مونديال روسيا 2018 صار علامة فارقة فى تاريخ الدولة الروسية وعلاقاتها مع الخارج على النحو الذى يمكن معه أن نؤرخ لروسيا بالقول «ما قبل المونديال» ، و«ما بعد المونديال». هذا ما يردده الكثيرون من ممثلى كل الأوساط الرياضية والشعبية فى روسيا وخارجها لدى تناول ما شهدوه ويواصلون مشاهدته فى روسيا المترامية الأطراف، المتعددة الأعراق والجنسيات من إنجازات مبهرة غير مسبوقة على مدى تاريخ الدولة الروسية عامة، والعلاقات الإنسانية على وجه الخصوص.
الواقع الراهن يقول إن روسيا نجحت فى إبهار العالم من خلال تنظيم أجمل وأحدث عرس كروى فى تاريخ كرة القدم منذ انطلاقة أول مونديال كروى فى أوروجواى عام 1930. ويقول الواقع أيضا إن الرئيس فلاديمير بوتين نجح فى الاستفادة من هذا الحدث العالمى لفرض بلاده على خريطة الرياضة العالمية، فى نفس الوقت الذى استطاع فيه احتواء ما سجلته أجهزة قياس الرأى العام من تراجع طفيف فى شعبيته، ولم يكد يستمر فى منصبه أكثر من شهرين بعد فوز ساحق فى الانتخابات الرئاسية الماضية بأغلبية تقدر بما يزيد على 76% من أصوات ناخبيه، تؤكد مشاهد الموقف الراهن فى موسكو وكبريات المدن الروسية مدى النجاح الهائل الذى حققه بوتين لبلاده من وراء تنظيم بطولة العالم لكرة القدم، وما نجم عن ذلك من ارتفاع نسبة مناصريه ومؤيديه، على الصعيدين الداخلى والخارجى على حد سواء.
ورغما عما نشرته مصادر مركز «فتسيوم» (مركز عموم روسيا لاستطلاع الرأى العام) حول ان ارتفاع اسعار البنزين وقرار الحكومة الروسية برفع سن الإحالة إلى التقاعد من ستين حتى خمسة وستين عاما للرجال، ومن خمسين حتى خمسة وخمسين عاما للنساء، يقفان وراء تراجع شعبية بوتين ورئيس حكومته دميترى ميدفيديف، فان الأرقام الرسمية تقول إن الرئيس الروسى حقق لبلاده الكثير من المكاسب الاقتصادية التى تقدر قيمتها بما يتجاوز العشرين مليار دولار، فضلا عما استطاعت روسيا الفوز به من دعاية إعلامية وسياحية استقطبت اليها الملايين من زوارها ممن صاروا اليوم سفراء غير معلنين لهذه الدولة التى طالما عانت ويلات الحصار والعزلة السياحية ، قبل السياسية والاقتصادية.
ولعلنا فى هذا الصدد نضيف ايضا ما كسبته روسيا من مفردات بنية تحتية رياضية، تفوق كثيرا ما تملكه كبريات البلدان الأوروبية والغربية من منشآت مماثلة. ولعل ذلك ما قد يمكن ان يكون وراء أرقام اخرى صادرة عن مركز «ليفادا» وهو أحد ابرز المراكز الروسية لقياس الرأى العام ، تقول «إن 51% من الروس يتمنون استمرار فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا، بعد عام 2024»، بما قد يعنى عمليا استمراره فى منصبه مدى الحياة، وهو ما تحذر أوساط المعارضة الروسية من مغبة الإغراق فى الترويج له.
على أن ما تشهده موسكو وكبريات المدن الروسية من تنظيم دقيق مبهر، واستقرار أمنى رفيع المستوي، كفل الحماية اللازمة لما راحت تموج به روسيا من احتفالات صاخبة واسعة النطاق، ومسيرات كروية مبهجة شارك فيها الملايين من أبناء وضيوف روسيا، وعشاق «الساحرة المستديرة» فى كل أنحاء العالم ، قد يقال إن روسيا وقياداتها السياسية والرياضية حققت ما لم تحققه أى من الدول التى سبق أن حظيت بتنظيم مثل هذه البطولة، منذ استضافت أوروجواى أولى دورات هذه المسابقة فى النصف الاول من القرن العشرين. حقق بوتين ورفاقه ممن لا تزال الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الاوروبى تدرج الكثيرين منهم فى قائمة العقوبات منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية فى عام 2014، ما لم يحققه الكثيرون من أسلافه فى معظم البلدان التى سبق أن شرفت بتنظيم مثل هذه البطولات والفعاليات الرياضية العالمية. ونجح الرئيس الروسى فى تجاوز كل العراقيل والمحاولات التى استهدفت الحيلولة دون تنظيمه لهذه البطولة وإفساد أجوائها، على غرار ما فعلته القيادات الغربية التى سبق واعتذرت عن عدم حضور حفل افتتاح الدورة الاوليمبية للالعاب الشتوية فى سوتشى فى فبراير 2014 ، الى جانب ما يذكره التاريخ من مقاطعة «جماعية» شملت دورة الالعاب الاوليمبية الصيفية فى موسكو عام 1980، وهو ما ردت عليه موسكو بالمثل، بمقاطعتها مع حليفاتها من الدول الاشتراكية وبلدان المعسكر الشرقى دورة لوس انجلوس فى عام 1984.
وكان مئات الألوف من مشجعى كرة القدم وهواة الرياضة تقاطرت ومعها عدد من أبرز القيادات السياسية فى العديد من مختلف بلدان العالم إلى روسيا للمشاركة فى هذا العرس الكروي، لتؤكد بما لا يدع مجالا للشك فشل محاولات الربط بين الرياضة والسياسة ، وإحباط كل المخططات التى استهدفت بها الولايات المتحدة وحليفاتها من بلدان الاتحاد الأوروبى عزل روسيا وإحكام حصارها وتشويه كل مكتسباتها وانجازاتها الحضارية والرياضية. وما إن انطلقت فعاليات مونديال 2018 حتى صارت روسيا المترامية المساحات والمتباينة الثقافات والاديان والاعراق، الشغل الشاغل ومحور أحاديث وإعجاب الكثير من شعوب العالم، بينما راح مئات الألوف من زوارها يتبادلون أجمل الحكايات والمشاعر، ويتغزلون فى طبيعتها وخصال أبنائها و«فتياتها» اللاتى تصدرت صورهن أغلفة وصفحات الجرائد والمجلات المحلية والعالمية. وهكذا تحول الكثيرون من زوار روسيا، سائحين كانوا، او مشجعين وشهودا لعرسها الكروي، الى «بطاقات تهنئة» تدعو العالم الى التسامى فوق خلافات رجال الحرب والسياسة، وتناشدهم المشاركة والاحتفال ومتابعة ما تحقق ويتحقق من انجازات على الارض الروسية، وهو ما تناقلته مئات القنوات التليفزيونية العالمية التى راحت تتسابق فى نقل أجمل الصور والمشاهد، وأعذب المشاعر التى اجتاحت الملايين من متابعى «مفاجآت» الساحرة المستديرة.
على أن ما حققته روسيا من مكاسب من وراء تنظيم مونديال 2018 ، لم تكن وحسب تقدير الكثيرين من المراقبين فى موسكو، لتقتصر على السياحة والترويج والدعاية لأفضل ما تملكه روسيا من معالم تاريخية، ومواقع جغرافية وثقافية، حيث إن الارقام تقول إن المكاسب الاقتصادية لم تكن لتكون بمعزل عن قائمة الانجازات التى فاقت كل التوقعات.
وتضيف التصريحات الرسمية، ومن واقع ما صدر عن البنك المركزى من أرقام وإحصاءات، أن هذه المكاسب التى تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، بالإضافة إلى ما تحقق من إنجازات فى مجال توسيع مساحات البنية التحتية، وعدد المنشآت الرياضية والطرق والمطارات الجديدة ، وما جرى بناؤه من فنادق على مختلف مستوياتها ودرجاتها.
وفى هذا الصدد ثمة من يقول ان روسيا تضع البلدان التى فازت بحق تنظيم البطولة فى دوراتها التالية سواء قطر فى عام 2022، أو الولايات المتحدة وكندا والمكسيك فى عام 2026، فى موقف لن تحسد عليه، ولا سيما قطر التى تفتقد الكثير من معايير «التاريخ والجغرافيا»، والتى لا يمكن مقارنتها سواء بسابقتها روسيا أو خليفاتها الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وإن كان هناك من يقول باحتمال المفاجآت، على خلفية ما يقال بانها خصصت مائتى مليار دولار لتنظيم «مونديال2022»، مقابل 12 مليار أنفقتها روسيا على تنظيم البطولة و7٫7 مليار دولار أنفقتها المانيا فى عام 2010، و11 مليار دولار انفقتها البرازيل لتنظيم البطولة السابقة فى 2014. ولعل الإشارة الى مونديال قطر فى عام 2022 يمكن أن تفضى بنا الى ما يضع هذه الدولة العربية ذات الخصائص الجغرافية «الخاصة»، والثقافة المحافظة فى مأزق فريد من نوعه، ينتظر العالم أجمع ما سوف تفعله قطر للخروج منه وتجاوز تبعاته وسلبياته.
رابط دائم: