«الديمقراطية» كانت الفكرة والحلم الأكثر رواجا فى القرن العشرين، فبدا الأمر كما لو أن شعوب العالم خرجت فى مهمة بحث كونية عن الحرية وكيفية تحقيقها.
وتبلورت الفكرة بشكل أعمق مع انطلاق موسم الثورات فى العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، ليعيش العالم أحلام الثورات الملونة من وردية إلى برتقالية وحتى ثورة التيوليب .. وصولا إلى موجات الربيع العربي.
ولكن يبدو أن الريح تأتى بما لا تشتهى السفن.
فالفشل الذريع الذى منيت به هذه الثورات وما حملته فى طياتها من دمار وفوضى وفقر وإرهاب وفساد وتشتت، لم يقف عند حدود الشعوب الثائرة، ولكن انتقل إلى مناطق أخرى آمنة من العالم، لتعانى العديد من دول أوروبا وآسيا من ويلات الإرهاب الدامي، وتتضاعف أزماتها الاقتصادية والسياسية، وهو ما خلق «حنين» غير مسبوق إلى الماضى وإلى زمن الاستقرار والحلم بكل مساوئه وعيوبه، بحثا عن زمن غير بعيد من الأمن والرخاء الاقتصادى والاستقرار السياسي، ليبدأ موسم «العودة»، أو بمعنى أدق إحياء رموز ماضى الحلم الجميل.
بالطبع، فكرة «الحرية» بشكل عام كانت الحلم الذى سيطر على أغلب شعوب العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين، عندما كان الحلم الأكبر هو التخلص من الاحتلال العسكرى الذى فرضته القوى الكبرى على الدول الأضعف أو مساعى هذه القوى لبسط نفوذها بالقوة من خلال الحروب العالمية التى حولت العالم إلى بحر من الدماء والدمار.
وفى ظل النجاح الذى كلل جهود أغلب هذه الدول للتحرر من قيود الاحتلال، اتسم النصف الثانى من القرن العشرين بأنه مرحلة النهوض البطيء والتعافى من كبوات الاحتلال بكل ما تحمله هذه المرحلة من صعوبات اقتصادية وسياسية، لكن قدرات الشعوب على التحمل فى هذه الفترة كانت استثنائية وساعدت على الوصول إلى الاستقرار.
وبدأ حلم جديد ينمو شيئا فشيئا يدعمه الإحساس القوى بالاستقرار المستمر، وهو البحث عن عالم مثالى خالى من الفساد، يتمتع بالديمقراطية والكثير من الحرية.
فحتى الدول الأوروبية والقوى الاقتصادية الأسيوية لم تسلم من الرغبة فى المزيد من الحريات والنمو، خاصة وأن الاتهامات بالفساد طالت الكثير من القيادات المخضرمة.
ويبدو أن إنجازات هؤلاء الزعماء الاقتصادية لم تشفع لهم فى حينها.
فقد ربط الكثيرون بين الصعوبات الاقتصادية التى صاحبت الأزمة المالية العالمية وفساد القيادات المخضرمة، وأصبح التخلص من هذه القيادات بالنسبة للكثيرين هو الحلم الذى ستتحقق معه الديمقراطية الحقيقية والحرية والرخاء الاقتصادى، وهى المعادلة الحالمة التى هبت الشعوب شرقا وغربا لتحقيقها.
ولكن ما الذى حدث؟ لماذا انهار الحلم؟ لماذا فشلت الثورات الحالمة؟ ولماذا تحول الربيع إلى خريف عاصف مدمر؟
الإجابة ببساطة هى أن هناك جيلا شابا انساق وراء حلم التغيير، ولكن الحلم كان بلا أساس وغير محسوب العواقب، لكنه موجه بقوة الرغبة فى التخلص من الصعوبات الراهنة والبحث عن الحلم الهوليوودى الوهمي.
وبطبيعة الحال سرعان ما تحول الحلم إلى كابوس، ولكن الكابوس كان أكثر تدميرا من كل التوقعات، فهذه الثورات أثارت موجات غير مسبوقة من الفوضى خاصة فى الشرق الأوسط، وتحولت المنطقة إلى فريسة سهلة للطامعين فى ثرواتها ومرتع للجماعات الإرهابية المسلحة التى بثت الفزع والرعب فى القلوب، وأصبحت الحرب هى السمة الغالبة على المنطقة، وتحول الأهالى الآمنين إلى مشردين ولاجئين .. وذهب الاستقرار أدراج الرياح، وتحول الإرهاب إلى وباء أصاب العالم الغربى والشرقى على حد السواء، فلم تسلم منه الدول المتقدمة.
وانعكس الرعب والخوف على الاقتصاد العالمي، الذى لم يكن قد تعافى بالشكل الكافى من الأزمة المالية العالمية لعام ٢٠٠٨، خاصة أن العديد من الدول شهدت تدفقا غير مسبوق من اللاجئين الفارين من الحروب، وهو ما مثل عبئا اقتصاديا جديدا، كما أنه هدد سوق العمل وخلق أنواعا جديدة من الصراعات الداخلية، إلى جانب التهديدات الأمنية المستمرة، حيث تحولت التفجيرات والاعتداءات إلى أخبار يومية عادية.
وفى ظل هذه الفوضى، زاد الحنين إلى عصور الاستقرار السابقة بكل ما تحمله من عيوب ومساويء، وانعكست هذه الرغبة على المعارك الانتخابية التى أعادت الحياة إلى قادة الماضي، سواء منهم من نجح واختفى، أو من نجح وتورط فى جرائم ومخالفات.
رابط دائم: