مع انطلاق شرارة ثورة 1936 فى مدينة يافا ضد قوات الانتداب البريطاني، ولد الأديب الفلسطينى «غسان كنفانى» يوم 9 أبريل، كأنه على موعد مع القضية الفلسطينية فى بداياتها، ومن أول يوم فى حياته إلى استشهاده فى ريعان الشباب من أجلها. وكنفانى كان مولعا بالحكى منذ طفولته، ويحفظ قصص الأجداد ويرويها لشقيقيه «مروان وعدنان» اللذين كانا يتحلقان حوله كل ليلة ليستمعا إلى وصفه المعارك التى خاضها أبطال ثورة 1936 وتحصنهم بالجبال كما لو كان أحد شهودها، وظهر بعض أبطالها فى إبداعاته فيما بعد، ويعود اهتمام غسان بالأدب العربى إلى ما قبل التحاقه بالمدرسة الثانوية، حيث لاحظ رفاقه أنه يتحدث اللغة العربية بركاكة بالغة وكان مسار سخريتهم فانكب على دراسة العربية وآدابها ثم امتدت اهتماماته لتشمل المنجز الأدبى الغربى بشكل عام والرواية بشكل خاص لأدباء مثل ديستوفسكى وجوركى وهوجو وبلزاك وديكنز، الذين مهدوا له آفاق الإبداع فكتب أول قصة بعنوان أنقذتنى الصدفة وبثتها إذاعة سوريا عام 1952، وبعدها دفعته حادثة طريفة شاهدها بعينه إلى كتابة قصة أخري، عندما اقترب طفل من أحد المارة يطلب حسنة فأعطاه الرجل خمسة قروش، وأسرع الطفل على الفور إلى ميزان على باب صيدلية قريبة ليزن نفسه بالقروش الخمسة، ليضحك غسان طويلا، ويسأل نفسه هل هذا الطفل مثل جافروش طفل رواية البؤساء؟ وهل هناك مشردون لهم عالم خاص يعيشون بيننا؟ .
ثم كتب قصة جديدة بعنوان «أول عائد»، و يكملها برسم وجه جاد الملامح ويريه لأصدقائه ويقول لهم: «هذا ما أرغب فى التعبير عنه». وبعد تلك المحاولات الأولية ينشر غسان أول قصصه الناضجة بعنوان «شمس جديدة» عام 1956، بطلها طفل لاجئ من غزة يعانى من أجل قوت يومه وسط تجاهل المجتمع، إلى أن تبتسم له الحياة ويجد مصدرا دائما للرزق. و يواصل كتابة القصة القصيرة وينشر أربع مجموعات، هى »موت سرير رقم 12«1961»، و«أرض البرتقال الحزين» 1963، و«عالم ليس لنا» 1965، و«عن الرجال والبنادق» 1968، بجانب مجموعة أخرى من القصص المجهولة جمعتها «لجنة تخليد أدب غسان كنفانى».
وتضم مجموعة «موت سرير رقم 12» سبع عشرة قصة منها «البومة فى غرفة بعيدة» التى تشير للنكبة التى لم تغب عن ذهنه طيلة حياته، ويقص بطلها صورة بومة مبتلة بماء المطر من مجلة ويعلقها على جدران غرفته الخالية من الأثاث، وتفاجئه الصورة حين يأوى إلى فراشه فى الليل بتحولها إلى شيء بشع، وتشبه نظرة إنسان أجبر فجأة للاختيار بين الموت و الهرب، فتفجر اللحظة فى ذهن البطل شلالا من الذكريات: «كان ذلك قبل عشر سنوات، تقريبا، كنت فى قريتى الصغيرة.. التى تتساند دُورها كتفا إلى كتف فوق حاراتها الموحلة.. كنت طفلا آنذاك، وكنا نشهد دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت فلسطين تتساقط شبرا شبرا وكيف كنا نتراجع شبرا شبرا». البطل شاهد وهو صغير بومة على غصن شجرة، وفى وهج نيران الحرب لمح فى عينيها تحديا مشوبا بالخوف والحيرة فى البقاء على الشجرة، أو التحليق بعيدا. وظلت الصورة عالقة فى ذهن الشاب الذى عاش المنفى بعيدا عن الوطن الذى ضاع فى لحظة اختيار سيئة. أهدى غسان هذه المجموعة إلى من استشهد فى سبيل فلسطين، وإلى من لم يستشهد بعد، وترسم قصصها صورة واضحة القسمات لمجتمع اللاجئين وقسوة الغربة، ففى قصة «أبعد من الحدود» يفاجأ شخص مهم بعد عودته إلى بيته بشاب هارب من السجن يقفز من النافذة إلى داخل حجرة المعيشة، ويصبح فى مواجهته مباشرة، وبشكل خطابى زاعق يتحدث الشاب عن تعلم الذل فى مدارس الوكالة، وعن أخته التى تزوجت فى قطر ثالث وليس بوسعها رؤية أهلها. ثم يحدثه بسخرية عن اللاجئين فى المخيمات قائلا: «إنهم أولا قيمة سياحية، فكل زائر يجب أن يذهب إلى المخيمات، وعلى اللاجئين أن يقفوا فى الصف الأول، وأن يطلوا وجوههم بالأسى الممكن، فيمر السائح ويلتقط الصور ويحزن قليلا ثم يذهب إلى بلده ويقول: «زوروا مخيمات اللاجئين قبل أن ينقرضوا».
ويبدو عنوان مجموعته «عالم ليس لنا» سطوة اليأس والشعور العميق بالمنفي، ونجد بعض القصص تمهد للخروج إلى عالم الكفاح المسلح. مثل قصة «العروس» التى تعد علامة فارقة فى إبداعات كنفاني، وبطلها مقاتل قروى انتزع بندقية تشيكية من جندى صهيونى فى حرب 1948، لكنها سرقت منه وبيعت لأحد الشيوخ فى قرية أخري، فيهيم فى المنفى ويسأل عن «العروس»، أى بندقيته، وبتكرار السؤال أصبحت رمزا للخلاص من المحتل الغاصب وبشرى بميلاد الثورة المسلحة.
ومجموعته «عن الرجال والبنادق» متوالية قصصية تمزج سيرة السلاح بسيرة الأبطال الذين يذهبون للهجوم على قلاع الإنجليز، وتتناول أحداث تاريخ المقاومة منذ ثورة 1936 مرورا بفشل القيادات العربية فى حرب 1948، ثم تأسيس منظمة التحرير والتفاف الفلسطينيين حولها وانطلاق العمل الفدائي، الصبى منصور وخاله يمثلان المحور الإنسانى الذى تدور حولهما قصص المجموعة والمرتبط بالبندقية، فالصبى يعشقها مع أنها تزن أكثر من نصف وزنه، وخاله الذى يملكها يحرص عليها حرصه على حياته، وذات يوم يطلب منصور البندقية للمشاركة فى صد الهجوم الواقع على صفد، ويقول له إذا مت فسيعيدها إليك حسام، وفى المقابل يبرز غسان شخصية الدكتور قاسم المغرور شقيق منصور وكيف يركن للدعة والراحة ويعاشر اليهوديات، ولا يبالى بما يحدث لبلاده بينما يسدد شقيقه الصغير رصاص البندقية إلى صدور الغاصبين. ويعود منصور ويسلم البندقية إلى خاله الذى يغادر منزله لقتال الإنجليز، ويعاود منصور الخروج للمقاومة واحتلال قلعة جدين بمشاركة والده الذى استشهد بعد هجوم الطائرات البريطانية على الفدائيين وإفشال مخططاتهم.
وعثرت «لجنة تخليد إبداعات غسان كنفانى» على ثمانى قصص نشرت فى الصحف والمجلات بين عامى 1958و1969 ولم ينشرها ضمن المجموعات السالفة الذكر . ونال عنها جائزة فى الكويت، وتعد النافذة التى كشفت موهبته الأدبية، ومن أبرز القصص «القميص المسروق»، وتحدد ملامح عذابات العيش فى المخيمات. حيث يعيش «أبو العبد» بطل القصة لاجئا هو و زوجته حياة بائسة فى المخيم، فيضطر لسرقة أجولة الطحين بالتعاون مع جاره أبو سمير على أن يتولى البيع الموظف الأمريكى الذى يعمل بوكالة غوث اللاجئين لتنتهى خلافاته مع زوجته ومتاعب ابنه ماسح الأحذية.
رابط دائم: