مع اقتراب شمس الغروب ظل الصغير ذو الخمسة عشرة عاما رابضا على جسر الكوبرى المواجه لديوان عام المحافظة ينظر للمياه وكأنه يناجيها يلقى اليها بمكنون ما ناء به من حمل أرهقه وضاق به صدره رغم صغر سنه ،وبملامحه التى تنطق بالملائكية نظر نظرة اخيره طويلة، لم يلتفت يمينا أو يسارا او ينشغل بما حوله وبينما الجميع منهمك فى تسارع ليأوى لداره لتناول إفطاره كان محمد قد اتخذ قراره، فجأة اتجه نحو السياج الحديدى الذى يحيط بالكوبرى وقبل ان ينتبه أحد كان قد قفز وألقى بنفسه فى عرض بحر مويس ليخط النهاية التى كتبت له .. لحظات فقط استغرقتها الدهشة سرعان ما انطلقت بعدها صرخات خرجت ممن كان يرقبه وهويتابع حركة الشارع والمارة مع الدقائق الأخيرة قبيل الاذان نبهت العابرين وبعض الشباب ممن تصادف وجودهم بالشارع فى هذه الساعة ليهرعوا أملا فى نجدة محمد، لكن هيهات فقد نفذ القدر ولفظ المسكين أنفاسه الباقية غرقا.
كانت مدينة الزقازيق قد أمست على حادث مفجع راح ضحيته مراهق صغير انتحر بإلقاء نفسه فى اليم وكان الطفل قد كتب قبل ساعات من وفاته على موقع التواصل «فيس بوك « كلمات تشى بما يدور بداخله من عزم على الانتحار وإنهاء حياته يأسا وهربا من هول ما عاناه من أوجاع وألم مجهول يكاد يفتك به ولم يعد يطيق تحمله قسمات وجه الصغير المنتحر البريئة وصوره المتعددة التى فارقتها الابتسامة ثم كلماته الاخيرة التى دونها بنفسه جعلت وفاته محل اهتمام الجميع خاصة مع دقة تعبيره واختيار مفرداته:
«بجد لازم اموت ، مش هقول نفسى ، بس لازم اخلص من الكابوس اللى انا فيه ده لو فى يوم انتحرت ما تقولوش ان انا مراهق ولا طايش انا شيلت هم ماحدش يستحمله ابقوا ادعولى»..
كان هذا اخر ماكتبه الطالب بالصف الثالث الإعدادى قبل وفاته واسترعى انتباه أسرته لتضعه نصب عينيها طوال الوقت قبل ان يتمكن من الخروج ويمضى فيما عزم عليه.
ويروى شقيقه الاكبر كريم: ان أعراضا عدة داهمت محمد منذ سنوات لم يكن يعرفون لها سببا بدأت بآلام مبرحة فى القدم والظهر كادت تعجزه عن الحركة ورغم عرضه على العديد من الاطباء والاخصائيين واجراء العديد من الفحوصات والأشعات والتحاليل الا ان ايا منها لم يضع تفسيرا لحالته لتتواصل بعدها الامه لدرجة عجزه عن الرؤية لايام رغم تأكيدات الأطباء بسلامة عينيه وأنها مجرد حالة عارضة لا يوجد لها سبب عضوى، ويستطرد بعدها لم نترك بابا الا وطرقناه وذهبنا لكبار الاطباء الذين اكدوا الصبر والرضا على ما ألم به وادراك انه ابتلاء من عند الله لحبه له ، وهنا بدأنا نضع أقدامنا على الطريق الصحيح فتوجهنا للطب النفسى الذى شخص حالته بأنها اكتئاب حاد من الدرجه الاولى، وهو الذى ينعكس فى صورة آلام جسدية شديدة وبدأنا رحلة العلاج النفسى لكن حالته لم تتحسن كثيرا، ووصل لمرحلة اسمها الشخصية الحدية وهو مرض لم يتوصل العلماء لسبب معلوم له وليس له علاج للآن سوى مضادات الاكتئاب و المنومات و المسكنات ومن اعراضه الاندفاع وعدم الاتزان فى التعبير عن المشاعر، 4 سنوات عانى فيها محمد الكثير من الآلام دون ان نعرف الاسباب، جعلت الأطباء يتعاطفون معه ويحبونه، لكن كل الأدوية لم تستطع ايقاف معاناته.
ومع تضاعف أوجاعه وعجزنا عن علاجه او تخفيف الامه حاول أكثر من مرة الانتحار، تارة بتناول كميات من أقراص الأدوية وأخرى بمحاولة تقطيع اوصاله لدرجة اننا استبعدنا جميع الآلات الحادة التى قد تشكل خطرا على حياته وكنا نلاحظه تقريبا طوال الوقت ولم يفرط والدى أبدا فى رعايته او البحث عن علاج له بل كنا دائمى القرب لجواره ، ولكنها إرادة الله.
وعن اليوم الاخير فى حياته، اوضح انه كان يبدو فى حالة جيدة فاستغرق فى النوم مطمئنا ليصحو بعدها على صوت والدته تطلب منه الخروج للبحث عن أخيه قبل ان يأتيهم النبأ المشئوم.
ويروي والده ياسر رشاد الخبير بالهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد و الحاصل علي جائزة الرائد المثالي انه لطالما انعزل عن اصدقائه وعزف عن مشاركتهم في الكثير من مناسباتهم والاندماج معهم في مختلف أوجه الحياه الاجتماعية بسبب ظروف نجله المرضية، وان حدث وشارك فكانت روحه دائما مع ابنه يراه امامه في كل لحظة، مشيرا الي ان ابنه كان نادرا في كل شىء ـ حتي في مرضه وهو أحد فروع الاكتئاب العظيم وكان ايضا من بين الحالات الاكثر ندرة حيث ان 10% فقط من المرضي بهذا المرض هم من يحاولون الانتحار باستمرارو محمد كان أحدهم.
ويضيف العديد من جيران وأصدقاء محمد انه كان يحظى بحب ورعاية أسرية جيدة فوالده مرب فاضل ومتميز مشهود له فى عمله وحبه له كان كبيرا، كما أكدوا أن محمد كان يحاول الانشغال عن آلامه بمساعدة الآخرين ومد العون لهم و كان متطوعا فى احدى الجمعيات الخيرية. فهل تحمل قصة محمد عبرة للجميع لننتبه لخطورة المرض النفسى وتداعياته على صحة ونفوس أطفالنا وذوينا قبل فوات الأوان .
رابط دائم: