حيدر العبادى: العراق يتجه نحو الإعمار والبناء.. وعلى وسائط الإعلام إظهار الحقيقة
هى بغداد التى أعشقها , ملامحها قسماتها التى أعرفها زرتها مرات عديدة,وفى كل مرة تعيدنى الى سيرتى الأولى فى العشق والتمدد داخلها , ثمة ما يربطنى بها ,هى تشبهنى أشبهها ,تسكننى أسكنها ,آه يابغداد أيتها المقيمة باقتدار وكفاءة بدفاتر التاريخ , رمزا للصلابة فى وجه المحن والغزوات والتصدى لكل ما هو غريب حتى ولو كان من أبنائك , منذ لحظة هبوطى إلى مطارك الدولى ,وأنا أحدق فى أركانك ,أرجائك, أفقك ,أرضك ,بشرك ,تهب على رياحك ,ليست رياح خماسين, وإنما رياح معطرة بالمنصور والرشيد والمأمون ,وكل هؤلاء الذين رسموا خرائط المعمار والعلم والحضارة فى ربوعك ,فجعلوك سيدة الحواضر فى الزمن القديم , وأيضا هى رياح مغزولة بدماء بنيك فى مواجهة الغزوات ,وبعضها كان موغلا فى همجيته ,لكنك أبيت إلا أن تنتصرى عليها بعد فترات كمون ,هذا هو ديدنك ,فأنت قادرة على ارتداء عباءات الانتصار والتخلق من جديد , و إجبار من جاءوا لاغتصابك على الرحيل ,منكسرين مهزومين يعلوهم الوجع والعار ,أينما يحلون, فلك لعنة لا تتوقف , تصيب بفتنتها كل من يحاول أن يمسك ,أو يلتهم قطعة من أرضك وتاريخك وحضارتك .
.....................
كنت مدعوا ضمن العشرات من عواصم العرب للمشاركة فى احتفالية بغداد عاصمة للإعلام العربى, ابتهجت بالدعوة لأنها تعيدنى إلى عاصمة النهرين, تأهبت للصلاة فى محرابك ,شعرت منذ الوهلة الأولى لعناق أرضك بالسكن السكينة الدفء ,رغم برودة فى الطقس الشتوى ,لكنها برودة محببة ليست قاسية أو مندفعة باتجاه إجبار الجسد على الانزواء, امتطيت متنك وكأنما أنت مهرة عفية تأخذنى إلى البرارى المنتشرة فيك استجبت لك لندائك الخفى والعلنى, اجتاحتنى الغبطة وأنا أتجول بين شوارعك وأماكنك , أقرأ وجوه البشر, شعرت بوخزك لضميرى ,نعم نأينا بأنفسنا عنك, ابتعدنا ,لكنه ابتعاد قسرى, غير أننا جئناك الآن عدنا لنتوجك عاصمة لإعلام العرب, جئناك من كل صوب وحدب من الخليج إلى المحيط, فأنت عاصمة عربية أبية, الوجوه فيك عربية أصيلة, واللغة عربية صافية, والروح عربية نقية, من يحاول أن ينزعك عن عروبتك مذموم مدحور, جئناك ونحن ندرك أن العروبة قدرك ,وأنك عطشى للعرب الذين تخلوا عنك للمحات لم تطل, فعادوا إليك من قبل, بثوا فيك دفأهم لكنهم لم يبثوا بعد توهجهم الحقيقى المتفاعل مع أشواقك, ورؤيتك فى أن تكونى واحدة من عواصم القرار والتأثير, مثلما كنت دوما إلى جانب القاهرة ودمشق والرياض وغيرها من حواضر العرب , لاتقلقى العرب قادمون وفى صدارتهم المحروسة ,التى بعثت لك قبل أيام بمساعد رئيس الجمهورية المهندس إبراهيم محلب, لينقل لك محبة شعبها وحرص قيادتها على تقديم المساندة الكاملة, فى مشروع إعادة بناء الدولة العراقية , لقد قرأت فى وجوه البشر وفى عيونهم وعلى ألسنتهم, حنانا للزمان المصرى فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن, الذى عبرناه قبل ثمانية عشر عاما, استمعت لأشواق العراقيين, إلى حضور أبناء المحروسة تحملهم الأكف والقلوب قبل المنازل, أحدهم قال لى بوضوح: نريد غزوا مصريا حانيا بالطبع ,وليس على وقع الدبابات والمدرعات, مثلما فعل أبناء العم سام فى 2003, نريدكم إلى جانبنا فى الزمن الآتى, الذى سيتحول فيه العراق إلى حقول مثمرة وحدائق يانعة ومصانع منتجة وبنايات وطرق ممتدة فى أنحاء الوطن , نريدكم لأننا نطمئن إليكم ,فأنتم لا أجندات خفية لكم, ولا أهداف مستورة, غير أن تكونوا شركاء فى بناء العراق الجديد فهل نفعل نحن بانضباط وتوافق مع حكومة بلاد الرافدين ؟أظن أن زيارة محلب أسهمت فى تحديد قسمات إسهام أبناء المحروسة فى إعادة غزل ونسج حالة عراقية مغايرة لما كان سائدا فى الأزمنة التى أعقبت الاحتلال الأمريكى, وفق الأسس الجديدة التى تنهض على المواطنة - حسبما أكده لى الدكتور حيدر العبادى رئيس الوزراء وغيره من كبار المسئولين - وهذا المبدأ, يعنى بوضوح رفض كل ما هو طائفى ومذهبى وعرقى, الكل يذوب فى هوية العراق وحضارة العراق ونسائم العراق حتى تتخلصى يابغداد مما أصابك من تآكل حضارى وتشظى اجتاحك بقوة فى عهد بول بريمر , الذى فرض لغرض فى نفس يعقوب ما يوصف بالمحاصصة ,فكرس الطائفية والمذهبية التى فرضت سطوتها سنوات معدودة ,بيد أن الشعب العراقى الأبى هزمها ,وإن كانت ثمة قلة تحاول ,أن تعرقل المسار الذى يقوده العبادى لإعادة العراق ,إلى واجهته الوطنية والحضارية والعروبية ,ورفض الانخراط فى محاور إقليمية مناهضة لمحيطه .
بدت لى بغداد ,الخارجة لتوها من انتصار حقيقى على «داعش» ,أميرة تتهادى فى أثوابها الجديدة المطرزة بعشق الحياة , مسكونة بالرغبة فى الانعتاق من أوجاع الحروب والحصار وسنوات الغزو واجتياح الإرهاب لبعض حواضر الوطن , ثمة حالة من الوجد تسكنها , صحيح يرصد المرء نقاط التفتيش المنتشرة خاصة حول المواقع الحساسة والجند المدججين بالأسلحة فى انتظار الرد الفورى على من يحاول أن يقض مضاجع السكينة , بيد أن ذلك ينبئ عن اتساع قاعدة الشعور بالأمن فالناس يتحركون فى الطرقات ويذهبون إلى الأسواق والمولات التى أخذت تتمدد بمنتجاتها المستوردة مثل غيرها من عواصم العرب التى تركض باتجاه تجليات العولمة , السيارات فى الشوارع لاتكف عن الحركة وفى أوقات الذروة تشهد ازدحاما يذكرنى بما تركته خلفى فى القاهرة وإن كان أقل حدة.
الدلالات والرسائل
توقفت طويلا أمام دلالات احتفالية تتويج بغداد عاصمة للإعلام العربى فى 2018, التى تأتى فى مقدمتها استعادة الوجه العربى, واحد من أهم التجليات المطلوبة بقوة فى مرحلة التحرر من قبضة تنظيم داعش ,الذى حاول أن يعيد العراق إلى ما وراء التاريخ, والعراق كما هو معروف كان ضمن الدول العربية السبع التى أسست الجامعة العربية فى عام 1945 ,وظل منذ بدء دولته الوطنية فى عشرينيات القرن الفائت ,واحدا من أهم الفاعلين فى أحداث المنطقة , كنت أكثر ابتهاجا وأنا أتابع الوقائع والكلمات والرسائل التى يوجهها القائمون على الفاعلية ,كانوا مسكونين بغبطة عارمة لأن الإعلام العربى جاء إلى عاصمتهم ,متطلعا إلى مسار مغاير تقوده فى زمانها الجديد.
فندق الرشيد
لقد رحب الدكتور حيدر العبادى فى كلمته التى ارتجلها فى «افتتاح الفاعلية بفندق الرشيد الفخم» بالإعلاميين والصحفيين العرب، مبينا أهمية ان تكون زيارتهم العراق انطلاقة جديدة لتغيير وجهة النظر عن العراق نحو الإيجاب بعد أن مرّ البلد على مدى 50 عاما بشتى أنواع الحروب والارهاب لكنه بدأ يتعافى وهو متجه الآن نحو الإعمار والبناء داعيا وسائط الإعلام لإظهار الحقيقة وأن يكون دورها فى مساعدة المواطنين على الصمود لينتصروا .
وقائع التتويج أشرفت عليها هيئة الإعلام والاتصالات, بحضور السفيرة هيفاء أبو غزالة الأمين العام المساعد لقطاع الإعلام والاتصالات بالجامعة العربية نيابة عن أمينها العام أحمد أبو الغيط , و د.عبدالمحسن إلياس رئيس المكتب التنفيذى لمجلس وزراء الاعلام العرب, ومن العراق مستشار الأمن الوطنى ووزيرا الدفاع والثقافة, وعدد من وكلاء الوزراء وأعضاء مجلس النواب ورؤساء الهيئات ورؤساء الاتحادات والمؤسسات الإعلامية العربية والمحلية, وسفراء عدد من الدول العربية ,واستهلت بتقديم أوبريت (هنا بغداد) الذى أدته بروح ومزاج وحماس, فرقة الفنون الشعبية متغنية ببغداد وإرثها الحضارى والتاريخى وصمودها ونصرها على الإرهاب .
تكريم الصمود
ووفقا للسفيرة هيفاء أبو غزالة فإن إطلاق عاصمة الإعلام العربى على العاصمة , هو لتكريم الصمود والتاريخ والحضارة والثقافة لهذه المدينة ,التى نالت هذا اللقب بجدارة تتويجا لجهود الإعلام العراقى المثمرة، ولحرصه على تقديم رسالة إعلامية ذات مضمون متحضر ومعاصر ويخدم قضايا وطنه والأمة العربية بأسرها.
و أشارت إلى أن لقب عاصمة الإعلام العربى ,الذى يمنح عاصمة عربية مختلفة كل عام من قبل مجلس وزراء الإعلام العرب , يعد احتفاء وتكليفا فى الوقت نفسه: فهو احتفاء بجهود بذلت وكان لها أطيب الأثر على أرض الواقع، وتكليف لعاصمة الإعلام المتوجة بمواصلة تلك الجهود والعمل على تطوير العمل وتوثيق التعاون الإعلامى العربى بغية تحقيق آمال وطموحات الشعوب العربية، وكذلك الوصول بالإعلام العربى للمنافسة العالمية.
وفى رأى أبو غزالة فإن «اختيار بغداد عاصمة للإعلام العربى» جاء لموقعها وتاريخها وحضارتها وثقافتها فضلاً عن الانتصارات المبهرة التى تحققت فى دحر العصابات الارهابية من أرض العراق وما سلطه الإعلام من الضوء على ما جرى فى الميدان وما قام به الجيش العراقى الباسل من طرد للعصابات الارهابية خاصة وأن هنالك الكثير من الإعلاميين العراقيين قد استشهدوا وهم يغطون أنباء القتال، معبرة عن فرحها وبهجتها بالاحتفالية التى اقيمت لتتويج بغداد عاصمة الاعلام العربى بحسبانها اعترافا وفخرا بجهود الاعلام العراقى.
رابط دائم: