رئيس مجلس الادارة
عبدالمحسن سلامة
رئيس التحرير
علاء ثابت
لا أصدق أننى وصلت إلى الدرجة التى أنا عليها من الاحتقار لذاتى، وباتت هذه المشاعر لا تفارقنى فى صحوى ومنامى.. أكتب إليك بعد أن أعيتنى الحياة، فلقد تخرجت فى إحدى الجامعات بتقدير عام جيد جدا، والتحقت بإحدى الوظائف، وكأى شاب سعيت إلى الزواج، فكنت أطرق أبواب البيوت طالبا العفاف ودخلتها من أبوابها فكنت أتقدم للعرائس، تارة أرفض العروس وتاره ترفضنى هى، وقد يحدث أحيانا توافق وقبول وانسجام بينى وبينها إلى أن تظهر الطلبات المادية، فلا أستطيع مقاومتها فأفر هاربا بلا رجعة، وتكرر ذلك كثيرا، ومضت سنوات عمرى حتى بلغت سن الخامسة والأربعين دون زواج، وأصبحت «مادة خام» للسخرية والاستهزاء والتندر فى أوساط العمل والجيران والمعارف، ولا أشعر بأى سواء اجتماعى، ولا بأى متعة فى الحياة، إذ لم أنل أى حظ من حظوظ الدنيا، ولا أصدق أننى أضعت حياتى كلها بسبب بعض قطع الأثاث والمشغولات الذهبية، ولا أدرى ما هذه التفاهة التى أحياها، فكلما قرأت قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (الأحقاف15)، أتحسر على نفسى وقد جاوزت سن «الأشد» ولم أتحصل على ذرية.. وعندما أقرأ قوله تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» (الكهف46)، أقول لنفسى ساخرا: الحمد لله، لا مال ولا بنون!، وعنما أسمع حديث رسول الله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» أقول لنفسى: الحمد لله: لا شىء عندى من الثلاثة.. وهكذا أعيش حياة بلا معنى.. حياة يغلب عليها العبث والتشتت والتخبط مفتقدا مكتسبات الحياة المستقرة، فهل أعاود التفكير فى الارتباط علما بأن الظروف لم تتغير؟..أم أعيش ما تبقى لى من عمر على هذا النحو الذى أحياه الآن.. أخبرنى بالله عليك ماذا أفعل فقد فقدت بوصلة الحياة. < ولكاتب هذه الرسالة أقول: على الإنسان دائما الإيمان بأن كل ما يحققه من مجد وعز ومال وعلم وغير ذلك، ليس إلا من فيض الله تعالى عليه، أما الإنسان بذاته فليس إلا كتلة من اللحم والعظم تسمو بها نفسه التى يجب عليه تهذيبها وترويضها بالعلم النافع والعمل الصالح، وبرغم ضعفه إلا أن الله كرّمه بصفات تؤهله لحمل الأمانة التى لم تقدر عليها الكائنات الأخرى من حوله: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (الأحزاب72). صحيح أن الحياة ليست إلا جسرًا تمر عليه الكائنات فى طريقها نحو الآخرة، ولكن يجب ألا تهون فى نظر الإنسان، وألا ينصرف عن إعمار الأرض بالعلم والعمل إلى التقشف وانتظار الموت، لقوله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (القصص: 77)، وقوله أيضا «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل97)، وبهذه الرؤية المتكاملة تغدو الحياة كنزاً ثمينا يجب استثماره، فهى فى جوهرها لا تستحق من الاهتمام أكثر من كونها جسرا للسعادة الأبدية، كما أن الإنسان فى الوقت نفسه مأمور بعدم التفريط فيها لقدسيتها وقيمتها العظيمة عند الله تعالى: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة: 32)، أما المباهج وألوان المتع التى تصادفه فيها، فليست إلا زخارف تتزين بها لإغواء ضعاف النفوس، ولكنها لا تُكره أيضا لِـذاتها إذا أحسن استخدامها لقوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (الأعراف 32)، وبهذا الفهم يخوض الإنسان غمار الحياة بملذاتها واثق الخطى، بعد أن استيقن أن كل ما ملكه فيها غير باق، فهو إذن فى سعى دائم للاستمتاع بها دون إسراف، مع إيمان داخلى بأن ما امتلكه منها فى قبضة يده وليس فى قلبه، حيث يقول تعالى: «لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ»، وبهذه النظرة تتحقق له السعادة التى ينشدها، ومن هذا المنطلق أقول لك: مهما بلغ عمرك، فإمكانك أن تبدأ الطريق من أوله، متسلحا بالإيمان، ومتيقنا بأن المشوار مهما يكن طويلا، فإنه يبدأ بخطوة واحدة، وهناك الكثيرات من الفضليات اللاتى يفضلن الزواج من أهل الأخلاق الحسنة، على حساب أصحاب المال والجاه، فاطرق باب من تتوسم فيها هذه الصفات الطيبة، وسوف يوفقك الله لما فيه الخير.