هى فى بيتها بمثابة روحها فى جسدها، فمثل أى سيدة عزيزة النفس، كان قرار الجدة شفيقة السيد عطية البالغة من العمر 75 سنة، أن تظل فى بيتها لا تبرحه حتى تغادر روحها هذا الجسد المتأهب للرحلة المحتومة، ها قد أتمت رسالتها وأنجز لزمان ما وعده بأن ترى كل أبنائها هانئين فى بيوتهم، كانوا من الذكور أو من الإناث.
ــ تعالى يا أمه عندي
ــ لا يا ولدى بيتى أولى بي
ــ إنت كبرت يا أمى تعالى عيشى معانا
ــ أنا لا أرتاح إلا فى بيتي
كانت تردد المثل الذى تطبقه «من خرج من داره اتقل مقداره» فإن أردتم أن ترونى فبيت أبيكم مفتوح لكم حتى ترثوه من بعدي، فكل خطوة بره البيت غربة لا تتحملها السيدة شفيقة.
بيتها هو مملكتها تعود إليه عقب كل مشوار تقضيه وكان زوجها الراحل مازال قابعا ينتظرها فيه.
بالأمس القريب كان عيد الأم، لكن الحاجة شفيقة لا تهتم بأن يزورها أولادها وأحفادها، فهى منذ أن ولدتهم تباعا وربت وكبرت وزوجت وشأن أى زوجة مصرية صعيدية أصيلة، أكملت رحلتها بعد وفاة أبيهم بلا كلل ولا شكوى.
ومنذ مالا يزيد على أسبوعين وبالتحديد فى اليوم الثالث بعد عيد الأم، جاء لزيارتها فى بيتها بقرية الزواتنة القبلية مركز جرجا «م. ب» وهو حفيدها من إحدى بناتها التى تسكن فى قرية برديس القريبة.
ــ كل سنة وأنت طيبة يا ستي.. أنا آسف إنى تأخرت عليكي.. أول امبارح كان عيد الأم
ــ وأنت طيب يا ابن بنتى ولا يهمك.. تعال يا ولدى بات عندى الليلة.. أنت واحشنى والله يا وليدي.. وأعز من الولد ولد الولد.
لكن أعز الولد كان قد انتوى أمرا جللا، فهو فى السابعة والعشرين من عمره ويعمل سماكا، ولكنه يراها مهنة حقيرة ويريد أن يرتقى بنفسه ومثل كثيرين ممن هم فى سنة، يداعبه حلم تحقيق الثراء، الذى لا يرى غيره سبيلا لتحقيق العز والكرامة، فتلتفت حوله بعد أن ضج من أحلامه، فوجد وهمه يصور له أن جدته شفيقة كما يتردد «كانزة على قلبها» وأنها تحتفظ بثروة هائلة من المال والمصوغات تخفيها فى مكان ما فى منزلها القديم.
فهكذا يظن الكثيرون فى العجائز اللائى يعشن بمفردهن، مع أن السيدة شفيقة معروف مصدر رزقها من أرض ورثتها تدر عليها ما يكفى لحياة كريمة بالكاد ضمنت لها ألا تصبح عبئا على أى من أولادها المستقل كل منهم ببيته. لكن هكذا صور له الشيطان أنها تخفى من المال والذهب ما يمكن أن يحقق له حلمه الموعود.حاول الحفيد أن يتلمس أى دليل على موضع الثروة الوهمية فلم يصل لشيء!.لكن ما الحال لو ماتت الجدة واكتشف الورثة - وهم كثر- مكان الثروة، إذن فلن يكفى نصيب والدته من الميراث لتحقيق حلمه.
فليكن هو الوريث الوحيد ولتكن هذه لحظة استحقاق الميراث وما أيسر من التخلص منها فهى امرأة عجوز يسهل كتم أنفاسها، فهى لن تتحمل أى شيء وعموما لن تقاوم فى حال لو انتبهت من غفوتها، يده وهو يحكمها على فمها وأنفها ، ثم إنها ستموت لا محالة ولا فرق بين أن يكون موتها وهى فى الخامسة والسبعين من أن يكون فى السادسة والسبعين، فقد ظن أن الجميع ينتظرون هذا اليوم!.
أحكم «م» كفه على وجهها وهى نائمة مطمئنة ولم يرفعها إلا بروحها الصاعدة إلى بارئها الذي لم يرهما سواه لتشكو إليه ما حدث من الحفيد العاق.وبهدوء القاتل المحترف، ترك جثتها على فراشها وراح يبحث فى كل مكان يمكن أن يصلح لإخفاء النقود والذهب وبدأ بدولاب ملابسها ثم بقية الأثاث، فلعلها تحتفظ بكل ذلك فى مكان سري، لكن بحثه المحموم أسفر عن لا شيء سوى غويشتين وخاتم انتزعها من جثتها بعد أن تملكه القنوط ثم ترك المنزل متحسرا على فشل الحلم الأخير. وفى يوم زيارتها المعتاد ذهبت إحدى بناتها للاطمئنان عليها، فأطلقت الصرخة التى أفزعت القرية من هول مفاجأة موت أمها.
الجريمة لا تبدو معتادة فى مثل هذه المنطقة، فقد أصيب الجميع بالفزع من احتمال أن يكون قاتل لامرأة عجوز من بينهم، فلم ير منها أحد إلا خيرا. وبسبب ذلك الفزع وما يمكن أن تحدثه تبعات جريمة قتل مجهولة فى مثل هذا المجتمع الجنوبي، كانت تعليمات اللواء عمر عبدالعال مساعد وزير الداخلية ومدير أمن سوهاج بضرورة حل لغز الجريمة والتوصل إلى الجانى قبل أن يتبادل الكل الاتهامات بسبب الشعور بالعار بين أهالى القرية بأن امرأة آمنة تعيش وسطهم قد قتلت فى بيتها.
ومن خلال فحص مسرح وظروف الواقعة، لم يعثر على أى آثار لمقاومة لا فى الجثة ولا حولها ولكن كان واضحا أن القاتل كان يبحث عن شيء ما، ومن خلال مناقشة الجيران وأهل المنطقة توصل ضباط قطاع الامن العام من خلال فريق البحث، الذى امر به اللواء جمال عبد البارى مساعد ووزير الداخلية لقطاع الامن العام الى تحديد المتهم من خلال فريق العمل باشراف اللواء اشرف توفيق مساعد مدير الادارة العامة للمباحث الجنائية بقطاع الامن العام . و مديرية أمن سوهاج ومركز جرجا باشراف اللواء خالد الشاذلى مدير المباحث إلى أن حفيدها «م» كان فى زيارة لها قبيل اكتشاف الجريمة، ولم ينخدع الضباط بمظاهر الحزن التى بدت عليه وبعد مناقشته ومواجهته عندما أنكر الزيارة، اعترف بتفاصيل جريمته وأرشد عن حصيلة السرقة التى انتزع من أجلها روح الجدة.
رابط دائم: