غَزَلَ الدكتور «على الغزولي»، أحد أهم مخرجى الأفلام التسجيلية، مشاهد مبهرة لبلدنا الغنى هذا، جعلته يستحق
لقب «شاعر الكاميرا» عن جدارة فنية وموضوعية.
وساهم بدأبه، وخياله، فى حفظ وتوثيق وجدان الوطن وهويته، بأفلام تسجيلية تجسد روح مصر الحميمة، مثل رباعيته سيناء، و«حديث الصمت» عن محمياتنا الطبيعية المنتهكة، و«المسجد» عن العمارة الإسلامية الفاتنة، و«هضبة الهرم» عن اكتشافات أثرية، إضافة إلى أفلامه الشهيرة «الريس جابر» عن بناء مراكب الصيد، و«صيد العصاري» الذى رصد حياة صيادى «بحيرة المنزلة» الرائعة، والمحزنة، بحس مرهف، وقلب مهموم بالشقيانين، وغلابة هذا الوطن، تماما مثل انشغاله بأمجاده الكبري، سواء بسواء.
من مسكنه، الذى يطل على ميدان «عبدالمنعم رياض»، والمتحف المصرى وبمشاعره الصادقة، ولهفته الوطنية، انتهز قربه، بالمصادفة، من أحداث ثورة يناير البهيّة، ليسجلها بكاميراه العاشقة، وبعين فنان حذق، أكسبته التجارب حنكة الثمانين، وسماحتها، وثقة متزايدة بروح الوطن العميقة، ولماحية إنسانية تطمئن قلبه، وقلوبنا على مصر. هذا الفنان الذى تحالفت ظروف عديدة ليحقق نفسه، عاش حيّيا، عزوفا عن الأضواء، بقدر إخلاصه لفنه، وإنتاجه اللافت، وما يزال يتجنب المزاحمة على شيء، إلا الإبداع الجميل، وتأمل أحوال البلد والناس بنفس القلب المهموم.
متى ولماذا قررت أن تكون مخرج أفلام تسجيلية ؟
كنت مصورا سينمائيا، وفى 1962 كان المخرج «صلاح أبو سيف» رئيسا للشركة العامة للانتاج السينمائى «فيلمنتاج»، وكانت تابعة للشركة العامة للسينما والإذاعة والتليفزيون، التى أنشئت بعد التأميم، وكان المفترض أن أعمل مصورا، فى فيلم روائى تنتجه الشركة، بعنوان «لقاء فوق الجبل»، قصة «إحسان عبدالقدوس» عن حرب اليمن، ويخرجه اليوغوسلافى «فيلكو بولاييتش» أشهر مخرجى المعارك الحربية حينذاك، وله فيلم مهم عن معركة «كوزرا» أيام النازية. وسافرنا فى بعثة إلى اليمن برئاسة أبوسيف، لمعاينة أماكن التصوير، ومعنا المخرج «ولاء صلاح الدين»، وللمصادفة الطريفة، أننا، نحن الثلاثة، درسنا بالمعهد نفسه فى إيطاليا. وذهبنا إلى منطقة قتال، وسلكنا طرقا جبلية وعرة وخطرة جدا. وتجولنا داخل قصر الإمام «أحمد» ديكتاتور اليمن، وقد جعلوه متحفا، وهو لا يزيد كثيرا على دار «عمدة» ميسور فى قرية مصرية، ودهشت عندما رأيت بين مقتنياته سيفا محفوظا بدم قاض أعدم به، وحجرة مليئة بزجاجات عطور، ومجلسا كان مخصصا للتدخين ومجالسة الحريم. وأصر بولاييتش على معاينة الحمام، ووجدنا بانيو عتيق الطراز بأربع أقدام، وآلة عرض سينمائي، وأصر بولاييتش على مشاهدة الأفلام التى كان يشاهدها الامام أحمد فى الحمام، فتهرب المسئول عن القصر، ثم جاء بأفلام حربية، ولم يقتنع بولاييتش، وقال فى تقريره إنه مندهش لتلك الحرب النادرة فى التاريخ، إذ لم يحدث أن حاربت دولة لأجل دولة أخري، وأكد استحالة اقناع العالم الغربى بفيلم روائي، والحل فى تقديم فيلم تسجيلى طويل أو مجموعة أفلام تسجيلية قصيرة، وعاد بولاييتش إلى بلاده، ولم ننتج الفيلم، لكننى تنبهت لأهمية الفيلم التسجيلي، وقررت أن أترك التصوير، وأتحول مخرجا للأفلام التسجيلية.
لكن المخرج «محمد خان» أعادك إلى التصوير فى فيلم «عودة مواطن» 1986»
هذه حكاية طريفة، أخبرنى فى سهرة أنه سيخرج فيلما، بطولة يحيى الفخراني، ويريدنى لتصويره، فقلت له جئت متأخرا جدا، فطلب رأيى فى السيناريو، وحدد موعدا للقائنا، وعندما التقينا، أخبرته بأن السيناريو ممتاز، فصافحنى قائلا بمرح «اتفقنا.. ألف مبروك»، ثم اختفي، ولم أستطع التراجع. وكانت النتيجة رائعة، وحين شاهدت الفيلم على قناة فرنسية، تساءلت: «هل هذا عملي؟».
تميزت بصورك المعبرة، التى لا تحتاج لتعليقات، لدرجة أنهم لقبوك بشاعر الصورة، هل سبب هذا أنك فنان تشكيلى بالأساس؟
الأفلام التسجيلية التاريخية أو المعلوماتية لا تستغنى عن الكلمة، أما «الدوكو دراما» أو «الدراما الوثائقية» فتتمتع بحرية الصورة، وتترك الطبيعة لتعبر عن نفسها، ثم تعيد الترتيب، بشكل درامى جديد، وربما كنت أول من قدم هذا الأسلوب فى الأفلام التسجيلية المصرية، كما أهتم بالعنصر الإنساني، حتى حين أتعامل مع الحجر، وأذكر عندما صورت مئذنة قايتباي، لاحظت نقوشا وكلمات، وتوقيع «محمد الشبيني»، فركزت عليها، لأقول إن وراءها إنسان. وطبيعى أن أستفيد من كونى مصورا ورساما.
فيلمك البديع «صيد العصاري»، عن «بحيرة المنزلة»، يوحى بأنك ابن صيادين، فكيف تلبستك الحالة إلى هذا الحد من الانسجام؟
أحببت هذا العالم، وتعايشت مع الصيادين، وأحسست بهم جيدا، وأحببتهم بشدة، رغم أننى قاهري، والطبيعة تسحرنى حتى وهى فى عنفوان ثورتها، فكنت أحب التصوير أثناء «النوّات البحرية». وفكرة «صيد العصاري» خايلتنى منذ كنت مصورا سينمائيا، فكنا نصور فيلم «رقص ودماء» فى ملاحات اسكندرية التى اندثرت، فتأثرت بتلك البيئة، وكنت أنطلق بمرح بين الأحراش تحت الأمطار الغزيرة.
هل صرفت النظر عن فيلم «حصن بابليون» لأنك لم تلحق الرياح؟
نعم، كان كل شيء معدا لأخرجه، وكنت أنوى تصوير معالم الحصن وحارات مصر القديمة حين تهب الرياح وتثير الرمال، فتعطى إيحاء بالزمن العتيق. وعندما ثارت الرياح طلبت كاميرا فلم تتوافر، وذهبت الرياح وتبدد الحماس.
هذا يذكرنا بمشاهد للمبدع «شادى عبد السلام» فى «المومياء»، كأنكما تتشابهان؟
كان عبقريا، ومتعدد المواهب، وأخرج أفلاما تسجيلية، وكان تشكيليا مثلى، وانا «نمكي» مثله، ولا أطيق أى خطأ ضئيل فى العمل.
«الفيلم التسجيلي» يخضع لعوامل الطبيعة، مثل «صيد العصاري»، والحالة المزاجية لمن تصورهم مثل «الريس جابر»، فكم يلزم من وقت وجهد لإخراج فيلم رائع؟
الفكرة ربما تعيش فى ذهنى لسنوات حتى أنفذها، وخلال ذلك أجمع العناصر، وأحللها، حتى أعيد بناءها بشكل ابداعى جديد. و«الريس جابر» صورناه فى بحيرة «المنزلة»، خلال أربع رحلات مرهقة، لأن بناء المركب يحتاج لمراحل، الهيكل وهو كعمود فقرى لسمكة، يتفرع منه أشواك. وخلال البناء نتعرف على أصحاب مهن أخرى يشاركون فى العمل، مثل «الألفطي» الذى يجدل الليف ويحشو به الفراغات بين الخشب، ليمنع تسرب الماء، فلا تغرق المركب أبدا. ولا يخلو الأمر من الخضوع لمزاج الريس أحيانا، نتابعه، ولا ندفعه للعمل. ففى إحدى المرات كنا نصور فى مركب، وأردنا الانتقال إلى مركب أخرى للوصول إلى البر، فكنا ننتقل واحدا بعد الآخر ونحن نحمل معداتنا، وأثناء مرور مدير الإنتاج سيد مصطفى بكاميرا، تحركت المركب، فسقط فى الماء واختفي، وارتبكنا بشدة، وفجأة ظهرت الكاميرا ويديه ترفعها، وهو مغمور بالماء، فأنقذناه، وأسرعنا لمعالجة آثار المياه.
وبماذا تشعر الآن وأنت ترى بحيرة المنزلة تموت، والصيادين كالباحث عن طعام فى طبق فارغ؟
شيء مؤلم جدا. لقد شاهدت بعض عوامل تدمير هذه البحيرة أثناء التصوير، كانت عربات «نزح مجاري» ضخمة تصب محتوياتها فيها. فتلوث الماء وماتت الأسماك ولم يبق من البحيرة سوى شريط صغير. لكنهم انتبهوا الآن، ويحاولون الحفاظ على ما بقى منها.
للطفل حضور قوى فى أهم أفلامك، من «صيد العصاري» و«طفولة وابداع»، فهل تستحضر«الغزولي» طفلا، بما يعنيه من دهشة واكتشاف؟
صحيح تماما، هذا ما يلزم المخرج صاحب الرؤية الجيدة. الطفل فى «صيد العصاري» بطل درامي، ينجح فى تخطى العقبات بتفوق، وكنت أشعر بمشاعر الطفل نفسها أثناء التصوير. وحين عرضت الفيلم فى الإمارات، شعرت بتوحد الأطفال معه.
الفيلم التسجيلى حفظ لتاريخ الوطن وتراثه، فلماذ تخلت عنه الدولة، وأهملته؟
اهتمت الدولة بالفيلم التسجيلى عندما كانت بحاجة إليه، وكان وسيلة جيدة لتحقيق أهدافها، وتقديم إنجازاتها، لمواطنيها، وللمجتمع الغربي، ومقاومة الدعاية المضادة، أما الآن فهى لا تحتاج إليه، وتكنولوجيا الاتصال الحديثة أصبحت متاحة للجميع. والفيلم التسجيلى لا يحقق منافع للمسئولين، مقارنة بوسائل الإعلام والفنون الأخرى التى تمنح الشهرة على الأقل.
ألا يمكن انقاذه بجهود شركات الإنتاج الخاصة؟
صعب جدا، لأنها تحتاج لتمويل، ولا تحقق أرباحاً فى مصر، ولا تباع للقنوات الخاصة، ولا تعرض فى السينما. مع أن الفيلم التسجيلى منتج ثقافى رفيع، غير هادف للربح، كالأوبرا والباليه والاوركسترا السيمفوني، والدولة هى المسئولة عن دعمه وحمايته، ليؤدى دوره فى الحفظ والتوثيق، والارتقاء بالذوق العام المنحدر فى مصر للأسف.
لماذا لا يتم إنشاء قناة للأفلام التسجيلية والوثائقية، لعرض كنوزنا، وإضافة الجديد، أو حتى عرضها على قنوات التليفزيون المصري؟
ليتهم يفعلون، فذلك سيحفز المبدعين لتقديم أعمال جيدة، ويمكن أن يكون له صدى ممتاز فى الداخل والخارج.
هل يعانى الفيلم التسجيلى فى الخارج، ما يعانيه فى مصر؟
فى الغرب، قاعات خاصة لعرض الأفلام التسجيلية، وجمهور يدفع مقابل مشاهدتها، ويصل بعضها لأكبر الجوائز العالمية، كفيلم «فهرنهايت 11/9» لـ «مايكل مور» الذى حاز «السعفة الذهبية» من مهرجان «كان»؟.
سجلت بالكاميرا أروع 18 يوما عاشتها مصر، من بداية ثورة يناير 2011 إلى تنحى مبارك، فما أهم الصور العالقة بذهنك؟
كانت أياما مجيدة، تابعتها منذ بداية المظاهرات فى ميدان التحرير، كنت أصور وأنا مختبيء، لأن المواجهات الأمنية كانت شرسة جدا، وكان القناصة منتشرون فى كل مكان، كأنها حرب، وشاهدت شاحنات كبيرة تحمل صناديق قمامة ضخمة، محملة بالسيراميك المكسور، لقذف المتظاهرين، وسيارة تدهس أحدهم، فتجمعوا حولها وأحرقوها، ورأيت «المولوتوف» يقذف على المتحف المصري، والشباب الرائع يسرع لحمايته، وعرفت «الإخوان» عندما جاءوا واندمجوا مع الثوار، وهم ليسوا ثوارا، وفرحت وانبهرت وأنا أرى «ركن الأمانات»، وعرفت أنه لم تحدث أية حوادث سرقة ولا تحرش، رغم وجود حشود بمئات الآلاف، على أقل تقدير، وعندما أقبل شباب وبنات كالورد لتنظيف وتجميل الميدان، بعد التنحي.
وهل أعطيت ما صورت للجنة تقصى الحقائق، التى تشكلت بعد الثورة، للتحقيق فى قتل المتظاهرين؟
أذاعوها باسمي، كتبوا عليها «تصوير المواطن على الغزولي»، ففرحت لأننى حصلت اعتراف رسمى بأننى مواطن.
بعد رحلتك الطويلة، تشعر بأنك قدمت ما تريد، وحصلت على ما تستحق من تقدير؟
أشعر بأننى عشت حياة جيدة، وحصلت على تقدير معقول، خاصة أن جائزة الدولة التشجيعية جاءتنى فى وقت مناسب. كان من الممكن أن أعيش فى مستوى أفضل كثيرا، لكن ذلك يعود إلى طبيعتي، لأننى لم أسع أبدا للحصول على عمل، ولم أقدم أفلامى للمهرجانات العالمية، لاعتقادى بأن مهمتى تنتهى بالحصول على الفيلم جاهزا للعرض. كنت مخلصا للفيلم التسجيلي، ولم أقدم من خلاله إلا ما أحب، ورفضت العودة كمدير تصوير مع بعض كبار المخرجين، ولو استجبت لهم لحققت مكاسب وشهرة أكبر.
ألا تشتاق للعودة بأفلام جديدة؟
لدى مجموعة أفكار، وفيلمان قصيران، أحتاج لدعم لاستكمال مراحلهما النهائية.
رابط دائم: