طالعنا ما جاء فى الأهرام عن تشجيع استثمارات القطاع الخاص فى الرعاية الصحية، أن المستشفيات الخاصة الكبرى وفرت خدمة طبية عالية المستوى بأفضل الأجهزة والأدوات المتاحة، ولكن مع بداية الألفية الجديدة بدأ الاستثمار ينحسر عن القطاع الطبى الخاص بسبب التكلفة المتزايدة نتيجة انخفاض سعر صرف الجنيه، وطول دورة استعادة تكلفة الاستثمار، وأصبحت مقارنة الاستثمار فى القطاع الطبى فى غير صالحه إذا قورن بأنواع أخرى من الاستثمار كالاستثمار العقارى مثلا، ولذلك لم يشهد إضافة ملموسة فى عدد أسرة المستشفيات المتوسطة والكبيرة، إلا بقدر ضئيل لا يتناسب مع الزيادة السكانية، ولا مع الطلب على العلاج الخاص، ولم تحاول الحكومات المتعاقبة مساندة هذا الاستثمار بأى صورة من صور حوافز الاستثمار، وربما حدث العكس فى كثير من الأحوال، ومع زيادة أعداد السكان، لم يزد عدد أسرة المستشفيات بالنسبة نفسها، فتولد تدريجيا ازدحام على المستشفيات القائمة وتوقعنا أن يتجه مستثمرون أجانب إلى الاستثمار فى هذا القطاع الحيوي، فهو الاستثمار الحقيقى الذى نحتاجه لكن ذلك حدث فى أضيق الحدود.
وحديثا أطل علينا مستثمرون جدد، واقتحمت القطاع الطبى الخاص كيانات ضخمة للاستثمار فيه، لكن توجهاتها تحتاج إلى نظرة فاحصة. إذ يتركز نشاطها فى شراء مستشفيات قائمة بالفعل، وتجميعها لتكوين مؤسسات أكبر حجما لا تمثل أى إضافة على صعيد الخدمة، ومجال التشغيل، وتتمثل أهداف هذه المجموعات فى تقليل تكاليف الخدمات الطبية، وفى الوقت نفسه رفع أسعارها بما يؤدى إلى زيادة الأرباح ثم استغلال تحسن الأرقام الظاهرة فى الميزانية لرفع سعر أسهم هذه المؤسسات فى البورصة، ويعقب ذلك الطرح المتدرج بالبورصة للخروج من السوق المصرية فى فترة زمنية محددة كعادة الأموال الساخنة، وصناديق الاستثمار المباشر، فى ظل خطورة الاستحواذ على الأسهم من جانب قوى وجماعات تضر الأمن القومى فى حالة طرح الأسهم فى بورصات عالمية . وبمراجعة ما قامت به هذه الكيانات خلال عامين نجد أنها لم تقم بإضافة مستشفيات جديدة، ولا أسرة إلى المستشفيات القائمة، مع أن السرير العلاجى هو عماد الخدمة الطبية، ومحور الاستثمار الحقيقي، ولو استمرت الحال على ما هى عليه، ومضينا على الطريق نفسه، فنحن أمام نوع جديد من المضاربة، هو «المضاربة على السرير العلاجي» أو «المضاربة فى الخدمة الطبية».
إن ما تردده هذه الكيانات من أن سعر إشغال السرير فى المستشفيات المتقدمة المتخصصة خلال عام 2017 فى القاهرة 60% من سعر اشغال السرير فى تونس و40% من سعر اشغال السرير فى المغرب ينذر بما هو قادم من رفع تدريجى متواصل للخدمة الطبية بحجة الوصول للأسعار العالمية، و قد بدأ سباق رفع تكاليف وأسعار الخدمات العلاجية بالفعل، وسوف يتزايد، وإذا تمكنت هذه الكيانات من السيطرة على عدد كبير من الأسرة العلاجية فسوف تفرض سياستها، وهناك عوامل أخرى لابد من أخذها فى الاعتبار، فمثلا لا يمكن تطبيق قواعد منع الاحتكار فى استثمارات الحديد والأسمنت بنفس تفاصيلها على تقديم الخدمات الطبية، حيث تستطيع مجموعة استثمارية الاستحواذ على ما يساوى 10% فقط من الطاقة السريرية الكلية مركزة فى منطقة جغرافية واحدة بحيث تمثل هذه النسبة ما لا يقل عن 60% من المنطقة، فإذا كانت ذات أهمية إستراتيجية مثل القاهرة أو حتى قطاع شرق القاهرة شاملا مصر الجديدة ومدينة نصر والتجمع الخامس، تستطيع المجموعة الاستثمارية التحكم فى أسلوب تقديم الخدمة الطبية، وأسعار الخدمات العلاجية، وإذا باعت ما تملكه من كيانات إلى جهات أخري، فسوف تضع القطاع الطبى المصرى أمام تحديات غير محسوبة.
من المؤكد أننا ندعم الاستثمار الأجنبى فى القطاع الطبى التشخيصى والعلاجي، لكننا نريده استثمارا حقيقيا لفائدة المجتمع والمريض والمستثمر، ولكن من المؤكد أيضا أننا نواجه اليوم شيئا بعيدا تماما عن الاستثمار الحقيقي، وأدعو الحكومة إلى أن تولى القطاع الطبى الخاص رعاية ودعما واهتماما يعوضه عن إهمال السنوات الماضية، كما أدعو الكيانات المهتمة بالاستثمار فى هذا القطاع إلى أن تضع نصب أعينها النمو الحقيقى من مستشفيات جديدة، وأسرّة جديدة تضاف للقائم، وتتنافس معه فى تقديم خدمة جيدة لمصلحة المريض المصرى.
د. أحمد النورى ـ أستاذ بطب عين شمس
رابط دائم: