لا يسقط عن «كرة القدم» هذا الاتهام أبدا، لا بالتقادم ولا بتقديم الأدلة لنفيه.
ولا يتحرج أصحابه من إطلاقه مرارا وتكرارا أمام محبى الرياضة الشعبية الأولى وهم يتأهبون لبداية موسم «كأس العالم» بجلاله وسطوته.
يقولون إنها «هم من لا هم له» وأنها تستهلك من الوقت والمال ما يجب توجيهه إلى ألف أزمة وقضية أخرى، ويقال أيضا أنها ملهاة عن الأهم والأكثر حرجا فى شأن البلاد والعباد، فلا يحق أن ينال ١١ لاعبا يركضون خلف كرة كل هذا الاهتمام والمال.
الحقيقة أن مثل هذه الأحكام ساذجة وقصيرة النظر إلى حد كبير، فكرة القدم ولاعبوها الـ١١ أصبح لها من الأدوار ما يتخطى ملاعبها إلى ما هو أكثر وأعمق وبشكل يثير العجب، فأصبحت عارضا من أعراض الداء أحيانا، ووسيلة لتخفيف آثاره فى أحيان أخرى، ولذلك أسباب وجيهة. فهناك الشغف والإجماع المتوارث من جيل إلى جيل، مما جعلها أداة حضارية وثقافية مؤثرة.
هى باختصار ما عبر عنه المدرب التاريخى لفريق ليفربول البريطانى بيل شانكلى : «كرة القدم ليست مسألة حياة أو موت، هى أهم من ذلك بكثير».
والأمثلة على ما سبق كثيرة، وأحدثها ما كان من شأن المباراة التى لعبها الفريق الأمريكى «كوزموس» لكرة القدم أمام فريق كوبا الوطنى وعلى أراضيه خلال فترة ولاية الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى أول زيارة لفريق كرة أمريكى منذ عام ١٩٧٨، وكانت تلك الاستضافة وتلك المبارة من الأدوات التمهيدية لتطبيع العلاقات بين البلدين، بعد قطيعة تجاوزت خمسة عقود.
وبالعودة سنوات قليلة إلى الوراء، كان للساحرة المستديرة ونجمها ديدييه دروجبا دور رئيسي فى إنهاء خمسة أعوام من النزاعات الأهلية الدامية فى كوت ديفوار، عندما بعث بنداء مصور من غرفة تغيير الملابس عقب نجاحه فى تأمين تأهل فريق الأفيال للمشاركة فى كأس العالم عام ٢٠٠٦، واستغل حالة التوحد الشعبى التى جمعت مواطنيه فى انتظار نتيجة المباراة، وطالب الفصائل المتنازعة بالتخلى عن أسلحتها، وقد كان، فاستؤنفت مباحثات السلام محليا، وكان تتويجها فى المباراة التى لعبها فريق كوت ديفوار بمعقل المتمردين عام ٢٠٠٧.
وبالعودة أكثر فأكثر، نجح نجم الكرة البرازيلى بيليه فى تعليق الحرب الأهلية بنيجيريا لمدة ٤٨ ساعة عام ١٩٦٧، بإعلان الفصائل المتناحرة هناك عن هدنة لتمكين المواطنين والفئات المتناحرة على حد سواء من متابعة المبارة الودية بين الفريق البرازيلى بقيادة بيليه الأسطورة والفريق النيجيرى فى مدينة لاجوس.
أما ألمانيا التى خرجت من الحرب العالمية الثانية بانقسام جغرافى وسياسى وخسائر إقتصادية لا محدودة، فضلا عن ميراث النازية القاسي، تحررت ووجدت ذاتها فى كأس العالم ١٩٥٤ عندما نجح فريق ألمانيا الغربية بلاعبيه غير المشهورين وقتها فى الفوز على فريق المجر الذى كان مصنفا كأفضل فرق أوروبا والعالم وقتها أيضا.
أما «أم المباريات» كما أطلقوا عليها، فكانت متنفس طهران وتحقيق فوزها الأبرز أمام ضغوط وعقوبات الولايات المتحدة فخلال كأس العالم ١٩٩٨ بفرنسا، تواجهت فرق إيران والولايات المتحدة وبعد تخطى سلسلة من الأزمات البرتوكولية والأمنية نجحت إيران فى الفوز على الفريق الأمريكى وكان الفوز الأول لها فى مباريات كأس العالم وطبعا الأهم لأنه كان على حساب الولايات المتحدة، واعتبر جيف أجوس، مدافع منتخب أمريكا، أن المباراة حققت «فى ٩٠ دقيقة أكثر مما قدمه رجال السياسة فى ٢٠ عاما».
والعراقيون من جانبهم توحدوا لأول مرة منذ سقوط نظام صدام حسين وبإرادة ذاتية حقيقية وراء فريقهم، الذى كان مزيجا من عناصر كردية وشيعية وسنية، خلال مواجهتهم أمام الفريق السعودى عام ٢٠٠٧ فى مباريات كأس آسيا، وكشفت وقتها الإحصائيات الأمريكية أن البلاد التى مزقتها الاعتداءات والتفجيرات الطائفية شهدت تراجعا واضحا فى هذه الاعتداءات ومظاهر واضحة للوحدة القومية، فتقول هذه الإحصائيات إن شهر يونيو ٢٠٠٧ وحده شهد ١٧٠٠ اعتداء فى العراق، لتنخفض هذه الاعتداءات إلى ٩٦٠ واقعة فقط فى أغسطس من العام ذاته.
كرة القدم رضينا أم لم نرض أداة حضارية قوية ولها نفوذها.
ولاعبوها رضينا أم لم نرض أيضا يعتبرون سفراء أصحاب كلمة مسموعة.
رابط دائم: