.. أنا.
وسكت فجأة..
ثم استكمل بعد لحظات صمت:
سعيد لمصاهرتكم يا. يا. يا حاج.
كان من الواضح أنه يعانى من ضيق شديد فى التنفس, وكانت حركة الهواء فى رئتيه لا تمدانه بالهواء الكافى ليتكلم, وسكت فترة مناسبة, وبدا كمن استعاد قدرته على الكلام, وقال فجأة:
سأدفع عشرين ألفا, هى كل المهر والمقدم والمؤخر.
وشعرت أن سكينا جزت لساني, وأصبحت غير قادر حتى على التفكير.
سأله عمى عن العملة التى سيدفع بها. فقال:
بالدولار. بالدولار الأمريكى.
قفز الأفندى من مكانه ونهض واقفا, كمن لسعته عقرب, وقال:
بالمصرى.
ورفض عمى بإباء وشمم, وقال إنه يجب أن يدفع بالدولار.
وقال أبى انه سيأخذ رأى باقى إخوته غير الموجودين, وسألنى:
أنت درست ايه؟
قلت له:
خريج حقوق.
نظر إلى الأفندى, وطلب منه أن يجهز لى عقد عمل فى المؤسسة التى يمتلكها هناك, وضحك الأفندى وقال:
المزرعة والمؤسسة تحت أمرهم, بعد عقد القران.
شعرت بشىء غامض ينمو داخلى ضد هذا الرجل, وكان هذا الشىء ينبع من الطريقة التى تسلل بها هذا الرجل إلى بيتنا, والكيفية التى نطق بها المبلغ الذى سيدفعه ثمنا لشقيقتي, وحاولت أن أعرف الطريقة التى عرف بها أن فى بيتنا بنتا فى سن الزواج, وأيقنت أن ثمة تواطؤ بين أمى وتفيدة التى زارتها قبل أيام.
دخل أبى البيت, وهمس لأمى بكلمات, ثم استدعاني, وسألنى عن رأيى, ووجدت نفسى أخبره بأن يفعل ما يراه..
وكنت أرى شقيقتى صغيرة وجميلة, وكانت هادئة ومطيعة وصامتة, وذكية وفطنة,, وكانت تغسل لى ملابسى وتتفانى فى خدمتي, وقال أبى بعد أن خرج من عند أمى:
موافق.
وجاء عمى عبد المقصود الذى لم يتواجد من الأول.
وجاء المأذون, وقال وأبى يردد خلفه:
قبلت أن أزوج ابنتى البكر هانم على سنة الله ورسوله لقحطان بن عبدالله البالغ الرشيد على الصداق المسمى بيننا.
لسبب غامض, شعرت أن أبى كان مترددا!
فيما أيقنت سر تردده, كان هناك شىء ما يقلقه, ولم يكن مستريحا على الإطلاق, ولكنه مع ذلك قرأ الصيغة خلف المأذون وقضى الأمر!
فى اليوم التالى سافرت شقيقتى للقاهرة, فى نفس السيارة البيضاء التى وقفت أمام منزلنا, لم يوافق زوجها العربى على ذهابنا إلى الفندق الذى يقيم فيه, وقال إنه سيغادر فى نفس اليوم, كما لم يوافق قحطان, على أن نودع شقيقتى فى المطار.
بعد ثلاثة شهور وصلتنا رسالة من شقيقتي, عبارة عن شريط كاسيت, فى مظروف حملته إلينا سيدة تزوجت هناك, قبل شقيقتى بعام واحد, كان زوجها من نفس عائلة قحطان زوج شقيقتي, الذى قال لنا إنه ثرى, ولديه مزارع ومواش كثيرة, ولديه مصنع للجلود تبين لنا فيما بعد, أنه لم يكن سوى تاجر جلود بسيط, يجمع جلود الخراف والماعز, بسيارته بين النجوع, ويبيعها لتاجر جلود.
قالت شقيقتى فى الشريط, إنها تتجرع الآن الألم والحسرة, وإن حياتها لا تطاق, وقالت إنها تخدم عيال زوجها من زوجات سابقات, بينهم صومالية تركته وهربت, بعد أن أصيب قحطان بالصفراء, وقالت شقيقتي, إن زوجها عندما كان فى القاهرة كان مصاباً بالكبد, ويعالج فى عيادات مصر, لدى كبار الأطباء, وإنه أخفى ذلك. وقالت إنها تطحن الشعير والقمح على «الرحاية», كما كنا نفعل من زمن طويل, وقالت إنها تعمل الآن خادمة لزوجها المريض وزوجاته, وإنها فكرت فى الانتحار مرات عديدة, وقالت إنها تفكر فى الهرب, ولكنها خائفة, وقالت إن زوجاته يقلن لها إن المصريات رخيصات ويبعن أنفسهن بالمال.
كانت أمى تسمع الشريط وهى صامتة, وبعد أن انتهى سرد الشريط, أجهشت بالبكاء.
كانت شقيقتى تعتقد أن والدها لا يزال حيا. وقالت له:
اشترينى كما بعتنى.
كانت شقيقتى تبكي, وهى تتحدث وسمعت حشرجة بكائها فى الشريط, رفعت أمى يديها لأعلى وقالت:
منهم لله.
رابط دائم: