يرى أن روايته الأخيرة «خبيئة العارف» ليست تاريخية، بل مزيج من التاريخ والتصوف والواقعية السحرية، واعترف أنه ظل وقتا طويلا حائرا فى كيفية التعامل فنيا مع شخصية «أبو العزائم»، شيخ ومؤسس الطريقة العزمية، لغزارة إنتاجه وتزاحم مواقفه، واعترف أنه عايش أتباع الطريقة فترة طويلة، وحضر مجالس الذكر، وشاركهم اجتماعاتهم ولقاءاتهم، ليصل على تصور، يساعده على إطلاق خياله.
واكتشف من خلال قراءاته، أن المصريين أبدعوا الرهبنة فى المسيحية، وأن دياناتهم القديمة لم تخل من انصراف إلى الذات والتعمق فيها، وكذا أن التصوف الفردى فى مصر يعود إلى ما قبل 1200 سنة، وإن كانت الطرق الصوفية قد بدأت فى عهد صلاح الدين الأيوبي، وشكل نتاجها من الآراء والأفكار والخيالات إرثا هائلا، ومعينا مكتظاً بالصور والمعانى والرموز، يتهادى أمام من يريد أن ينهل منه. لهذا انشغل هو بشق طريق لواقعية روحانية عربية فى الرواية جعلت من الصوفية أحد مصادر السرد لديه.
«خبيئة العارف» بطلها الشيخ «محمد ماضى أبو العزايم» فهل تعد عملا تاريخيا عن الطريقة العزمية؟
ليست على هذا النحو، فالرواية اتخذت الطريقة العزمية فضاء اجتماعيا لها، وكثير من طقوسها وتفاصيلها وبعض شخوصها حاضرة فى النص، وبطل الرواية شيخ العزمية ومؤسسها الذى توفى عام 1937، لكن ما يقتضيه الفن استلزم اختراع شخصيات متخيلة، وأمكنة وأحداث ووقائع، ما جعل الرواية تتمدد فى مساحات فنية أو جمالية واجتماعية وسياسية أخري، تصل الماضى بالحاضر، وتزاوج بينهما، ليس من خلال تتابع الحقب التاريخية، مثلما فعلت بعض الروايات، أو توزيع النص على قسمين كل منهما يجرى فى زمن، إنما يتواشج الزمنان معا، هبوطا وصعودا، من البداية إلى النهاية، ومن نقطة الصفر إلى الذروة. لهذا لا أعتبر «خبيئة العارف» رواية تاريخية، مثلما سبق أن فعلت فى رواية «بيت السناري» وهى تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة، ولا ينطبق أيضا على روايتيَّ «شجرة العابد» و»جبل الطير»، إذ كان التاريخ حاضرا بقوة لكن لا يمكن وصفهما بأنهما روايتان تاريخيتان، لكن التاريخ فيهما منبعا لواقعية سحرية أو روحانية، ولحكايات توالدت عبر النصين.
وما تفسيرك لاستقاء الرواية مادتها الأساسية من عوالم الطرق الصوفية؟
المصريون أبدعوا الرهبنة فى المسيحية، وقبلها بآلاف السنين لم تخل الديانات الفرعونية من انصراف إلى الذات والتعمق فيها، والتصوف الفردى فى مصر يعود إلى ما قبل 1200 سنة أما الطرق الصوفية فبدأت فى عهد صلاح الدين الأيوبي، وتفاعلها مع الواقع، وما تنتجه من آراء وأفكار وتصورات وخيالات صنعت إرثا هائلا، أو معينا ممتلئا بالصور والمعانى والرموز، يتهادى أمام من يريد أن ينهل منه. وانشغلت ابتداء بالطرق الصوفية فى أطروحتى للماجستير وعنوانها «التنشئة السياسية للطرق الصوفية فى مصر»، وبعدها تفجرت أمامى ينابيع التصوف، العامرة بالفن والفلسفة والسحر والغرابة. ومع انشغالى بشق طريق لواقعية روحانية أو سحرية عربية فى الرواية أطلت الصوفية برأسها لتكون أحد مصادر السرد لدي.
الرواية تدور أحداثها من خلال زمنين، الأول نعيشه والآخر يجرفنا الحنين إليه.. فلماذا لجأت إلى هذا الشكل من أشكال الكتابة؟
التاريخ يستعار فنيا لمواجهة الحاضر أحيانا، أو مشاكسته، أو التلميح لبعض المسكوت عنه الآن. والتضافر بين الزمنين ربما لم يكن مقصودا مني، لكن صنعته الحيلة الفنية من جهة، وحصيلة إطلاعى على ما تركه أبو العزائم من كتابات ثرية متنوعة حيث وجدت فيها إجابة على بعض الأسئلة الجوهرية المطروحة فى الوقت الراهن، وكذلك الصيغة التى تتفاعل بها الطريقة العزمية مع الأحداث الجارية حاليا.
وماذا تمثل رحلة البحث عن «الكنز المخبوء» تحت ضريح الإمام «أبو العزائم»؟
رغم وجود الكنز فى الرواية بمعناه المادي، ولعبه دورا فى صناعة الحبكة الروائية، والحيلة الفنية، والتشويق والجاذبية، لكن معناه الرمزى هو المقصود، كما بان فى الجزء الأخير. ولا أنكر أن الكنز كان المفتاح لدي، فقد ظللت وقتا طويلا حائرا فى كيفية التعامل فنيا مع شخصية مع أبو العزائم مع غزارة إنتاجه وتزاحم مواقفه، إلى أن وجدت حديثا عن كنز فى كتابات مريديه عنه، فأمسكت به، وتجاوزت واقعه فى رسم ملامح لكنز مختلف، أغلبه من خيالي.
إلى أى مدى كشفت «خبيئة العارف» علاقة الطرق الصوفية بالسلطة؟.
لم يكن هذا الهدف الأساسى للرواية بالطبع، وعالجت هذا فى كتاب، أظهر أن الطرق الصوفية المصرية كانت فى الغالب الأعم تدور فى فلك السلطة، باستثناء العزمية التى كان لها دورا فى ثورة 1919 وطرد الإنجليز مؤسسها من السودان، وكان يقوم بالتدريس ويحرض السودانيين على مقاومة الاحتلال، ولوحق فى مصر، وطالما كتب مقالات انتقد فيها الإنجليز والملك وأحزاب الأقلية. أما فى العالم فإن كثيرا من الطرق الصوفية قاومت الاستعمار، وبعضها تمكن من تكوين ممالك وسلاطين فى أفريقيا، بعضها عاش قرنا ونصف.
كتابة الرواية استدعت معايشتك لأتباع الطريقة العزمية لفترة. حدثنا عن هذه التجربة؟
عايشت أتباع الطريقة العزمية فترة طويلة، فحضرت حضراتهم، وتلوت أذكارهم، وشاركت باجتماعاتهم ولقاءاتهم، وأحداث الرواية تربط ماضيهم بحاضرهم، ومعه ماضى وحاضر مصر، كما تطلبت الرواية قراءة عشرات الكتب التى ألفها الشيخ أبو العزائم، والاستماع إلى ما قيل عنه من قبل مريدى الطريقة المعاصرين، ثم الانطلاق من كل هذا إلى فضاء الخيال.
جاءت «خبيئة العارف» بعد رسالتك للماجستير، ودراستك «فرسان العشق الإلهي». فكيف انعكس انشغالك هذا بالتصوف على الرواية؟
دعك من الدراسة الأكاديمية، فقد تعطى خلفية، وتساعد على صناعة معمار رواية أو بنيتها، لكن تأثير الإطلاع على بعض معارف التصوف وأذواقه على رواياتى جاء من باب آخر، وهو ما ينطوى عليه التصوف من لغة عميقة قوية، ومفارقات مدهشة، وفضاءات واسعة، ورؤى محلقة فى الأقاصي، وأذواق، ومواجيد وروحانيات وفيوضات، كما أن بعض التزيد فى كرامات الأولياء يمنح كاتب الرواية الكثير من الوقائع السحرية التى عليه التقاطها، علاوة على هذا فإن بعض القيم الإيجابية فى التصوف يمكن أن تذهب مع شخصيات روائية لدى فى إيمانها بالتسامح والمساواة.
جميع أعمالك الأدبية، «شجرة العابد» و«بيت السناري» و«جبل الطير» و«السلفي» تشترك فى بحث الهوية المصرية وأصولها الثقافية المتنوعة، وتطرح تساؤل وجودى عن الجماعة المصرية. فما أبرز النتائج التى توصلت إليها؟
الأقدر على إجابة السؤال النقاد والقراء، فالنقاد وجدوا هذه الخاصية فى أعمالي، وتلك حصيلة قراءتهم هم، أو استنتاجات خلصوا إليها، وهناك من خلص إلى أفكار أو معانى أو قيم أخري. لكن ما انتهوا إليه، ومعهم القراء، يحمل بالنسبة لى أمرا مهما، لاسيما أنها قضية تشغل كثيرا من المثقفين المصريين، مع المحاولات المتكررة لاكتشاف الذات الحضارية، والبحث عن الجوانب المضيئة فيها، والإيمان الدائم بأن مصر تستحق الأفضل.
رواية «جبل الطير» تتناول الصراع الخفى بين المتصوفة وعلماء الدين الأصوليين من جهة، والغوص فى التاريخ المصري. برأيك ما عمق هذا الصراع؟
صراع قديم يعود إلى القرن الثالث الهجرى حين دار جدل وتطاحن بين أربع فرق «المعتزلة والصوفية والأشاعرة وأهل الأثر، أو المتسلفة»، وأتصور أنه سيظل مستمرا ما لم نجر إصلاحات دينية عميقة. لكن رواية «جبل الطير» تتبعت تاريخ هذا الصراع فى مصر منذ الفراعنة، وتطرح التدين الموازى فى اتجاه ملحمي، أو تاريخ الأساطير الدينية المصرية منذ الأديان الفرعونية ثم اليهودية فالمسيحية فالإسلام.
لأى مدى انعكس اهتمامك بعلم الاجتماع السياسى على مشروعك الأدبي؟
فى أطروحتى للدكتوراه «القيم السياسية فى الرواية العربية» أيقنت أن الروائى عالم اجتماع صاحب بصيرة، يسرد تصوره بشروط فنية. فى الوقت نفسه فالسياسة بمفهومها الواسع لا يمكن تفاديها، حتى لو كنا نكتب نصا جوانياً، أو جسدياً صرفاً، أو متعلقا بمسألة هامشية وصغيرة وضيقة أو حتى نفسية بحتة، لهذا كان «نجيب محفوظ» يقول دوما: «لا يوجد حدث فني، إنما هو حدث سياسى أو اجتماعى نعالجه بطريقة فنية»، وقالت الأديبة الأمريكية الحاصلة على نوبل «تونى موريسون»: «السياسة تلاحق الأدب أينما ذهب ولا فكاك منها»، وهذا الرأى يأخذ بالطبع فى اعتباره أن الأدب لا يجب أن يتحول إلى بيان ولا منشور ولا أيديولوجية ولا وعظ، وهى مسألة تحظى لدي، كما غيرى من الروائيين، بأهمية قصوي، لكن دراسة المجتمع والأحوال السياسية أو معرفتها أو الإحاطة بها أو التفاعل معها، يمنحنا السياق الذى تدور فيه سردياتنا الأدبية، ويمكن أن يمدنا أيضا بالحكايات والحيل والتقنيات والمواقف.
رابط دائم: