كل ثورات مصر منذ 1919.. مسيرتها نحو الأفضل مهما حدثت انتكاسات
من الصعب اختزال شخص بقيمة محمد فائق فى كونه رجل دولة من طراز رفيع أو مفوضاً سامياً بحمل أهم الملفات المصرية فى عصور مختلفة أو مجرد شاهد على عدة عصور فارقة فى عمر بلدنا ومنطقتنا، لكنه بالفعل كرجل نبيل مخلص كان ومازال جزءا من التاريخ المصرى، ولم يملك تجاهه الجميع سوى التقدير والاحترام حتى من اختلفوا معه وسجنوه سنوات فقط لأنهم لم يستطيعوا شراء موافقته على سياستهم المغايرة لمبادئه، وبنبل حقيقى يترفع السيد فائق عن الهجوم على من سجنوه، فقضيته دومًا هى مستقبل وطنه والتعلم من التجارب للنهوض بمصر.
وخلف الرقى الفائق والهدوء شخصية عسكرية منضبطة صارمة فى نفس الوقت متحمسة ثائرة لا تحيد لحظة عن قناعاتها مهما حدث، لذلك فالحوار معه دوماً طازج ومفيد مهما تناولنا معه من موضوعات متشعبة قديمة وحديثة، لكننا ركزنا فى الحوار هذه المرة بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو سنة 52 على أهدافها؛ ماذا تحقق وماذا تبقي؟، خاصة بعد قيام ثورتين شعبيتين جديدتين مازلنا نخوض غمارهما، كما تناولنا مسألة حقوق الإنسان وهل أغفلتها الثورات المصرية أم حرصت عليها؟، ولكن قبل الحوار، هذه لمحة سريعة من تاريخ الرجل، وكذلك تاريخ الوطن.

جمعت السيد محمد فائق علاقة وطيدة بالرئيس جمال عبد الناصر وقت أن كان طالباً بالكلية الحربية بفرقة خاصة بمدرسة الشئون الإدارية ودرس له ناصر مادة (التحركات)، ثم قامت ثورة 52 ليكلفه ناصر بالعمل فى تأسيس جهاز المخابرات العامة المصرية حاملاً حقيبة العلاقات المصرية الافريقية على عاتقه منفذاً لأهداف النظام الناصرى تجاه أفريقيا، من دعم حركات تحرر الشعوب من الاستعمار وخلق علاقات قوية معهم كعمق استراتيجى حيوى لمصر، وإن لم تكن هناك وحدة حقيقية معهم فهناك تعاون اقتصادى وسياسى وأمنى يوجد قوة اقليمية ضد مطامع المستعمرين فى كل مكان، وبوفاة جمال عبد الناصر ماتت سياسته تجاه أفريقيا وتجاه مصر وحربها ضد اسرائيل، وكان فائق وقتها وزيراً للإعلام فأعلن استقالته وقرر اعتزال العمل مع الدولة التى لم تعد تتوافق مبادئها مع قناعاته الشخصية، فكان جزاؤه الاتهام بالخيانة العظمى والسجن عشر سنوات (دون أى دليل سوى هوى النظام)، وبعد مرور نصف المدة طُلب منه الإعتذار للسادات كى يتم الإفراج عنه ولينال حريته والعودة إلى أطفاله الصغار وحياته خارج أسوار السجن، لكنه رفض بإباء أن يعتذر عن جرم لم يرتكبه وأكمل عقوبته الظالمة حتى خرج منها مهموماً أكثر بالحرية وحقوق الإنسان، فتم اختياره رئيساً للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ثم رئيساً للمجلس القومى لحقوق الإنسان، ليظل يعطى الوطن حتى إن تغيرت الأماكن والسياسات.
فهل نستفيد اليوم من رؤية تاريخ فائق كمهندس للعلاقات المصرية الافريقية فى ظل ظروفنا السياسية الحالية، ومن دروس الأخطاء التى لم ينكرها الرجل فى العصر الناصرى الذى يدين له بالولاء الدائم، ويبررها بنظرة شاملة لمصلحة الوطن، ومن نظرته للمستقبل من خلال تجارب الماضى والحاضر؟
> الأستاذ فائق.. بعد نحو ستين عاماً هل نتحدث عما تبقى من ثورة 23 يوليو اليوم فى 2018؟
- أحدثت ثورة يوليو تغييراً عميقاً فى المجتمع المصرى فحتى اليوم نحن جمهورية مصر العربية ولسنا مملكة ، كذلك قضت ثورة يوليو على الإقطاع الذى كان به شكل كامل للعبودية وقللت الفوارق بين الطبقات بشكل كبير وأسست جيشا حقيقيا ولاؤه الأول والوحيد للوطن وهذا نلمس أهميته حتى اليوم من خلال ما مر بمصر وبالمنطقة العربية .
الأهداف أحياناً تنتكس لكن يتم تصحيح مسارها والدليل على ذلك ثورة 25 يناير التى طالبت بالرجوع إلى مبادئ ثورة 23 يوليو من تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستقلال وتم رفع صور جمال عبد الناصر فى الميدان ليس لتأليه الشخص لكن للمناداة بالعودة لمبادئه ومبادئ ثورته التى أجهضها الانفتاح وما تلاه من سياسات أعادت الفوارق الاجتماعية والمادية الهائلة بين الناس وجعلت الإنتاج يتراجع والديون تزيد، وبالتالى يزيد الفقر، وينهار التعليم والصحة والخدمات وبالتالى فالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية هى مبادئ ثورة 52 التى بقيت والتى ستستمر.
> ماذا تحقق من أهدافها؟
العدالة الاجتماعية بالطبع تحققت والقضاء على الفجوة المهولة بين الطبقات.
> عدالة الفقر أم اشتراكية الفقر فى قول آخر؟
هذا كلام ملتوٍ.. ما عمل عليه عبدالناصر هو اشتراكية الكفاية وتوزيع الثروة بشكل عادل على الجميع كذلك زيادة الإنتاج ليعم الرخاء على كل البلد وليس على عدد محدود والبقية تعانى الفقر ولنا أن نرى كيف عمل عبدالناصر بل ونجح فى زيادة الإنتاج والتصدير للخارج، يكفى أن نعرف أن عبد الناصر بدأ حكمه بمشروع مكافحة الحفاء، حيث كان الفقراء لا يملكون حتى ثمن الحذاء وقضى على تلك الظاهرة ليعيش الفقير (وكان الفقراء على الأقل ربع تعداد الشعب)، فكانت الإشتراكية هى اشتراكية الكرامة والعدل وليس اشتراكية الظلم أو الفقر.
> ماذا تحقق من مبادئ يوليو وقتها ومازال مستمرا حتى اليوم؟
ـ وقتها تحققت كل الأهداف.. بالطبع نتعرض كأى بلد فى العالم لإخفاقات أو انتكاسات لكن المهم هى فلسفة الحكم، هل هى فلسفة انهزامية أم تسعى للمقاومة والحرية طول الوقت، فالثورات تغير المجتمع بعمق، والنسيج الوطنى بناء مكتمل لا نستطيع فصل فترة عن أخرى أو حاكم عن آخر، ولا نستطيع أن نقارن عهدا بعهد أو ثورة بثورة، فالمسيرة متكاملة، يكون حدث ما انتكاسة فيحدث بعدها إفاقة أو تصحيح للمسار واستعادة للمبادئ. لذلك لا أرى فرقا بين ثورة 19 ويوليو 52 و25 يناير و30 يونيو، مع اختلاف الوسائل والنتائج واختلاف المجتمع، لكن المبادئ واحدة يتم أخذ خطوات فى طريقها أو التراجع قليلاً عنها أو حتى الانتكاسة لكن بالنهاية هى مسيرة وطن نحو الأفضل.
> والاتجاه نحو القومية العربية وتحرير الدول الافريقية وحرب اليمن التى أنهكت الجيش قبل النكسة وإنفاق كل هذه الأموال من أجل تلك الغاية، كيف يراها السيد محمد فائق مهندس العلاقات المصرية الافريقية؟
ـ خلق الله مصر واختصها بهذا المكان والمكانة للقيام بدور، فهى ليست مجرد دولة مثل أى دولة من دول العالم الثالث، لكن اتحاد مصر والعرب يجعلها دولة كبيرة لها ألف حساب اقليمياً ودولياً، وبالنسبة لأفريقيا هى عمقنا الإستراتيجى ومساعدتنا لها لم تفقدنا المال لكن تواجدنا هناك من خلال الشركات الاستثمارية والأجهزة المخابراتية التى عملت لمصلحة مصر خاصة بعد زراعة إسرائيل فى المنطقة العربية، وتوغل المخابرات الإسرائيلية فى أفريقيا وتهديدنا المباشر بتخفيض حصتنا من مياه النيل، والعمل عموماً ضد مصالحنا، وهذا يؤكد كم كان دورنا فى افريقيا أمرا مهما، وبالنسبة لحرب اليمن بالفعل معكِ حق فى خسارة مصر من الناحية المادية وقتها وكذلك إنهاك الجيش بالطبع، لكن تخيلى اذا لم نكن قد ساندنا اليمن واتحدنا مع العرب كيف كنا سنتمكن مثلاً من إغلاق مضيق باب المندب وقت الحرب.. علينا أن ننظر للصورة الكاملة.
> من أهم الاتهامات الموجهة إلى ثورة يوليو وما تلتها من ثورات إغفال مبادئ حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية الحقيقية وإقصاء الآخرين سواء كانوا سياسيين أو أصحاب الآراء المغايرة؟
ـ فى فترة يوليو كان الغرب يدافع عن فكرة التمييز العنصرى واستعمار البلاد ونهبها بينما ندافع نحن عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، كنا سابقين للعالم فى المناداة بحقوق الإنسان، فاحتلال فلسطين ضد حقوق الإنسان، والمجازر فى افريقيا ضد حقوق الإنسان، واستعباد البشر ضد حقوق الإنسان، ونحن من حارب ذلك، الآن يدعون أنهم مع حقوق الإنسان وفقاً لمصالحهم فقط وليس لوجه العدالة، ليس معنى كلامى أننى أدافع عن وضعنا فى حقوق الإنسان فأوضاعنا كانت وما زالت تحتاج إلى تغيير، ونحن ككل الشعوب نتطلع دوماً للمزيد من الحرية والديمقراطية وغيرهما، ونسعى إليها، ونتقدم فيها قدر الاستطاعة، لكن يجب أن نعى أن «كارت» حقوق الإنسان يستخدمه الغرب فقط فى قضايا التفاوض السياسى واذا وصلوا إلى هدفهم نسوه.

أما ما يتبقى من فكرة ممارسة الديمقراطية بالشكل المفهوم كالتنوع الحزبى وغيره لا يمكن تطبيقها بشكل كامل فى يوم وليلة لكن الأمور تتطور، فمثلاً الآن يمكن إنشاء الأحزاب دون الرجوع للدولة، وكذلك تم تعديل قوانين كثيرة تشمل المشاركة السياسية الحقيقية، فنجد الآن الانتخابات مثلاً بكل مراحلها نزيهة بالفعل بما فى ذلك انتخاب محمد مرسى نفسه، وبعدها انتخابات الرئيس عبدالفتاح السيسى، كذلك انتخابات المجالس النيابية وغيرها، ونعمل الآن على قانون لتحديد مدة الحبس الاحتياطى، وتقصيرها، وقريباً سيخرج للنور ويتم تطبيقه.
> هل توجد ذراع إعلامية توضح عمل المجلس القومى لحقوق الإنسان داخلياً أو خارجيًا؟
بالطبع نتعاون مع الهيئة العامة للاستعلامات وكذلك معظم الدوريات العربية والدولية ونرفع تقاريرنا للأمم المتحدة ونكرم الأعمال الدرامية المتوافقة مع مبادئ حقوق الإنسان لأننا نعتقد أن حقوق الإنسان ثقافة يجب أن يتعلمها الناس، فمثلا معنا فى المجلس القومى لحقوق الإنسان المخرجة الكبيرة انعام محمد على والفنان محمد صبحى، ولدينا العديد من البرامج التى ترسخ هذا المفهوم لدى أكبر قطاع من الناس.
> إذا تحدثنا بشكل أكثر تحديدًا، هل نجد مثلا أن السجون المصرية تتوافق قديماً وحديثاً مع مبادئ حقوق الإنسان؟
لا أريد أن أدافع عن الدولة لأن دور المجلس القومى لحقوق الإنسان الرقابة على أجهزتها أو المطالبة بتطوير بعض الهيئات لكننا نرصد الانتهاكات ونقدم بها تقارير لرئيس الدولة ولرئيس الوزراء ويتم صياغة قوانين يقرها فيما بعد مجلس النواب، فمثلاً التعذيب كان فى فترات سابقة منهجياً والآن أصبح مجرماً، وإذا تم القبض على ضابط يمارس ذلك يتم عقابه على الملأ ويحصل على أقصى عقوبة.
> وماذا عن أصداء الحرب على الإرهاب والإجراءات الاستثنائية؟
لا نغفل الظرف الاستثنائى الذى نعيشه اليوم فى ظل الحرب على الإرهاب، على المعتقلين خاصة مع الإجرام الذى مارسته الجماعات المتطرفة خاصة بعد فض رابعة وتعمدهم تفجير هذا العدد الكبير من الكنائس والاعتداء على رجال الشرطة والجيش وقتل الأقباط لذلك نقدم كل فترة بيانا بعدد من أسماء الشباب غير المتورطين فى العنف ونقدمه لطلب العفو عنهم، وبالفعل يتم العفو الرئاسى عن عدد كبير كل فترة والبقية تأتى، وتستجيب لنا الدولة فى العفو عن آلاف الشباب المقبوض عليهم فى قانون التظاهر وغيره، بعد أن عملنا على تعديل القانون وسنعمل على تعديله مرة أخرى لتحتفل مصر قريباً بخروج آخر سجين سياسى بها بإذن الله.
> السيد محمد فائق.. فى 2018 كيف ترى اليوم والغد فى مصر؟
أرى أن ربط التنمية بحقوق الإنسان هو السبيل الوحيد لمستقبل أفضل، فمن أهم حقوق الإنسان للمواطن فى مصر أن توفر له الدولة التعليم الجيد المتوافق مع المعايير الدولية (كحق من حقوق الإنسان وليس مجرد احتياج)، وكذلك الرعاية الصحية المحترمة، ويجب أن تكون التنمية من أجل الإنسان بهدف ألا يكون هناك فقير، ويجب أن نعمل على هذا فى ظل زيادة سكانية تبتلع كل جهد تنموى. تلك سياسة بعيدة المدى لن تظهر آثارها فى يوم وليلة لكن الطريق واضح والجميع يعمل عليه، ونجد أن برنامج الأمم المتحدة للقضاء على الفقر تماما قبل 2030 يعمل على ذلك أيضًا.
> هل تستطيع مصر القضاء على فقر حوالى 40 % من سكانها؟
نعم نستطيع، ولا بد أن نستطيع، ويجب ألا نضع العبء كله على شريحة معينة، فالعمل يجب أن يكون مشتركا والتضحيات مشتركة على الجميع حكومة وشعبا.
رابط دائم: