أخى «سعد» الذكى، الضحوك، بهى الطلعة، الواعى.
فى الحادية عشرة من عمره ضربه مرض قاس بلا ترفق.
وبعد عام من الآلام الوحشية، أراحه الموت من عذابه بعدما تجاوز الثانية عشرة بعدة أشهر، وتركنى وحيدا هناك، على سرير شهد ضحكاتنا الصافية لسنوات.
فكيف احتملت هذه الحياة بدونه؟!
كان إذا ضحك، ارتج جسده، واهتز رأسه الكبير، وترنح بشكل ما، ويجلجل صوته العميق فى الفضاء، وتدمع عيناه، فتلمعان ببريق باهر، وتُعدينى صهللته، فأضحك بمحاكاة، ما زلت أستغرب سذاجتها.
كان نابهًا من صغره، يلتقط الأشياء بسهولة مذهلة، ويُكوِّن رأيًا لافتًا فيها بلا عناء. وكنت أتعجب لكبر رأسه، لكنى استحييت أن أسأله عن السبب، أظنه لم يكن يعرف إجابة لسؤال كهذا. كان يمشى بتؤدة الكبار، ويتمايل كأنه سيسقط، فإذا جلس بات أكثر الحضور ثباتا، وأرجحهم رأيًا، أيًّا كان رُوَّاد المجلس.
يبهر أساتذته، فيشيدون به فى كل الأماكن، ويتنبأون له بمستقبل عظيم، قرأ كتبًا كثيرة، وتحدث عنها بكلام لم أفهمه، لكنَّ غموضًا ما فى كلامه اجتذبنى.
ورثت عنه عادة القراءة، تقليدٌ تحول تدريجيًّا إلى هوس مقيم، لكن براعته الكبرى تجلت فى أشياء لم يستطع أحد مجاراته فيها، حفظ القرآن كاملا فى العاشرة، وجوَّده حتى أذهل «الشيخ
جمعة»، الذى اتخذه صديقا، ولقبه بـ «الدكتور سعد»، وأفرد له مجلسًا نادرًا إلى جواره على دكته، ووضع خلف ظهره مسندًا أبيضَ نظيفًا، كنت أفخر به فى سِرِّى، وأباهى أقرانى بأن «الدكتور سعد» أخى.
لكن مرارة تعثرى فى الحفظ كانت تُنغِّص خفايا مشاعرى،
وحفظ أجزاء من كتاب «الأيام» لـ «طه حسين» عن ظهر قلب.
وكان يردد مقاطعَ معينة منها بفصاحة وهو مغمض العينين تمثلا لعماه، وكان يحلو له أن يعلن فى مجالس أصحابه الكبار من «حفظة القرآن»: «طه حسين عميد الأدب العربى، وأنا (بثقة مُشبّعة) سأكون عميد الطب العربى». يرددها كثيرا، حتى سلمنا جميعا باعتباره طبيبا، وحين يجلس بجوار مولانا على الدِكّة لنَصِحَّ عليه «أرباع السور»، يرعبنا بآراء صادمة فينا، وتعبيرات جارحة، لم يتردد فى وصم العيال بالجهل والغباء. العجيب أنهم اقتنعوا بصحة كلامه، وتصرفوا كأغبياء، وبذلوا جهودا مستحيلة ليبقوا فى جواره، لينظر إليهم وحسب، وأرجعوا انصرافه عنهم لانشغاله بالدراسة والقراءة، وربما أراحهم نسبيا أنه لم يكن يأتى كثيرا، كنت أرتعد أن ينسى وسط صرامته تلك أننى أخوه ويصمنى بالغباء، لكنه فى البيت كان يعاملنى برقة وحنو بالغين، يقول: «أحضر الأطلس»، ( الأطلس الجغرافى لإخوتى الكبار فى الثانوى)، كانت تلك من لحظاتى الممتعة. يفتح صفحاته، ويسألنى: «أين السودان؟ وأين الجزائر؟ وأين سوريا؟»، أبحث عنها، وأشير إليها فى الخريطة بفرح طاغ، فيثنى على حسن استيعابى، ودقة ملاحظتى، فأطير طربا،
وبأصابعه البيضاء الرقيقة وردية اللون، ذات الحدبة البيضاء فى آخرها من الداخل، يشير إلى عاصمة الدولة، وأهم المدن، والموانئ إن كانت البلد ساحلية، ويشرح لى باستفاضة، قارات العالم، وأشهر الدول، أكبرها، وأصغرها، وأهم محاصيلها ومنتجاتها، جعلنى أرى الدنيا من زوايا رائعة، وباتت الخرائط تفيض بمعلومات مدهشة، والبلاد تتحرر وتنهض وتنتج جمالا يومض فى ذهنى.
وحفّظنى الأسماء الرسمية للدول العربية، وأسماء ملوكها، ورؤسائها، وحكامها، وعدد سكان كل منها، وما زلت أذكر بوضوح حزنه البالغ على فلسطين، وشجنه، وتهدج صوته، ودموعه الحقيقية، وهو يذكر المذابح الشهيرة التى ارتكبها الصهاينة بحق إخواننا فى أنحائها المتفرقة، وظل يدقق على مسامعى أسماء القرى والمناطق التى شهدت المجازر، وسالت على أرضها الدماء الأبرياء، كانت أول هزّة وطنية أحسها فى قلبى، تأثرت بطريقته الشجية فى الشرح، وأدهشه إنصاتى. وشرح لى فكرة المخيمات التى نزحوا إليها فى الدول العربية المجاورة، وظلت خريطة فلسطين النابضة بالتفاصيل المأساوية سلوانا الرئيسية، وفى كل مرة كانت دموعه النبيلة تبللها، وكان بكاؤه يمنعه من الاستكمال عادة. وبعد سنوات كنت أتذكر هذه التفصيلة وأندهش، من أين لطفل كل هذه المشاعر الخاصة بكل دلالاتها العميقة، لكنه ببساطة، عاش حياته يذهل الجميع بلا عمد!.
وكثيرا ما أشار بفرح إلى الدول الخليجية الناشئة آنذاك، الإمارات، والبحرين، وقطر، وقال معلومة لا أنساها أبدا، عن امتلاكها كميات كبيرة من «النفط»، وسألته: علشور«يعنى إيه نفط»، فقال: «بترول»، فسألته مجددا بذات العفوية: «يعنى إيه بترول؟!»، فقال بنفاد صبر: «عارف عمك عثمان بتاع الجاز»!، فتهللت وقلت بحماس: «آآآه». قال: «اللى بيبيعه ده هو النفط»، وفرحت بالمعلومة، وتباهيت بها أمام أصحابى، وأنا أشير لهم بفرح إلى «عمى عثمان بتاع النفط» كلما رأيته، وكان رجلا طيبا، مبتسما على الدوام.
وسمعنا وقتها عن أفراد قلائل، من قريتنا، سافروا وقتها إلى الكويت، وسلطنة عمان، والسعودية، فإذا ذُكر بلد منها بسبب سفر أولئك، أفاض سعد بالمعلومات عنها بلا قصد، ليبهر الحضور كدأبه، وعادة كان يغادر أى مجلس بعد أن يقول ما عنده، وكنت أستمتع أنا بإشادات الناس بنباهته، وأنه «سابق لسنِّه» !!.
وكان عمى «إسماعيل» يحب سعدًا حبًّا جمًّا، ويحب مناقشته فى كل شيء بلا ملل، وكلما ذهبنا إليه كان يترك ما فى يديه فورا ليجالسه.
كنا نذهب يوميا إلى عمى الطيب الذى تكفل بنا بعد رحيل الوالدين تباعا خلال عامين، لنأكل «آيس كريم» عنده فى مقهاه الذى اشتهر بالجيلاتى فى الصيف، والبليلة شتاء، وظل لسنوات يحضر لنا كأسين كبيرتين مكتظتين بالآيس كريم فوق الحافة، كنت ألتهم نصيبى بسرعة، وسعد كان متمهلا بطبعه، فكانت كأسه تسيح ولا يحب أن يشربها، ينشغل بالكلام مع عمى عن السادات الذى لم يكن يحبه، ويفضل عليه جمال عبد الناصر دائمًا، وعمى يشاغبه، ليسمع منه أكثر، ووجهه مشرق بالفرح من آرائه،
ثم يعطينا مصروفًا مرضيًا، ويحشو لكل منا بسكوتتين كبيرتين بالآيس كريم لنتسلى بهما فى طريق عودتنا، كنت ألتهمها خلال مسافة قصيرة قبل أن يسيلها القيظ، وتسيل بين يدى سعد، فلا يستطيع ملاحقة خيوطها، ويلحس بعضه بأدب، ولمَّا يفشل فى السيطرة عليها يشير إليَّ بها، فلا أستطيع لامتلاء معدتى، فيعطيها لأول من يصادفنا، أو يلقيها على جانب الطريق، بعيدا عن مسار الأقدام، لأنها نعمة ربنا.
وكثيرا ما كان يشكو من سخونة تراب طريق الزراعية، فهو مثل بودرة ناعمة، كان من الطمى الخالص، وتسحقه الشمس، فتغوص فيه أقدامنا، وتلسع حرارته أقدامنا، ولا يحتمل الحر، وينهج من المشى، ويشعر بأن الطريق أطول مما اعتدناه، ويستغرب أننى لا أشكو مما يعانيه، ويرتاح قليلا تحت ظلال الشجر الذى يصادفنا، وأسمع صوت لهاثه، فيرق له قلبى كثيرا، وألمس خديه بيدى، فيتململ من آثار الآيس كريم التى تلتصق بوجهه، ويغسلها بزهق فى ماء أول زير يصادفنا، وحين نصل إلى البيت يكون القيظ قد أجهز عليه، فيستحم ويغطُّ فى قيلولة عميقة مباشرة، ولا أجد من ألعب معه.
كان مسموع الكلمة عندى، ولدى كل العيال، ويتمتع بنفوذ معنوى كبير بين الشيوخ وكبار السن. الوحيد الذى كنت أمتثل لأوامره من دون تلكؤ، وأنفذ نواهيه حتى فى غيابه.
لذا، حين كانوا يريدون منى تنفيذ أى شيء يطلبون إلى سعد أن يأمرنى به، فألبِّيه، ما عدا ذلك لم أكن أسمع كلام أحدٍ قط.
كان يتصرف كشيخ قبيلة، لا يتصور أن يرد له أحد كلمة، أو يَرفض له مطلبا، وكان يتوسط عند مولانا لبعض العيال فى الغياب عن الكتاب لمصالح ضرورية فى بيوتهم، لكنه لم يكن يستطيع أن يلعب الكرة مثلنا خشية الوقوع، فرأسه يغلبه كلما حاول الجرى، وأُجبر على المشى مثل العواجيز فى طريقهم إلى صلاة الفجر.
وذات يوم لا أدرى له شكلا، أراد أخى الكبير، على غير عادته، أن يلاعبنا، وجرفه الحماس، وطلب إلينا أن يمسك كل منا بإحدى يديه، وعقدهما فوق رأسه، وحملنا لأعلى، وهو أطول منا بكثير فتعلقنا، وضحكنا باستمتاع، وحذرته أختى بإصرار، وقالت برجاء: «بلاش اللعبة دى»، أرادت أن تنزلنا بعفوية، لكننا تمسكنا، وتمسك أخى الكبير، قال لنا: «امسكوا جامد»، وتشبثت بيده، ودار بنا بسرعة كبيرة، وضحكنا،
وضحك سعد باستمتاع، نسى كل تفوقه وتميزه وصداقته للكبار ونسى طه حسين والأيام، وفى اللحظة الوحيدة التى رأيته طفلا فى سنِّه، وكان يضحك من قلبه، ووجهه مشرق تماما، وأنا أضحك بالعدوى كالعادة، وأخى الكبير يدور بقوة، أفلتت يد سعد، وسقط على البلاط، وسمعت صوت ارتطام رأسه بالبلاط. أتذكر بدقة أنها «طقت» بصوت مسموع ومكتوم أيضا.
وتوقف أخى ونزلت، وأسرعت أختى إلى سعد تحتضنه.
ودخل فى غيبوبة من فوره، وحملوه إلى السرير، امتقع وجه أخى الكبير وشحب لونه، وسالت دموع أختى فى صمت، وعم السكون البيت، فبان طنين ذباب القيلولة.
أفاق سعد بعد وقت طويل وقال بصوت أليم: «راسى»، وجاء عمى وسأل أختى هامسا عما جرى، فاضطرب رمشه ولم يُعلق.
وفى فجر اليوم التالى حمله على كتفه إلى طبيب فى المنصورة
لكن سعدًا ظل يتوجع دائما من ألمٍ أمسك برأسه، وتكررت زياراته إلى الأطباء بلا جدوى، كان رأسه يتضخم، أو جسده ينحل لا أدرى، لكنه أصبح يترنح أكثر، وغير قادر على المشى تقريبا، وبات صوته واهنًا، وكلامه كله عذبًا، يضغط القلب، كنا ننام بجوار بعضنا طوال عمرنا الصغير، لكنهم منعونى من النوم بجواره لأنى أتقلب كثيرًا، كنت أسمعه من السرير الآخر يئن طوال الليل، وتنخطف أنفاسه خطفًا، ونحيب أختى المكتوم يبكينى ويضاعف القبضة.
..........
سافر بصحبة عمى كثيرا إلى الإسكندرية والقاهرة،
ولم أفهم من همسهم شيئا، لكن دموعهم كانت تبكينى دائما
وأشعر أن شيئًا مخيفًا يحدث ولا يصرح به أحد، وأخى الكبير يسافر فى مشاوير مجهولة بعيدا عن كل هذا، وعمى لم يعد يضاحك سعدا، وبدا هرما، وساهما، وظهره مُقوسا عند كتفيه.
والشيخ جمعة صاحب الكُتَّاب يأتى يوميا ليجالسه فلا يمكث كثيرا، وألمحه يمسح دموعه وهو يغادر بيتنا.
........
احتجزوه فى مستشفى الدمرداش فترة، وفى مستشفى بالإسكندرية ـ لا أذكر اسمه ـ فترات أخرى متعاقبة، وعاد ليدخل امتحان الصف «السادس الابتدائى» من دون مذاكرة نهائيا. كان مشغولا بما فاته من الدراسة طوال الوقت،
حاولوا إقناعه بقراءة الكتب فى البيت، فكان يعافر معها لكن عينيه لا تستطيع التركيز لدقائق، ودخل الامتحان، وكان عمى يعرف من المراقبين أنه يبلى بلاء حسنا فى الإجابات، لكنه هو ظل غير راض عن أدائه.
كانوا يحملونه إلى هناك، فيصر على أن ينزلوه ليدخل المدرسة ماشيا، وبعد قليل يتساند عليهم، ليقاوم دوخة عميقة عنيدة ألمّت به، تماسك حتى أنهى امتحان كل المواد، ثم تعب كثيرا، وتدهورت حالته.
قال طبيب إنه بحاجة إلى راحة تامة، وغرفة معتمة، لينعم بالهدوء بمعزل عن الضجيج والضوء الباهر، ظل يترقب النتيجة على قلق، ويطلب يوميًّا أن يذهب إلى المدرسة.
لعلها ظهرت ولم يعرف أحد، كانوا يطمئنونه بأنه من الأوائل، فيغضب لأنه لا يقنع إلا بالمركز الأول، بلا شريك.
راوح بين التعب الشديد، والمحتمل، والإغراق فى النوم، والإفاقات المتقطعة، وصراخ الألم، وهو يمسك رأسه، ويعويييييى، فإذا هدأ الألم قليلا، يهذى بكلام متقطع عن إجاباته فى الامتحانات والنتائج، يتصبب عرقًا، ويبلل ملابسه، فيحاول مغادرة الفراش لكن جسده لا يطاوعه، وكثيرًا ما ذكر أمه وأباه فى هذيانه وصحوه، بات يشتاق إليهما كثيرًا، كانت أختى تخرج متحججة بأى شيء لتبكى بعيدا عنه، وحين تعود تضاحكه، وتحرضه على ممازحتها كما اعتاد، لكن المرض كان قد صفَّى روحه تماما، فلم يعد ينطق إلا بكلام لطيف وحسب، وحين انطلقت الزغاريد فى الجوار تهلل وعرف أن النتيجة ظهرت، وحين أخبروه بمجموعه الكبير حزن بشدة، وبكى بحرقة أبكت كل من حوله.
وحاولوا إقناعه بأنه من الأوائل، (كان مجموعه 281 من 300) يعنى أن ترتيبه الثانى أو الثالث على الأكثر، لم يقبل كل كلامهم، ورفض تبرير أن «وجع رأسه» منعه من المذاكرة، وأصر ّعلى أنه كان مقصرًّا ولم يحل بعض الأسئلة كما ينبغى له، ولم يستطع أحد أن يخبره بأن ما حققه معجزة، وأن أوجاعه فى الدماغ، حتى لا يحزن، فقد كانوا يخفون عنه ما عنده، كما أخفوه عنى،
ولم أفهم حقيقة مرضه إلا بعد رحيله بسنوات، حين حكى لى عمى بتعبيره «عذاب سعد الكبير».
وبعد أسابيع قليلة انتكست حالته فحمله إلى الإسكندرية.
وهناك كان قد تصادق مع بعض الأطباء، وربطت بينهم مناقشات فى الأدب وعن طه حسين والسياسة، وأُغرموا به، وحزنوا من قلوبهم لعجزهم عن معالجته أو التخفيف عنه، ووفروا له أقصى خدمة تمريضية، والمسموح من المسكنات ليخففوا عنه آلامه.
الطب آنذاك كان لا يزال عاجزا أمام ذلك الوحش المخيف.
كان الورم ينتشر فى مخِّه بعناد وتحد، ويصرخ من الألم، وعمى يبكى وحيدا، يلوذ بالصلاة ليستجير بالله، ليعفى ابنه ويفتديه بنفسه، ولا راد لقضاء الله، مات بعد «عميد الأدب العربى» بعدة أشهر فقط، أراد تنكب نجاحه فى الدنيا، فلم يحظ إلا بجواره فى الآخرة.
حين جاءوا بجثمانه ملفوفا بقماش أبيض لم أصدق، ظللت متصورا أن من واروه القبر طفل غيره، ما يزال هناك فى الإسكندرية، الأرجح أنه تسلل بشكل ما، واستخدم ذكاءه فى الهرب من المستشفى والمرض.
كانت جنازته حاشدة. مهيبة، كأنها لعالم جليل، يظللها أسى ثقيل، وتكسو الوجوه حسرات عميقة، وتساؤلات لا إجابة لها.
وبداخلى هاجس يقول: سيعود!!.
.......
بعد سنوات، كنت أذهب إلى قبره يوم زيارة الناس الأسبوعية للمقابر فترانى خالاتى ويبكين بحرقة، وحين كبرت قليلا، تفاديت ذلك اليوم بسببهن، فلم تعد روحى تحتمل وقع الطبطبة. فكنت آخذ كتابى الذى أذاكر به بين الحقول، وأجلس أمامه فى عرض الشارع بين قبريّ الوالدين، وأحس به يتحسس وجهى كما كنت أتحسس وجهه بيدى الملوثتين بآثار الآيس كريم. أغمض على ملمس أصابعه، وصوته يقول لى كدأبه: كن طيبًا، ولا تؤذِ أحدًا.
ويسألني: هل ما زلت تشاكس الناس، فأضحك وأنا أتلفت خشية أن يرانى أحد، فالضحك فى المقابر عيب، وأخبره بأن الناس باتوا يتعجبون من تشابه سلوكنا.
وفى المرحلة الثانوية صادفت أحدهم فسألنى باعتبارى سعدًا. عن أخى «الصغير الشرس»؟!.
فوجم الرجل حين عرف أنه توفى منذ سنوات، وأن «الصغير الشرس» بات مسكونا «بروح سعد»، وتعجب من تبدلات الأحوال.
.......
مصادفة حكيت لابنيَّ «وطن.. وحبِّ الله» عن عمهما «سعد» فأعجبتهما سيرته، وشغف به «حب الله»، وكلما خلونا إلى بعضنا سألنى عن التفاصيل المتعلقة به، وكلما أفضت طلب المزيد، وحين رأيا صورته فتشا عن عبقريته فى ملامحه. واحتارا على نحو ما، لكن تعلقهما به جدَّد سيرته فى وجدانى بسخاء. وتعجبت لـ «حنين الجينات الكامن»، وتمنيت لو يرثان نقاء قلبه، وسماحة روحه، وشغفه العظيم بالمعرفة.
رابط دائم: