ما إن غادرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل منتجع سوتشى بعد مباحثات متميزة مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، حتى وصل رئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودى فى مقدمة لمسلسل لقاءات بوتين مع زعماء العالم ومنهم الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى على هامش المنتدى الاقتصادى العالمى فى سان بطرسبورج تأكيدا على فشل مخطط الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشأن عزل روسيا وإحكام قبضة العقوبات حولها.
ونمضى لنقول إن مسلسل زيارة الزعماء وكبار رجال السياسة والأعمال لروسيا ولقاءاتهم مع بوتين لم يتوقف عند هذا الحد، حيث شمل زيارة رئيس بلغاريا رومين راديف الذى كشف عن زيارة مرتقبة لرئيس الحكومة البلغارية بويكو بوريسوف، من المقرر أن يعود خلالها إلى طرح طلب بلاده، حول استئناف روسيا لمشروع مد خط أنابيب نقل الغاز «السيل الجنوبى» الذى سبق ورفضته بلغاريا تحت ضغوط من جانب المفوضية الأوروبية، فى إطار نهج تشديد العقوبات وفرض العزلة على روسيا.ونضيف إلى هؤلاء كريستين لاجارد مديرة صندوق النقد الدولي، وعدد كبير من أبرز الشخصيات الإقليمية والعالمية الذين تقاطروا إلى سان بطرسبورج للمشاركة فى الدورة 22 للمنتدى الاقتصادى العالمي.
وإذا أخذنا فى الاعتبار أن معظم هؤلاء وفى مقدمتهم المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسى ماكرون جاءوا إلى روسيا للقاء بوتين، بعد لقاءات واتصالات عاصفة مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حاول من خلالها إقناعهم بالقطيعة مع موسكو، وتشديد ربقة الضغط والحصار ضدها، فإننا نكون أمام موقف واحد، بل وقد يكون موحدا يقول بصعوبة الامتثال لمثل هذه الضغوط، حفاظا على مصالح بلادهم الاقتصادية ورغبة من جانبهم فى ضرورة مراجعة الموقف برمته تمهيدا لرفع العقوبات وقبول الأمر الواقع الذى يقول بصعوبة التوصل إلى حلول للكثير من قضايا المنطقة والعالم بدون روسيا. وذلك ما ينطبق أيضا على رفض الكثيرين من الزعماء الأوروبيين لتوجهات الرئيس الأمريكى وعدم تعجلهم السير فى ركاب سياساته من منظور قراره حول الانسحاب من جانب واحد من الاتفاق الخاص بالبرنامج النووى الإيراني. ونذكر بهذا الصدد ما كشفت عنه المصادر الألمانية حول أن ميركل كانت وصلت إلى سوتشى بعد زيارة مماثلة سبق وقامت بها إلى واشنطن، وأعلنت خلالها عن عدم اتفاقها مع الكثير من أطروحات ترامب، التى قالت إن منها ما يأتى على طرفى نقيض من مصالح بلادها ومقررات الأسرة الدولية، وأشارت تحديدا إلى الاتفاق الموقع حول البرنامج النووى الإيراني، وهو موقف يتفق إلى حد كبير مع ذلك الموقف الذى اتخذه الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لواشنطن.
وفى هذا الصدد كشفت مصادر الكرملين عن أن مباحثات بوتين-ميركل فى سوتشى أكدت اتساع مساحات التقارب بين ألمانيا وروسيا، ولا سيما فيما يتعلق بمشروع التيار الشمالي-2 الذى يظل الرئيس الأمريكى ترامب يدعو ألمانيا وأوروبا إلى التراجع عنه، وكذلك الاتفاق النووى مع إيران الذى أجمعت بلدان الاتحاد الأوروبى على ضرورة عدم الخروج منه والتمسك به. وكانت ميركل كشفت عن موقفها فى هذا الشأن حين قالت إن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والشركاء من الدول الأخرى فى الاتحاد الأوروبى تدعم هذا الاتفاق، وإن أشارت إلى اأن وضعا استثنائيا تشكل مؤخرا (بعد انسحاب واشنطن). وأضافت: إن هذا الاتفاق ليس مثاليا، لكن وجوده أفضل من غيابه على الإطلاق، مشيرة إلى أن الأوروبيين، ومن بينهم الألمان، مستمرون فى التواصل مع إيران، ويحثونها على البقاء فى إطار الاتفاق، وأن وجود الصفقة يوفر مزيدا من الأمن والرقابة والشفافية.
وكان سيرجى لافروف، وزير الخارجية الروسية استبق زيارة ميركل لسوتشى بحديث نشرته إحدى المجلات الروسية المتخصصة فى مجال الأعمال أعرب فيه عن أمله فى أن يتوقف الاتحاد الأوروبى عن السير فى ركاب الدول القليلة المعادية لروسيا على حد تعبيره. وأضاف لافروف أن بلاده تريد أن ترى الاتحاد الأوروبى لاعبا قويا ومتحدا ومسئولا فى الشئون الدولية قادرا على صياغة الأجندة السياسية المستقلة من أجل مصالح شعوب أوروبا بما يستطيع معه تجاوز ما وصفه بـخمول التفكير وهو ما لا بد أن يجعل العلاقات الروسية ــ الأوروبية قابلة للتكهن وسيعزز الثقة والتفهم فى قارتنا الأوروبية المشتركة. ولعل ما أعلنت عنه ميركل فى ختام مباحثاتها مع بوتين يؤكد قناعتها بصحة ما قاله لافروف، حيث قالت صراحة بوجود مصلحة إستراتيجية لألمانيا فى دعم العلاقات الودية مع روسيا وأعادت إلى الأذهان ما سبق ودعت إليه إبان أحلك سنوات العلاقات الدولية توترا حول مواصلة عمل مجلس روسيا-الناتو والاستمرار فى الاتصالات من جانب الإتحاد الأوروبي، مؤكدة ضرورة تجاوز الخلافات الكبيرة والمبدئية، والحاجة إلى الحوار بين الطرفين. إذ أشارت إلى أن لقاءها مع بوتين «عُقد فى لحظة جيدة» قالت المستشارة الألمانية بوجود ملفات تلتزم روسيا وألمانيا بمواقف مشتركة منها فى إشارة لا تخلو من مغزى إلى مشروع التيار الشمالي-2، والموقف من الاتفاق حول البرنامج النووى الإيراني. ومن جانبه كشف الرئيس بوتين عن مدى الخسائر التى يمكن أن تتكبدها الشركات الألمانية فى حال انصياعها للضغط الأمريكى والسير فى ركاب عقوبات واشنطن، حيث أشار إلى أن عدد الشركات الألمانية التى ترتبط بعلاقات عمل مع روسيا يبلغ زهاء 500 شركة، بحجم أعمال يزيد على الخمسين مليار دولار، إلى جانب الاستثمارات الألمانية فى روسيا والتى تتجاوز قيمتها 18 مليار دولار.
وكان الجانبان الروسى والألمانى تطرقا كذلك إلى بحث عدد من القضايا الإقليمية والدولية ومنها، المسائل المتعلقة بالأزمة السورية . وقال بوتين إن الجانبين أكدا ضرورة الإسهام المشترك فى عملية التسوية السياسية بما فى ذلك عبر منصتى جنيف والآستانة، وكذلك إحلال الاستقرار على الأرض وتقديم المساعدات الإنسانية لسكان سوريا مؤكدا تقدير بلاده لسعى ألمانيا نحو المشاركة فى إعادة إعمار البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية فى سوريا، شريطة أن يتم ذلك بالتنسيق مع السلطات الشرعية للبلاد وأهمية الابتعاد عن تسييس ملف المساعدات الإنسانية لسوريا. وكانت ميركل تطرقت إلى قضية أخرى تتعلق بمستقبل عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم ورغبتهم فى حماية حقوقهم التى تضررت من جراء إصدار السلطات السورية لقانون ينص على أن المواطنين يفقدون ممتلكاتهم حال عدم تسجيلهم لها فى الفترة الزمنية المحددة، وهو ما قالت انه نبأ سييء جدا بالنسبة لجميع من يريد العودة إلى سوريا وطالبت الرئيس بوتين بالتدخل من اجل تسوية هذا الموضوع حتى يتسنى للاجئين الموجودين فى ألمانيا العودة إلى بلادهم.
ومن اللافت فى هذا الصدد أن ما بحثته ميركل مع بوتين فى سوتشى كان هو فى معظمه ما تطرقت إليه مباحثات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مع ضيفه الفرنسى ماكرون فى لقائهما على هامش المنتدى الاقتصادى فى سان بطرسبورج والذى يعتبر الأول منذ انتخابه رئيسا لفرنسا، وذلك ما كشف عنه يورى أوشاكوف مساعد بوتين لقضايا السياسة الخارجية، الذى قال إن المباحثات تطرقت إلى «القضايا الدولية والإقليمية الملحة، بما فى ذلك الوضع فى جنوب شرق أوكرانيا وآفاق تسوية الأزمتين فى سوريا وليبيا وقضية التسوية الشرق أوسطية»، فضلا عن مناقشة آفاق الحفاظ على خطة الأعمال المشتركة الشاملة لتسوية القضية النووية الإيرانية فى أعقاب انسحاب الولايات المتحدة منها من طرف واحد. وكانت مارين لوبين زعيمة المعارضة اليمينية الفرنسية أشارت فى معرض تعليقها على زيارة ماكرون لروسيا إلى أنه وهو الذى يحاول أن يصبح زعيما سياسيا للاتحاد الأوروبي، مدعو إلى التركيز على تعزيز دور أوروبا وضرورة التعاون مع روسيا، فيما أكدت ضرورة أن يستمع ماكرون إلى العقل السليم وأن يفكر بالتقارب مع روسيا. هذه أمة عظيمة وليس من مصلحتنا أبدا معاداتها. وأضافت كذلك: بأن روسيا لاعب أساسى فى محاربة المتطرفين، لذلك يجب الحفاظ على علاقات متينة والتحالف معها.
إزاء ذلك كله يمكن القول إن الرئيس بوتين قطع وفى غضون أقل من أسبوعين منذ تنصيبه رئيسا لروسيا فترة ولاية رابعة فى السابع من مايو الجاري، ومن خلال لقاءاته فى روسيا مع عدد كبير من زعماء أبرز البلدان الأوروبية والآسيوية، شوطا طويلا على طريق توفير المناخ اللازم لإصلاح الخلل الذى طرأ على الأوضاع الجيوسياسية فى المناطق المجاورة لبلاده من جراء ارتباك تحركات وسياسات عدد من خصومه الغربيين ممن كانوا وقعوا فى شرك الإدارة الأمريكية التى سبق وتزعمت مع بريطانيا حملات طرد الدبلوماسيين الروس وفرض المزيد من العقوبات بحجة تورط موسكو فى قضية تسميم الجاسوس الروسى السابق سكريبال وابنته التى لم تثبت بعد صلة روسيا بها، وحذر بوتين من الإغراق فى محاولات تأجيجها.
رابط دائم: