رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الصورة التى أشعلت الحرب وأنهتها!

سهيــر حلمــى
بورتريه بوتين بعدسة "بلاتون"

نعيش عصر الصورة فى أروع تجلياته.. قيمة الصورة تنبع من مصداقيتها ورصدها للأحداث والوقائع.. فهى الوهج الذى يصنع الوعى.. والطلقة التى لا تستعاد.. اليقين الذى يقطع الشك.. وهى المحرضة للدهشة.. خزانة الذكريات.. صانعة النموذج.. أقوى أسلحة الحرب النفسية التى أصبحت الصورة بديلاً للأيديولوجيا والرموز والشعارات.. هزت عرش الكلمة وأجبرتها على الاختصار والتبسيط.. قديماً قال أرسطو: إن التفكير مستحيل بدون صور، بدون خيال.. لكن عالمنا أصبح يعيش فى متاهة من الصور الثابتة والفيديوهات.. فنصف الأمريكيين يلتقطون صوراً لأنفسهم فى أثناء تناولهم الطعام.. ويتوقع أن يسجل العام الحالى 1٫2مليار صورة رقمية بما يعادل 160 صورة لكل فرد، بينما يستقبل موقع يوتيوب 30 مليون زائر يومياً .. عالم الصور المتحركة يشهد سرعة غير مسبوقة تؤدى إلى عدم التركيز فى التفاصيل .. وتشتت المشاهد لكى ينتقل بين البدائل والقنوات. أصبح أى شيء لا يعتد به ما لم يسجل فى صورة..

كبار المنظرين فى هذا المجال يرون أن هذا المجتمع الاستعراضى كما سماه المفكر الكبير ريجيس دوبريه_ هو مجتمع مقلوب رأساً على عقب،يفضل الصورة على الأصل والشكل على المضمون ،غزارة الصور المعروضة والمتداولة هزت ملكوت الخيال.. فهذا الإغراق ليس بريئاً فهو يتلاعب بالعقول.. وقد تستخدم الصورة أحيانا لتسجيل وقائع وإخفاء وقائع أخرى.. فالصورة تمتلك قدرة هائلة على الإغواء والمحاكاة ، ينبهنا دوبريه لأهمية ترشيد مشاهدتنا للصور فكلما نظرنا أقل ، اشتعل الخيال وانطلق لآفاق بعيدة.. فالمجد لكل الأشياء اللامرئية.. حين يستقر وميض الصورة فى الوجدان تكاد تكون الشكوى عالمية من فقر الخيال، مقارنة بوهجه فى الأجيال السابقة إضافة إلى أن جوهر الصورة.. مرتبط بالغياب باختفاء ما كان واقعاً ملموساً، فالصورة تجسد حضور شخص غائب ولن يعود.. شخص تم تحنيطه فى مكان وزمان ما.. هى انبعاث لواقع مضى على حد تعبير مارتين جولى، من هنا تتجلى سلطة الصورة ،فهى الغائب الحاضر.. «لكى نطرد بعض الأشياء من أذهاننا فمن الأفضل تصويرها». هكذا كان يرى كافكا كيف تحتفظ المخيلة بالصورة وتستدعيها دون أن تراها مرة ثانية.. الغياب يشحذ الرؤى.. الصورة فى قمة مجدها، أعلت من شأن المشهدية فى عالمنا.. كل شيء تحول إلى مشهد يسبق الواقع «أثر السندريلا», حيث يتم تحديد المعيار والمقياس أولاً ثم تأتى صناعة المشهد فى كافة المجالات الحياتية (بالاصطناع) فالصورة تسبق الواقع وهذه (الفبركة) تنتشر عالمياً فى الصور والأخبار الكاذبة.

بورتريه بوتين بعدسة بلاتون

بعض الصور تصنع حدثاً.. تتوهج بألق اللقطة النادرة.. فمن يلتقط صورة منفردة لابد أنه يمتلك موهبة متميزة قادرة على تحويل الصورة إلى أيقونة.. فى عام 2007 قام المصور البريطانى (بلاتون) بالتقاط بورتريه للرئيس الروسى بوتين تصدر غلاف مجلة التايم باعتباره شخصية العام وفاز بجائزة أفضل صورة من وكالة الصورة الصحفية العالمية.. انفرد بلاتون بتصوير معظم قادة وزعماء العالم فى أثناء حضورهم اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.. صدرت له عدة كتب عن (فن البورتريه) أشهرها كتابه (The Power) وفكرة الكتاب قائمة على فرضية محددة وهى إذا قدر لزعماء العالم أن يجتمعوا لمناقشة أحوال الكساد فمن سيجلس على رأس مائدة المفاوضات؟ البورتريه فى رأيه هو فن الحكاية فلنستمع لحكاياته مع الرؤساء:

قمت بتصوير الرئيس بوتين وأردت أن أكسر الحالة الرسمية بينى وبينه فى اللقاء لكى أحصل على صورة أفضل. فبادرته بالقول: أنا أحب فريق البيتلز يا سيادة الرئيس وهل أنت أيضاً؟ ففاجأنى بإنجليزية جيدة جداً بقوله: نعم. أحب أغنية yesterday ثم اقتربت من وجهه جداً لمسافة أقل من (5 سم) وشعرت بحرسه الخاص يتململ والتقطت الصورة التى كشفت عن وجه السلطة البارد.. فيما بعد علمت من شخصية سياسية رفيعة أنه تقابل مع بوتين وسأله عن هذه الصورة قائلاً: هل أحببت هذه الصورة التى أظهرت عينيك باردتين يا سيادة الرئيس؟ فأجابه: جداً –ومن جانبى أضيف أن روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكى الأسبق ذكر فى أحد الأفلام الوثائقية عن بوتين، أنه حين نظر فى عين بوتين أثناء أحد الاجتماعات، رأى رجلاً متحجر القلب.. رأى فى عينيه الاستخبارات الروسية!

براعة المصور العالمى «بلاتون» تجسدت فى قراءة الوجوه بفراسة تدعو للإشادة والإعجاب ،فحين جلس إليه الرئيس كلينتون طلب منه بلاتون أن يظهر مشاعر الدفء واضطر أن يلقى بجسده على الأرض لكى يلتقط صورة مميزة لرئيس أمريكا «الروك أند رول» على حد تعبيره.. واهتم نيتانياهو بأن يظهره بصورة جيدة.. أما ترامب الذى تعود علاقته به لسنوات سابقة لرئاسته، فقد وصفه بلاتون بالجموح واستفسر منه لماذا كل ما حوله يضج بالفوضى والعاصفة.. فصمت ترامب قليلاً ثم أجابه: أنا العاصفة!!

ويعلق بلاتون على ذلك الموقف مؤكداً أن هذا الإحساس بالفوضى من اليسير جداً على ترامب الاستقرار فيه لأنه هو الذى صنعه، فهى فوضى لا يمكننا التأقلم معها.. وحين حاول كسر حاجز الاغتراب بينه وبين مارك زوكربيرج مؤسس الفيسبوك باغته قائلاً: أنت أكثر رجل ناجح قابلته فى حياتى على هذا الكوكب ولكن من المؤكد أن مسيرتك لم تكن بلا عراقيل.. فكيف تتأقلم مع حالات الفشل ؟ فى الحال أجاب زوكربيرج: لم يكن هناك فشل فأنا أحب ما أفعله.. فى تلك اللحظة تبدلت حالته وجلسته واسترخت رقبته المشدودة وانكسرت حالة مقاومته للتواصل معى لأن الحديث تناغم مع منظومة قيمة الخاصة.. قرأ بلاتون الإحساس بالنزق والحماقة فى وجه القذافى ورصد تحفظ أوباما وحذره الشديد قبل وصوله إلى البيت الأبيض.. واستاء من عجرفة وعصبية ساركوزى.. وتحدث عن مصور كيسنجر وكيف طلب منه الأخير أن يترفق به فى الصورة ليظهر أكثر حكمة ونبلاً مما يبدو، إدراكاً منه أن الصورة الذهنية للبورتريه تبقى طويلاً.. فالتعبير الغاضب لوجه تشرشل الشهير وراءه حكاية ملخصها أن المصور نزع السيجار من فم تشرشل حتى تبدو الصورة مختلفة، فغضب تشرشل واشتهرت الصورة التى التقطها المصور «يوسف كراش» وهو من كبار المصورين فى العالم.

وذكر بلاتون فى مقابلة أجريت معه أنه تعرض للوم حين أظهر بعض الدفء فى وجه الرئيس الإيرانى الأسبق أحمدى نجاد.. لكنه شرح لمحاوره كيف تكون الأجواء المحيطة بالصورة مؤثرة أحيانا فى تعبيرات الوجه.. فقد كانت حاشية نجاد الكبيرة ترافقه وكان يشعر بالعزوة وكونه ديكتاتوراً لا يتعارض مع إظهار عواطفه ودفئه.. بعض الزعماء يتمتع بالجاذبية والعمق فكل شخص له موجة خاصة به عند التقاط البورتريه، ونجاد بدا فى لحظة فاقداً لرباطة جأشه واتزانه ولمعت عيناه بنظرة شهوانية.. فكانت الكاميرا أسرع منها قبل أن تتلاشى ويعود لخجله وارتباكه كما حدث!

ويؤكد بلاتون الذى قام بتصوير أكثر من 20 غلافاً لمجلة التايم وغيرها من الصحف العالمية كيف كان يجد الكثير من الدهشة من المرافقين للرؤساء.. أما الزعماء أنفسهم فكانوا يبدأون بالتفكير بمجرد أن يقترب من وجوههم ولسان حالهم يقول: لماذا نتركه يفعل بنا ذلك؟ انتظر.. لكن الكاميرا تكون دائماً أسرع فى حسم القرار. ويضيف بلاتون أننا لا يمكننا الحصول على كل الحقيقة فى لقطة واحدة.. وأن أى حديث عن روح الشخصية وتجسيدها فى صورة واحدة هو مجرد هراء.. يمكننا الحديث بعقلانية فقط عن لحظة صادقة لن يعدمها المصور فى كل مرة يقبل فيها على تصوير أى إنسان.. بل إن دور المصور يتمثل فى البحث عنها وترك الشخصية تتصرف على سجيتها.. إذا فعل ذلك سيتمتع بهذا السيرك من نفسيات البشر وأحوالهم وسيكون الأمر أشبه بمزرعة الحيوانات لجورج أورويل مؤكدا أن أعظم صورة فى التاريخ من وجهة نظره هى التى تدفعنا للحركة والعمل .

مارلين مونرو ليست فوتوجينك

من أجمل استبصارات رولان بارت عن طيف الصور وكيف أن الإنسان حين يقرر الإقدام على التصوير.. يتحول إلى صورة تسبق الواقع.. ويمتلئ بذاته ويتحول إلى طيف، فالصورة لم تكن يوماً حية ،ولكنها تحيى الكثير من المعانى والمشاعر.. فهى توخزنا وتترك أثراً لا ينمحى من النفس وهنا تتجلى القيمة الكبرى للصور الأيقونية للمشاهير والنجوم.

يقول بارت: وجه جريتا جاربو (فكرة) لها خصوصيتها وتميزها وتألقها.. لكن وجه أودرى هيبورن (حدث) يتسم بالحيوية والزخم والتغيير.. فالصورة تمنح ذاتها مرة واحدة وتفصح عن مكنونها وهى يقين فى زمن اللايقين.. يهيمن عليها روح العصر، وقد يظل الإنسان يتطلع إلى صورته الحقيقية لمدة طويلة فكيف كانت صور مارلين مونرو فى البدايات ؟






أخبرها أحد مديرى التصوير أنها ليست فوتوجينك ! وأن نظرات عينيها لا تشى بأنها ستكون ممثلة كبيرة، وتم طردها من الاستوديو.. فانهارت لأن بإمكانها أن تتعلم وتطور من نفسها كممثلة ولكن ماذا ستفعل بنظرات عينيها.. فبكت واعتقدت أنها ليست جميلة كما ذكرت فى مذكراتها غير المكتملة.. وشعرت بالانكسار ولكن أحد أصدقائها نصحها بكلمة واحدة (استمري) مونرو التى حولت صورها اسمها إلى أسطورة وإلى حضور أقوى من أى غياب، كانت لها تجارب عديدة فى الصور مع المصور ميلتون جرين والمصورة ايف أرنولد التى تنصح أى مصور فوتوغرافى، باحترام خصوصية الآخرين، حتى يثقوا به ويقدموا إليه جزءاً من صدقهم.. هكذا كانت تتعامل معها.. أما لورانس شيلر آخر من صورها فى فيلمها الأخير ورصد يأسها.. حين داعبها بقوله: إنك ستجعلينى مشهوراً.. أجابته: «المصورون يمكن تغييرهم دائما».. ينصح شيلر أى مصور يريد أن يصنع صورة مختلفة ألا يقلد أحداً وأن يمسك بتلابيب موضعه جيداً كما كان يفعل معها.

هل تنهى هذه الصورة الحرب؟

فى فيلم «رايات الآباء» الذى أخرجه وبرع فى تصوير كلينت ايستوود..عن الكيفية التى يمكن أن يختزل بها النصر قبل (حدوثه) من خلال صورة واحدة تم ترويجها لجنود أمريكيين يغرسون راية النصر فى أثناء معركة «ايوجيما» فى الجزيرة اليابانية لإحداث أثر إيجابى لدى الشعب الأمريكى الذى استاء من أجواء الحرب حيث تم توظيف الصورة فى تبديل الحالة المعنوية ولم تكن الحرب قد حسمت بالفعل، فالبطولة قد تأتى من صورة تسجلها ولو كانت بعيدة عن روح القتال وميدان المعركة. والمشاهد أنه منذ الحرب العالمية الثانية وما تلاها من أحداث وصور الحروب تتلاعب بالعقول والشعوب.. فتارة تنجح الصورة فى إنهاء حالة الحرب كما حدث فى الصورة الشهيرة للطفلة كيم فوك التى احترقت بالنابالم فى حرب فيتنام وأشعلت الرأى العام العالمى وكانت سبباً قوياً لحسم الموقف الأمريكى من الحرب وإنهائها.. أما صورة المصور أدى أدامز للجنرال الأمريكى الذى صوب مسدسه باتجاه رأس سجين فيتنامى عام 1968.. فكانت غير مسبوقة آنذاك لم يتوقع المصور أن الجنرال سيطلق الرصاص لذلك التقط الصورة التى هزت العالم وحصدت جائزة بوليتزر.. وفيما بعد.. قدم الجنرال مبررات لقيامه بهذا الفعل ،فهو كقائد لابد أن يقوم بواجبه لكى يحترمه رجاله ومرءوسيه.. فالصورة الفوتوغرافية سلاح ولكنه انتقائى.. يعزل اللحظة ويفصلها عن سياقها وربما تكتسب معنى مغايرا لغرضها.. يرى ميشيل فوكو أن عالمنا هو عالم المراقبة عالم يرصد كل شيء ثابت ومتحرك.. الضوء والظل والعنصرية والعنف والحروب والمجاعات.. وتحولات الزمان والمكان.. تفكيك الصورة يضاعف من استمتاعنا بها. فضحت الصور أكاذيب أمريكا فى امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وفى الحرب الطاحنة فى سوريا.. وصور اللاجئين التى تدمى القلوب.. الصورة تم توظيفها من قبل الجماعات الإرهابية لنشر ثقافة الاستشهاد والموت والتخفى لاستقطاب ضحايا جدد إلى صفوفهم.. حروب الصور تم استغلالها من قبل كل أجهزة الاستخبارات لإلحاق الضرر بمنطقتنا العربية على وجه الخصوص.. وللترويج لثقافة الاستهلاك ونشر تطبيقات الذكاء الاصطناعى متمثلاً فى الروبوتات حتى ألفتها العين.. أسهمت وسائل التواصل الاجتماعى فى انتشار سيل من الصور التى يعاد استهلاكها وتدويرها إذ أن 80% من معارفنا يأتى عن طريق حاسة البصر .. أدرك بوتين أن الرأى العام هو كعب أخيل الديمقراطيات الغربية ونقطة ضعفها بالمقام الأول.. فازداد اعتماده على وسائل التواصل الاجتماعى كسلاح فعال.. لا يقل عن الأسلحة الذكية.. وفى القلب منها استخدام الصور واستطاع أن يقض مضاجع أمريكا فى الانتخابات الأمريكية ويطوى ما تبقى من قصة الحرب الباردة على صفحة جيدة تتصدر فيها روسيا الصورة بقدرتها التكنولوجية. شهد العالم عمليات تجميل تجرى بالملايين جراء ترويج نموذج «الصورة المرغوبة» التى يتطلع أصحابها لمضاهاتها بملامحهم الحقيقية.. هذا الفيض الهادر قد يشوش على الأفكار.. يشتت الانتباه.. لكن بعد كل ما شاهدناه من صور وفيديوهات للأسف الشديد .. لم تعد هناك صورة معينة يمكنها إشعال أى حرب أو إنهاؤها.. نحن فى (متاهة) الكل يتطلع للخروج منها سالماً.. غير معنى بالآخرين.. فالتائه منشغل بذاته يلتفت وراءه من آن لآخر صوب مآسى الآخرين.. لكنها لا تستوقفه إلا دقائق.. يتعاطف ثم يمضى فى طريقه.. وهذا أسوأ ما جنيناه من اعتياد الصورة واستهلاكها إلى حد الابتذال.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق