تحقيق المخطوطات فن من فنون الكتابة، ولهذا الفن قواعده وأصوله، وعُدته التي يجب أن يتقنها المُحقق؛ الفارس الذي يعبر بوابة الزمن ليقدم للقارئ مخطوطاً صحيحاً كما وضعه مؤلفه..
بالأمس استطاع الناشرون إخراج كثير من المخطوطات والمؤلفات العلمية والأدبية والفنية القيمة للقارئ محققة تارة وبدون تحقيق تارة أخري.. لكن أين نحن اليوم من تحقيق التراث؟! لماذا أصبح تراثنا عاثراً عن التحقيق ولم يحظ بالاهتمام المناسب من المحققين والناشرين الجدد؟ وما هي العقبات التي تمنع ازدهاره وكيفية حلها؟ وكيف يمكن إعداد كوادر جديدة من الشباب تحمل مواصفات المحقق الجيد؟ أسئلة كثيرة باتت تبحث عن إجابات، ولأهمية الرد عليها كان علينا التوجه إلى كوادر محققي التراث داخل هذا العالم المهمل رغم ثرائه، ربما تكون هذه خطوة في ازدهار تحقيق التراث من جديد.
يوضح د. حسين نصار شيخ المحققين - رحمه الله - أن المخطوط لا يمكن أن يعطي للقارئ الحديث بهذا الشكل بل يجب تحويله لمطبوع وهذه عملية مهمة وصعبة؛ وليس فى استطاعة أى إنسان أو عالم أن يعمل بما نسميه تحقيق التراث أو تحقيق المخطوطات؛ لأنها تمر بعدة مراحل أولها عملية توثيق ثلاثية « للعنوان والمؤلف والمادة العلمية الموجودة داخله» بعدها عملية التحقيق وهنا يتطلب من المحقق أن يجمع أكبر عدد من مخطوطات هذا الكتاب ويقوم بعملية مقارنة بينها بهدف العودة بالمخطوط الذي أمامه إلي الصورة التي خرج بها من يد المؤلف دون نقص أو زيادة، وهذا في الأغلب لا يحدث. وهنا يصطدم المحقق بكثير من العوائق التى يجب أن يتداركها حتي يتفادى الوقوع في الخطأ، ولتفادي هذه الأخطاء لابد أولاً أن تكون لديه القدرة علي قراءة الخطوط المختلفة للمخطوطة والمعرفة الكاملة بالنحو والصرف واللغة، وبعدها تأتي الخبرة المعرفية الواسعة بالعلوم المختلفة والتخصص الذي يريد العمل به، ولابد أن يكون أميناً حريصاً دقيقاً لا يتسرع في الحكم- وللأسف أغلب كوادر محققي هذا العصر يميلو للسرعة - لأن هذا يتنافى مع التحقيق، وطالب د. نصار بإعادة الاهتمام بتحقيق التراث في هذا العصر، فالموروثات الثقافية جزء منا، وكما يقول كبار النقاد نحن لا نستطيع أن نهمل التراث إهمالا تاماً، ولا يمكن أن نكون عبيداً له، فلابد من قراءة القديم قراءة جيدة لأنه بوابة العبور للابتكار الحديث.
توفير الإمكانات اللازمة
أما د. فوزي عيسي أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة الإسكندرية فيري أن تحقيق التراث مهمة علمية جليلة لأنها تسعي إلي إزالة الغبار عن كثير من الذخائر الموجودة فيه من أدب وتاريخ وعلوم مختلفة لم تكتشف بعد، هذه الذخائر تعكس تطور الحضارة العربية وازدهارها في عصور مختلفة، وإعادة نشر هذا التراث يضيف كثيراً للمعرفة الحديثة، مثال ذلك إعادة نشر مؤلفات ابن رشد وابن سينا وأبي بكر الرازي وغيرها من المؤلفات القيمة التي ترجمت بعد ذلك إلي كثير من اللغات. وأكد د. عيسي أن ما نشر حتي الآن لا يمثل أكثر من ثلث هذا التراث، وأن الغرب أكثر منا حرصاً علي تحقيق التراث والاستفادة منه والحفاظ عليه، أمثال المستشرق الألماني كارل بروكلمان الذي كرس قرابة عشرين عاماً من عمره في جمع المخطوطات العربية وضمها في كتابة «تاريخ الأدب العربي» الذي نشر بالألمانية في ستة أجزاء وترجمه بعد ذلك عبد الحليم النجار للعربية، ويضم هذا الكتاب ذخائر التراث العربي في شتي التخصصات.
وحدد د.عيسى بعض المعوقات التي يواجهها المحقق ومنها عملية طباعة ونشر الكُتب التراثية لأنها لا تمثل رواجاً بين الناشرين، لذا عزف الكثير من المحققين عن الاستمرار في التحقيق. فالطريق غير ممهد بالشكل الأمثل لمواصلة ما قامت به الأجيال السابقة من المحققين أمثال شوقي ضيف والشيخ محمود شاكر وعبد السلام هارون وغيرهم، هذا فضلا عن الإمكانات المادية غير المتاحة أيضاً. كما أن عدم توافر فريق عمل من المحققين المخلصين لهذا العمل يعد أحد المشاكل المهمة؛ فهناك بعض المخطوطات لا يستطيع انجازها شخص بمفرده.
وناشد عيسي وزارة الثقافة أن توجه عنايتها للاهتمام بتوفير الإمكانيات اللازمة للمحققين عن طريق مشروع ثقافي كبير له خطة محددة ومحكمة لإعادة نشر التراث استمراراً لجهودها السابقة في نشر سلسلة الذخائر.
تراجع المستوى الثقافى
أما د. مصطفى أبو الشوارب أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية بجامعة الإسكندرية فأوضح أن تحقيق التراث المخطوط هو عملية نشر النصوص المخطوطة وتوثيقها وتقديمها للقارئ على أقرب صورة قصد إليها المؤلف؛ مع الاعتناء بتصحيح ما بها من أخطاء وشرح موادها وموضوعاتها التي تحتاج إلى شرح أو تعريف، وينبغي أن يتمتع المحقق بجملة من الصفات أهمها المعرفة الواسعة بقضايا التراث ومفاصله واتجاهاته ومصادره وأهم مصنفاته، والتمكن من أصول اللغة العربية وقواعدها بصفة عامة ؛ وفهم اللغة التراثية وكيفيات التعابير القديمة والمصطلحات المتداولة في موضوعه بصفة خاصة، والتزام منهج علمي منضبط ومنسق في قراءة النص التراثي وتنويره والتعليق عليه .
وفي ظل الرقمنة وسهولة وسائل الاتصال وتطور عمليات الفهرسة والتوسع فيها لم يعد الحصول على المخطوط ونسخه المتعددة مشكلة حقيقية ، وأظن أن المشاكل الحقيقية التي يعاني منها تحقيق التراث تكمن في تراجع أعداد المحققين المتميزين في ظل تراجع الانشغال بتحقيق التراث وتراجع المستوى الثقافي العام، إضافة إلى وجود بعض الناشرين غير المسئولين الذين يشجعون نشر الطبعات التجارية غير المحققة علميا .
وأما على المستوى التقني فإن تحقيق التراث يعاني من غياب التنسيق بين المحققين وعدم وجود خطط واضحة المعالم لمسح التراث المخطوط وانتخاب ما يستحق تحقيقه وتوزيعه بين الجهات والهيئات المعنية بتحقيق التراث ونشره.
مؤكداً إذا كنا نريد فعلا أن ننهض بحركة تحقيق التراث فلا بد لنا من إعداد جيل جديد من الأساتذة المحققين يواصل الطريق الذي بدأه أعلام التحقيق منذ النصف الأول من القرن الماضي
ولن يتحقق ذلك بغير إدراج تحقيق التراث ضمن مناهج الجامعات والمعاهد العلمية المختصة، وإنشاء معاهد خاصة لتدريب شباب المحققين، ومراجعة مناهج التحقيق وتطويرها؛ والأهم من ذلك هو العناية بالمحققين وإيجاد دوافع حقيقية لهم.
مزيد من العناية
أما د. زكريا عناني أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية فيرى أن مواصفات المحقق متعددة لكنها متلاحمة في ذات الوقت فهناك خبرة باللغة، وسعة المعلومات ثم الاتصال المباشر بجهود السابقين في التحقيق ولدينا في مصر مجموعة لا يمكن نسيانها بدأت منذ القرن التاسع عشر مثل الشيخ الشنقيتي، والشيخ قطة العدوي. مؤكداً أن من حسن الحظ أن مكتبة الإسكندرية يوجد بها نسخة كاملة للمخطوطات العربية مثل الموجودة بمكتبة الاسكوريال الاسبانية، مشيراً لمكتبة الأزهر لما تضمه من كنوز ضخمة في احتياج لمزيد من العناية.
وقال د. عنانى أنه آن الأوان أن تضاعف الجامعات والمراكز البحثية العناية بتحقيق النصوص وتسهيل الحصول على المخطوطات العربية الموجودة بالخارج ومن أهمها مكتبة في مدينة بابلن بأيرلندا تضم أكثر من خمس ألاف مخطوطة غير متاحة للمحققين في مصر والعالم العربي.
رابط دائم: