رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حكايات المولودة

د. أنور مغيث

في رواية «المولودة» للكاتبة «نادية كامل»، والصادرة عن دار الكرمة، تتدفق حكايات «مارى روزنتال» المولودة من أب يهودى، قدم في طفولته مع أسرته من بلاد الأناضول، وأم مسيحية قدمت مع أسرتها من إيطاليا. وتحكي عن طفولتها، وتفاصيل بسيطة مثل حبها لشرب دواء السعال، أو كسرها أحد الكؤوس، أو الحكاية البديعة مع ابن الجيران المصري الذي يسكن العمارة المقابلة، وكان معجباً بها، واستعانت به في حل واجبات الحساب العسيرة عليها. وتكتب له المسألة بالطباشير على شيش شرفتها، فيكتب لها الإجابة بالطباشير على شيش شرفته. وحكايات تبدو غير ذات دلالة، لكنها تبدو مطمئنة للقارئ وتدفعه لاستكمال القراءة. فتشعرنا أننا سندخل إلى عالم رحب لا يهمل الراوى فيه شيئاً حتى أدق التفاصيل. وثانياً، من المعروف أن المرء لا يستطيع حكي سيرة حياته بكل أحداثها، فهذا يحتاج إلى عشرات آلاف الصفحات. وكاتب السيرة مضطر أن ينتخب مواقف مختارة من حياته، تشكل هويته، ويضع تحتها خطوطاً ليلفت القارئ إليها، وغالباً يكمن وراء هذه الاختيارات دوافع إيديولوجية سيطرت على عقل الراوى فى آخر العمر، أو دوافع سيكولوجية يبالغ من خلالها في أهمية اختياراته وقراراته الإرادية. وهذه تفاصيل بسيطة تبدأ بها الراوية في سرد سيرة حياتها تبين أن هذا الأمر لم يكن يؤرقها، ولم يشغل بالها التنقيب في حياتها عن أحداث تعتبرها مهمة، لكنها حياتها كما جاءت، سيتم عرضها بلا إدعاء لبطولة ولا زعم القيام برسالة مقدسة. ورغم أن هدف الرواية لم يكن التباهي بإنجاز ولا استعراض تضحيات، إلا أن تناولها يلزمنا باستخدام تعبير البطل كمصطلح من مصطلحات النقد الأدبي، وهو يعني الشخصية المحورية التي تدور حولها الرواية. ونتابع في هذه الرواية سيرة ثلاثة أبطال: مصر، ومارى روزنتال، وقبيلة اليسار. وقصة تطور مصر الحديثة، منذ أن كان بلداً مفتوحاً لاستقبال المهاجرين من أنحاء الأرض إلى مصر الحالية التي تدفع أبناءها للمخاطرة بحياتهم ويصبحوا مهاجرين سريين في بلاد الغير. وحروب وثورات وتطورات سياسية نتيجة للتدخلات الدولية أكثر من التطور الذاتي للشعب المصري. وأكبر التغيرات البارزة للعيان تغير التركيبة السكانية. فمن أحياء خاصة بالأجانب الذين لم يكن أغلبهم سوى عمال مكافحين وليسوا سادة مسيطرين إلى أحياء أخرى خاصة بالمصريين ولغات مختلفة متداولة فى نفس المدينة وتيارات فكرية من كل لون، لنصل عبر مسار تاريخي معقد الى مدينة متجانسة فى السكان لغة واحدة وثقافة سائدة تخيم على عقول الجميع. ويبدو إن التنوع والتعدد الذي كان يسود القاهرة فى بداية القرن العشرين هو إستثناء، أما التجانس الذى ساد فيها فى النصف الثانى من القرن فهو القاعدة، لكن في الحقيقة، الواقع عكس ذلك، ففى المدن الكبرى يكون التنوع والتعدد القاعدة. ونحن نرى تاريخنا المعاصر يطيح بفكرة التجانس ويجبر المدن الكبرى فى العالم بأسره على قبول التنوع الثقافى واللغوى.

أما مارى روزنتال فهي بطلة غريبة، تصبح فجأة قريبة من قلب القارىء لأن فى حياتها من الأحداث ما يمكّنها من أن تصيغ مأساة كبيرة تستدر بها الدموع، لكنها لا تبحث فى هذه الحياة إلا كل ما يدعو إلى البهجة ويبعث على الرضا، فحتى اختيارها لطريق النضال لم يكن نتيجة لتفكير وتروى وعزم وتصميم، وإنما كان لأنها سعيدة فى صحبة شباب من أصول أجنبية يحبون أن يفعلوا شيئاً لصالح البلد. والمرات التي دخلت فيها إلى السجن، وبينها مرة قضت فيها خمس سنوات أشغالا شاقة بلا مبرر واضح، تحكى عنها بعذوبة وخفة وجمال تجعل القارىء يتمنى ألا ينتهى سردها لحياة السجن. كذلك قصة حبها وتمسكها بزوجها. رغم تحفظ أبويها أصرت على أن تتزوج حبيبها المسلم الذي سعى بدوره لانتزاع تصريح من الفاتيكان بعقد زواج في الكنيسة بين مسلم ومسيحية إرضاءً لوالديها.

وكان انخراط مارى في النضال اليساري وزواجها من «سعد كامل» مناسبة للتعرف على أبرز وجوه اليسار في مصر الذين كانوا رفاقاً لهم وأصدقاء في آن. وهم أغلبهم أعلام فى سماء الأدب والفن الصحافة: حسن فؤاد، بهجت عثمان، لطفى الخولى، عبد الرحمن الشرقاوى، يوسف إدريس، صلاح حافظ، أحمد بهاءالدين، على الراعى، أبو العينين ورعاية النمر وغيرهم. هذه النخبة من ذوى المواهب الذين لا يكفون عن الإبداع وتتوزع حياتهم بين السجن وإعالة أسرهم والهرب من الشرطة، ومع ذلك يتألقون توهجاً وحماساً عندما يكلفون «بمهام قومية»، ويبحثون بين النهج السياسى لنظام الحكم وموازين القوى الإجتماعية عما يمكًنهم من إبداء رأيهم وتقديم إسهامهم للجمهور العريض.

وحكايات كثيرة يتداخل فيها الفردى بالعام تنقل لنا صورة وطن لا يزال نابضاً بالحياة والحركة. يبقي أن نشير إلى أن نادية كامل في صياغتها لهذا العمل الجميل اختارت أسلوبا سرديا يحافظ على الايقاع المتدفق، كما كتبته بلغة متفردة تجمع بين الحميمية والتلقائية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق