فى غياب الأم قد يفتقد الأب التمييز بين أساليب التربية والمتغيرات العضوية التى تظهر بوادرها على ابنته لتنشأ الفجوة بينهما نظرا لخجل الابنة من التصريح لوالدها بما طرأ عليها، بينما الأب يرى ابنته مكتئبة، وحالتها المزاجية متغيرة ولا يعلم السبب وتزداد الفجوة بينهما مع طلب الابنة للمال فيسألها الأب عن السبب فتصمت خجلا، مما يدفعها للتسلل لغرفته وأخذ المبلغ من محفظته دون شعورها بأنه يراها لتصل حالة عدم التفاهم بينهما إلى ذروتها بمواجهته لها.
ويبقى الصمت رد فعلها حتى عودة الأب من الخارج ويحمل ابنته التى غلبها النوم على الأريكة ليضعها على سريرها فيكتشف ما طرأ عليها وترك أثره على ملابسها.
هنا يتحلى بالصمت ويذهب لزيارة قبر زوجته ويعود لحجرة ابنته واضعا على مكتبها مائتى جنيه، وزجاجة طلاء أظافر ليكون هذا مشهد النهاية لفيلم «ربيع شتوي» للمخرج محمد كامل وبطولة أحمد كمال وإيمان مصطفى.
بهذا المشهد يعترف الأب للابنة بإدراكه بما طرأ وأنها دخلت مرحلة الأنوثة وبداية ربيعها الذى جاء فى ذروة فصل الشتاء ويوضحه اسم الفيلم الذى استخدم مخرجه الزمن ليكون دلالة للشخصيات والأحداث.. فالربيع فصل الانطلاق والسعادة والمرح مع تفتح الزهور بألوانها الزاهية وولادتها براقة جذابة، فكان ربطه لحالة الابنة بهذا الفصل ليعبر المخرج به عن تغييرها الفسيولوجى، وبداية إحساسها بأحاسيس جديدة تتفتح كالزهور.. وتأكيد للربط بين الربيع والابنة جعل المخرج فاكهة الجوافة المحببة إليها فى فصل الشتاء، رغم ظهور ثمارها فى فصل الربيع.
أما الشتاء فهو الزمن الفعلى الذى يشهد أحداث الفيلم ، ويعيش الأب تأثيره على الحالة النفسية ، التى تزداد مع ضغوط العمل فتجعله يفقد التركيز مع تفاصيل ابنته التى فقدت أمها .
خلال 15 دقيقة تمكن كامل من صنع صورة سينمائية اتسمت بالعمق والبساطة فى توصيل الحالة العامة، وإحساس المشاهد بشخصيتى الفيلم معتمدا على اللغة السينمائية بشكل كبير لتصبح مساحة لغة الحوار قليلة جدا، بجانب اعتماده على الاختيار المتقن لزوايا الكاميرا التى تبرز الانفعال الصحيح للشخصيات ، والإضاءة التى وظفها بشكل مزج بين الواقعية و التوافق مع المشهد ، وفى البعض مع كل من الأب والابنة ؛ أما المؤثرات الصوتية فكان الاعتماد على أصوات العصافير والحمام للتعبير عن حالة الأبنة بشكل خاص تأكيدا لحالة الربيع التى تعيشها، مبتعدا عن الموسيقى التى عادة ما نجدها للتعبير عن الشخصيات والأحداث بنسبة كبيرة فى فئة الأفلام القصيرة التى ينتمى إليها الفيلم .
مقدرة أحمد كمال ، وإيمان مصطفى على أداء شخصيتهما بحرفية تبرز تفهمهما الجيد لأبعاد شخصيتهما بتفاصيلهما الدقيقة ، مما أوجد معه واقعية شديدة لواقع يعيشه كثير من الآباء فى عالمنا بفقدان الأم التى تصنع بغيابها دوامة عواصف بين أى أب وأى ابنة تجعل الشتاء يتضارب مع الربيع.
يحسب للمخرج عند كتابته الفيلم مع السينارست أحمد عبد الحميد التكثيف الشديد بحرفية لم تصنع خلل فى الدراما لتكون بذلك عناصر الفيلم متكاملة ومتجانسة مع بعضها مما أظهره بشكل مميز على مستوى الصورة السينمائية التى طعمها محمد كامل بخلفيته لدراسة وممارسة الفن التشكيلى الذى ظهر أثره فى بعض المشاهد وكأننا أمام لوحة تشكيلية، ليستحق الفيلم بصبغته الشديدة الإنسانية ـ التى تقدم واقع كل أب وابنة ـ أن يمثل مصر فى أكثر من مائتى مهرجان على مستوى العالم ، وحصد 35 جائزة خلال عامين، لنكون أمام تمثيل مشرف جدا لمصر مثل كثيرين سبقوه فى هذا التشريف.
لكن للأسف الدولة بعيدة عن كامل وأقرانه رغم امتلاكهم أدوات لو طلبتها الدولة للنهوض بصناعة السينما فلن يتأخروا، لأنهم فعليا يمثلوننا فى الخارج دون رعاية من أجهزة الدولة التى من المفترض أن تدعمهم بدلا من سفرهم للمحافل والمهرجانات الدولية بشكل فردى، دون دراية من أجهزة ومؤسسات الدولة السينمائية بمن يرفعون علم مصر ويمثلوننا خير تمثيل فى واقع سمته «الجزر المنعزلة» .
رابط دائم: