للسرد عند يوسف القعيد سمات مميّزة، كما هو فى كتاباته المتنوعة، وأحدثها روايته بصيغة التنكير مجهول، منتهية بفصل موجز هو:
أمـّا بعْد... ما أتعس الشعب الذى يبحث عن بطل!.
وفيما بين التراسل الدلالى بين العنوان والنهاية، أو الاستهلال، والخواتيم، يسيطر شبح الغياب/ الاختفاء، ومجهول الشخصيات والأقدار والأحداث والمواقف والأفكار والتأويلات والرموز، حتى نهاية السرد، فى خمسة مواقع، وأوّلها فى مطلع الفصل الأول، حيث الغياب الأول، ثم فى كنز الغياب، ثم يكون عنوان الفصل الثانى حقــْل المسْتخبّى، وفى مطلعه تأنيث الغياب، ثم يكون عنوان الفصل الخامس كفْر الغياب، ليسيطر على السرد كله غياب على غياب، غياب فى غياب، غياب آت من رحم الغيب، غياب يغطى على غياب، لم يتمكنوا من فكّ ألغازه والإجابة عن أسئلته، حيث بدأ السرد بالجملة الأولي: واختفى حسن أبو على، وكأنه يعْطف سردا على سرد، وقولا على قول، وكأننا إزاء سرد سابق، وآخر لاحق، ثم تلتْْ الجملة الأولي:
يوم اختفائه كان يوما غريب الخلقة، ناداه الغياب تهيـّأ لغواية المستخبّى ولعبة الاستغماية، واستعد، وحلق، واختار ملابسه بعناية منْ سيزف لغيابه، وتعجبت زوجته كيف فاتها ملاحظة ما طرأ عليه من غريب وعجيب، وطرح الأهالى الأسئلة الحائرة: هل صعد الجبل؟، هل غواه غموض المعبد؟ أم أن الترحال ناداه؟ هل ذهب للديب، وهرب إليه ليخبّئ الكنز عنده يحرّس الديب على الكنز، وصارغيابه قضية رأى عام حول كنز ظل على مدار الأجيال شغلهم الشاغل، وكل جيل يضيف أساطير إلى من سبقه، وسمّاه الأفندى كنز ق.ع(قطاع عام)، وتبخر حسن فى الهواء، وظل أهل الكفر لاينسون الكنز، كنز الكنوز يبدد وحشة البر، يحركهم الكنز، برائحته، وسبح الجميع فى بريق الكنز.
هنا يتهيأ السرد لاقتحام عالم الميثولوجى، والفانتازيا، تراسلا مع ذلك التراث الأسطورى والميثولجى حول النيل منذ أقدم العصور، فكأننا أمام شخص ندهته النداهة، قال سعد الله: خبأت النداهة له(حسن أبوعلي) الكنز فى باطن الأرض السابعة تحت بحر النيل، ولها نصيبها، قال المستمعون: النداهة قد تمنحه الولد. ردوا: النداهة لا تظهر إلا فى الليالى المقمرة....
وهكذا ذهب حسن إلى بحر النيل ولم يعدْ عند البحث عن هدومه على شاطئ النيل وجدوها ملفوفة فوقها قالب طوب أحمر، استغربوا. نصفها المبلول غطته المياه، ونصفها الجاف على البر، وقال أحدهم: من الذى يعطى أذنه لإنسان نصفه الأعلى إنسيّ، ونصفه الأسفل من الحديد، مخاو جنّيّة، حيث كانت ملابسه: نصفها فى الماء ونصفه على البر؟.
ثم اختفاء ابنته أحمدة، ثم كان الغياب الثالث، وهو اختفاء أم على نبوية، ولم يبق فى البيت أحد سوى الجدران، وكان الغياب الثالث خاتمة هروب عائلة حسن أبو على.
قال سعد المر: الكنز فى قاع النيل تحت الماء أرض، وفى الأرض حفر(حسن أبو علي)، وفى إحدى الحفر خبّأ الكنز والغطس مجرد حيلة، حت يتصرف فى الخبيئة التى خبأها فى مكان لايعرفه الدبان الأزرق، ليكون النقد موجها للمجتمع السابح فى الأوهام، النائم عن الواقع فى نهاية مفتوحة منذ الجملة الأولي: واختفى حسن أبو على، لنجد الدفقة الأخيرة البليغة فى السرد، وما تشعه من معان ودلالات:
أما بعد.
ما أتعس الشعب الذى يبحث عن بطل!.
وهنا نتذكر، أو نعود بالذاكرة إلى العنوان الثانى، أو الفرعى، أو العتبة التى تصدرت الغلاف مفسرة للعنوان الأساسى، وهى رواية بلا نهاية.
الجبل:
ومع النيل وأساطيره، وسابع أرض، نجد للجبل رموزه ودلالاته، ففى شعرنا القديم يحيط جبل قاف بالعالم السّفـْليّ بجوف الأرض، وكان الجبل حاضرا فى تفسير اختفاء البطل، قبل أن نلتقى فى الفصل السادس بعنوان الجبل، وهو جبل المعْبد، فى نصفه المحبوب: جنة رضوان، وقالوا عنه جبل القرآن، يسمعون تراتيل القرآن فيه، يلفه الضباب ليلا، وفيه دخان أبيض نهارا، هامته خضراء، وفى جزئه الذى يهابه الكل: نارجهنم، بينها وبين الجنة معْبر، مكان مهجور، والجبل، عادة فى صعيد مصر هو مأوى المطاريد، والجبل هنا هو الطريق إلى الحمْل للعقيمات، الجبل بما فيه من خرافات، حيث تقبع بآخره شجرة عجوز هى روح منْ حاول هدمه، هجم النيل على الجبل، ثم عاد إلى مكانه، حتى قال أحدهم: أساطير الأولين، أكاذيب وأساطير، وقالوا بصعود حسن أبو على إلى جبل الجنة تحت ستار الليل، وفى جنة رضوان خبّأ الكنز...، ولم يكن صعود الجبل من تلقاء نفس الصاعدين، وإنما انجذبا للجبل، حيث أشار ليهما، الابن والابنة، صائم الدهر أما الكنز فطار إلى الجبل، دون أن يحمله أحد..... فكروا فيمن يصعد للجبل، وشجعوا عرفات، برغم يقينه بأن ذلك كله مجرد أساطير، وهى رحلة عجيبة مليئة بالتفاصيبل الخرافية.. دنيا من الأساطير،وعالم من الوجد والتوهان.. باب كبير لمعبد كبير، وأبواب وأبواب، ونوافذ... لفّ ودار، ودار ولفّ.. لمس الباب فانفتح.. والكنز.. وهْم الأوهام وأسطوة الأساطير. تقدّم ولمْ يصلْ.. اقترب وليته ما اقترب، ينتهى بالجملة الأخيرة فى هذا الفصل: ثم حدث أن..، ليليها النص المكتنز الذى كررنا ذكره، لنقف أمام تعلق الجماهير بالوهم والأسطورة، والأمل الكاذب والبطل الوهمى، أى غياب الوعْى فى كفْر فاضى، يجعل من الحبّة قبّة، ويعيش فى غياهب أساطير صنعها لنفسه، وأضافها إلى ما ورثه عن الأقدمين، منذ قال قائلهم الجاهلي: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، 12، هود.
رابط دائم: