رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عوامض يصعب فهما

محمد جبريل

حين أصحو، أعرف أنى أفقت من حلم، وأن الأحلام زالت. يستغرق الحلم زمناً طويلاً من الوقائع التى يغيب عنها الترابط. أنظر إلى ساعة يدى، أعرف أن النوم استغرقنى دقائق قليلة، كل ما رأيته فى المنام حدث فى هذا الوقت القليل. قد يعبر الحلم فى ومضة يصعب التوقف أمامها، أو تأملها، وقد يطيل البقاء فى الذاكرة، لا يغادرها.

غالبية الأحلام تأتى فى اللحظات ما بين اليقظة والنوم، أشعر بما حولى، أدرك – عند الصحو – أنى كنت نائماً.

من يواتينى فى الحلم لا تبدو ملامحه كما ألتقيها فى الصحو، تغيب التفصيلات والقسمات، هو الشخص الذى أعرفه، وإن لم يكن الشخص نفسه تمامًا. الحلم غلالة تخفى المنمنمات، ربما تختلط الملامح، تومئ إلى ما أعرفه، من أعرفه، وإن غاب الوضوح.

الحلم لا يهب الصورة كاملة.

معظم الأحلام أنساها، يبقى من الحلم ما يشبه التشوش، لكن تفصيلات الحلم تغيب، أستعيد الواقعة من ألفها إلى يائها، أربط بين الصورة الماثلة فى الذهن بالحركة والانفعال والحجرات والردهات والممرات والأقبية والسلالم والمآذن والميادين. ربما استيقظت على أحلام مشوشة، تختلط فيها الملامح والنداءات والهتافات والصرخات. أتململ بين النوم والرغبة فى الصحو، أحاول تحريك أطرافى، أهز رأسى كأنى أنفض ما صحوت عليه. لا أعرف بماذا حلمت، لأنى لا أتذكره. أنسى الكلمات والتصرفات، أضع رأسى تحت الماء، أتأكد إن كنت خرجت من الحلم.

ربما أفقت على صوت ينادينى، الصوت أميزه بأنى أعرف صاحبه، أهتف بعفوية: من؟

يمتص السكون سؤالى.

أصحو على هاتف، أهب مفزوعاً، أتلفت، أحاول تبين مصدر الصوت، يبدو كأنه لأمى، أتذكر – رغم موتها – نبرته المشفقة، تحثنى على الصحو. ربما بدا الصوت لجارة الطابق الأرضى، يتخلل إلقاءها تحية الصباح خنف واضح، هو ما يسرى فى الهاتف الذى استيقظ عليه.

يختلط ما أراه، لا أفرق بين ما هو حلم، وما هو حقيقة، ما أراه فى النوم، وما أعيشه فى اليقظة، تتناوشنى التخيلات والأحلام وأحلام اليقظة. معظم الأحلام أنساها، أخفق فى طرد الكوابيس، تعلق بذاكرتى، تلازمنى، كأنها التصقت بلحمى.

لا أبوح بأحلامى لأحد، لا أطلب لها تفسيراً، أعانى الكوابيس، أغالب ما يتناوشنى فيها من الخوف، ما أنساه تمامًا، أو تشحب تفصيلاته، وما تظل تفصيلاته واضحة فى ذاكرتى.

وقفت للصيد على مكعب أسمنتى فى المينا الشرقية، جذب السنارة ما لم أتبينه، أخذنى إلى البحر، غاص بى إلى الأعماق، رأيت ما لم أره من قبل من الحوريات، وأنهار اللبن والعسل، وأنواع الورد، والأشجار الكثيفة الأغصان والأوراق، والأضواء الملونة.

مساحة الشرفة متر فى متر، تفصل بين شقق بنايتنا فى شارع إسماعيل صبرى، تصل المساحة المقتطعة بزاوية من شقتى الطابق الأول. أجلس فيها، أخلو للقراءة والكتابة، أطل على الشارع من فجوة العمودين المتقابلين، يعلوهما إفريز مزين بالمقرنصات والنقوش. يأخذنى الشرود، دون توقف عند معنى محدد، أقف وراء الشرفة، أردد ما أستمع إليه من هتافات المتظاهرين، أو مريدى الجلوات القادمة من أبو العباس إلى جامع الشيخ إبراهيم، أنظر – فى جلستى وراء العمودين الحجريين – إلى الحياة فى أسفل، المارة والدكاكين والباعة الجائلين ومواكب الختان وشوار العروس.

أسير فى ميدان واسع، على جانبيه بنايات مختلفة الطرز، تتفرع منه شوارع جانبية، لا أعرف الميدان، ولا إلى أين تمضى الشوارع المتفرعة منه. أميل إلى شارع طويل، لا يبدو غريباً، لعله فى وسط البلد، المنشية وما حولها، المحال على جانبى الطريق والواجهات الزجاجية واللافتات، أهمل إشارات المرور، أتجاهل السيارات فى اندفاعها، الفرامل المفاجئة والكلاكسات والتحذيرات والشتائم.

تتملكنى الحيرة: الطرق متقاطعة، أى الشوارع أختار؟ ما ينتظرنى فى نهايته؟

لما صحوت، كانت قبضتى مضمومة. تذكرت استرخائى فى انتظار جذبة السنارة للصيد، أتشاغل بالتطلع إلى البحر الحصيرة وأسراب الطير والبلانسات وصيادى الجرافة، وعلى جانبى الأفق لسان السلسلة الحجرى، وقلعة قايتباى، ومئذنة أبو العباس تجد لأعلاها موضعاً بين بنايات بحرى.

وجدتنى جالساً على المدرج الحجرى بمسرح كوم الدكة الرومانى، أتطلع إلى الأفق من جلستى على كورنيش المينا الشرقية، أحدق فى الهلال المتبقى من القمر، أطل من زيق النعش المغلق إلى مشيعى جنازتى، أميز أسرتى وأقاربى وأصدقائى، لا أعرف الكثيرين، الجنازة صامتة، تتخللها أحاديث هامسة.

أخترق طرقات يشحب ضوؤها، تتفرع إلى ممرات، ضيقة، متداخلة، تفضى إلى قاعة واسعة، تتفرع منها ردهات، تحيرت – لحظة – أيها أسلك، ظلمة حالكة، لا أتبين فيها شيئاً مما حولى.

روى لى صبحى بهجت عن الدرويش حسن مستجاب، ما جرى بينهما فى أثناء نومه، حدد اسمه وسحنته وتكوينه الجسدى وموضع إقامته، لصق الجدار، أول شارع الموازينى، طلب أن يدفنه فى مكان حدده، فى المسافة بين جامع أبو العباس والدحديرة خلف الجامع.

أعانى انفصاماً بين ما أحاول بلوغه، وما يصدنى. بدت الأحلام بديلاً لما يصعب تحقيقه، أغمض عينى على ما أتمناه. ما أعجز عن فعله، أمنّى النفس بأن أفك ألغازه فى النوم، تواتينى الأحلام بما يصعب تذكره، لا أعيه، تغيب دقائقه وتفصيلاته.

رأيتها جالسة على الكرسى المجاور للسرير، تبتسم، تبسط ذراعيها تأهباً لاحتضانى:

- أتذكرك.. هل تتذكرنى؟

وفى نبرة مشجعة:

- التقينا كثيراً.

صحوت.

رأيتها جالسة على الكرسى، عرفت أنى لم أكن فى حلم، ولا هى طيف، أو رؤيا تشغلنى. أصاخت السمع لكلماتى، أفسر لها تصرفاتى، وما تجد فيه خروجاً عن قواعد الجيرة.

ربما استيقظت على حلم لا أتذكره، لكنه يترك فى نفسى تأثيرات حزينة. عندما يغلبنى نوم ثقيل، تغيب الأحلام، لا أتذكرها، كأنها لم تكن، فى داخلى أصداء لأحلام عشتها: لا أذكر تماماً ما قلته فى الحلم، ولا ما قاله من بادلنى الكلام. لا أذكر شيئاً مما حلمت به. كأنها فقاعات متلاشية. أما الكابوس فإنه يظل فى ذاكرتى، أستعيد تفصيلاته. أنهض مفزوعاً، أغالب لهاث الأنفاس، وتفصد العرق، وارتفاع ضربات القلب بما يخيفنى.

أسأل: هل كان من زارنى فى الحلم فى هيئته الصحيحة؟ لماذا التقيته فى ذلك المكان دون سواه؟ هل ظل المكان على صورته، أو تداخل فيه ما بدّله؟

لا أعرف إن كانت رؤيتى له فى اليقظة، أم فى الحلم؟ عرفت أن رؤى الصحو تختلف عن رؤى المنام، أرى فى المنام ما لا أراه فى الصحو، فى الحياة من حولى. أعيش حالة من أحلام الوعى، لا أخلط بين حلم اليقظة الذى أكاد ألمسه، وبين حلم النوم الذى لا أتبين تفصيلاته، يذوى ويتلاشى عقب الصحو، وانشغالى بأمور حياتى. حلم اليقظة يصنع بشراً حقيقيين ومخترعين، ويصنع أطيافاً، وأخيلة.

أحاول أن أتذكر الأحلام بروايتها لحظة استيقاظى، أثبتها فى ذاكرتى، ربما تذكرت الحلم، أو استعدت منه مواقف متناثرة، أو لا يبقى سوى المشاعر الهانئة، أو المقبضة.

ثمة أحلام، تبدو - حين الاستيقاظ – واضحة، لأنها لم تكن كذلك، كأنها قد حدثت بالفعل، ارتبك لاختلاطها بأحداث عشتها بالفعل.

صحوت متعباً، أجهدتنى الأحلام التى كنت هيأت نفسى لها، تبدلت، داخلتها أشكال غريبة، تحولت إلى كوابيس حاولت مغالبتها.

أزمعت ألا أتعمد الحلم، لا أطلب النوم وفى بالى ما أريد استعادته، أخلى الذهن تماماً من المرئيات.

أدرك - أحياناً - أن ما أعانيه هو كابوس، فأحاول الاستيقاظ منه، أحرك يدى، وأجاهد لفتح عينى، أصيح، أصرخ، حتى أصحو، أو يوقظنى من يفطن إلى معاناتى. تتداخل فى الكوابيس نداءات وصيحات وصرخات وأوامر ومعارك. عانيت - فى ثلاث ليال متوالية – مطاردة حيوانات مفترسة، أشبه بالذئاب. لم أر الذئب إلا فى الصور، قاربتنى بشرر الأعين والمخالب والأنياب، لو لم يوقظنى الخوف ربما مت فى مكانى.

أحاول الصحو للتخلص من الكابوس، لكن أنفاسه تظل فى وجهى، أمد أصابعى إلى «الكومودينو» المجاور، أشعر بملامستها، أثق أنى أزحت الغطاء، لكن الكابوس لا يفارقنى، كأنه احتوانى تماماً، أتلفت – لحظة استيقاظى – أتبين ما إذا كنت نائماً، أم أنى صحوت.

أفزع للطرقات العنيفة، أهب فى مكانى، يختلط النوم والصحو والحلم والكابوس، لا أدرى وقت الطرقات. فى الكوابيس أجساد معلقة فى المشانق، وطيور تنقر أعين بشر، فتعميهم، ورقصات محمومة تؤديها مخلوقات ليست مما أعرفه من الكائنات، أهم بالفرار، فيفاجئنى اختفاؤها، وصحوى من النوم.

عند الصحو تزول الكوابيس، تغيب الرؤى القاسية والانفعالات والخوف والتهويمات والوساوس والهذيان والتعب.

علت الأمواج فى المينا الشرقية، جاوزت الكورنيش الحجرى إلى داخل المدينة، ابتلعت البشر والبنايات والشوارع، وكل ما يعترض طريقها. تبينت نفسى أحاول الفرار، لحقتنى الأمواج أعلى مئذنة أبو العباس.

رأيت – فيما يرى النائم – أنى أغرق فى البحر، الأمواج تحاصرنى، أقاوم جذبها لى، أغوص فى الحلم، كما فى داخل الموج، أطوح ذراعى، التقط أنفاسى بصعوبة، صوتى يعلو عن آخره بصيحات الاستغاثة.

حاولت أن أقاوم الإعياء، وأنهض من فراشى، ظللت – ثوانى – عاجزاً عن الحركة، أتلفت حولى كأنى أنوى الاستغاثة بمن يعيننى على النهوض.

رأيت مخلوقاً غامض التكوين والملامح، يقترب، تلفت كأنى أبحث عن منفذ للفرار، يد سدت فمى، وكتمت صوتى، لم أعد قادراً على الكلام ولا الصياح. رأيتنى فيما يشبه الحديقة، تطل من الشجرة المجاورة أفعى هائلة، تهم بالتحرك ناحيتى، جريت بآخر ما عندى، ، ظللت أعدو وأعدو، أخترق شوارع لم أرها من قبل، يترامى من خلفى وقع أقدام تلاحقنى، تطاردنى. صحوت على يد تربت صدرى، تحشرج صوتى بالخوف: كابوس.

استيقظت على صراخ زوجتى، غاب آخر الحلم، لكننى عرفت أن الصراخ أيقظنى من إطباق راحتى على فمها، أخذنا الكلام – ربما – فقالت ما لم أستطع تحمله. أتبعت كلماتى وضع يدى على الفم المفتوح، لإسكات الصراخ.

فاجأتنى المخلوقات الوحشية الملامح. تراجعت – بوجهى وأعلى صدرى – لتجنب مخالبها وأنيابها، أحرك جسدى، كل جسدى حاول المدافعة، حتى الصراخ، كأنى صحوت على سماعه.

هل أصحو فأرى المشاهد التى تقتحمنى الآن؟

لم يغادرنى الكابوس، أنفاسه الثقيلة تجثم على وجهى وصدرى، كأنه يصر على إحاطتى بصراخه وعوائه وزئيره، حدست أنه سيطول، وأنى – ربما- لن أفيق منه.

فى الصباح، سألت نفسي: لماذا كان الكابوس بهذه البشاعة؟

أغمضت عينيّ، وفتحتهما، أتشكك إن كنت رأيت شيئاً.

كنت أغمضت عينى على نية الثأر من فايز مصيلحى، أهوى بالساطور على الجسد المكوم، حتى تغيب ارتعاشاته.

لم أتصور أن يجرنى الكابوس إلى ما انتهى إليه.

لماذا الكوابيس ترتبط بالظلمة والقيعان؟ لماذا يعلو الأنين والصياح والصراخ؟ لماذا تبدو الملامح شائهة، تختلط بالأنياب والمخالب والدماء والأشباح؟

بعد أن تعددت الكوابيس صرت أخشى النوم، أتباطأ فى التوجه إلى الفراش. تؤرقنى الخيالات فى ليال كثيرة، أتوقع الأحلام القاسية والكوابيس. أحرص على الضوء الخفيف فى الحجرة، يزيل الكوابيس، لا تواتينى.

عرفت أن الصحو هو ما يجب أن أحرص عليه. يسلمنى النوم إلى استغراق عميق، ثم تتداخل الأحلام والكوابيس، يعلو إيقاعها بذهاب الاستغراق، ودنو الصحو، يتداخل الإغفاء واليقظة، أبذل جهداً حتى أستعيد التنبه.

ربما أتذكر الحلم، أستعيد تفصيلاته، وربما أنسى الحلم تماماً، جرى فى المنام، تلاشى فى الصحو، كأنه لم يكن.

حاولت أن أغمض عينى على الحلم الذى أريده، أصحو فى الموعد الذى أحدده، لحظة أن يتحول الحلم إلى كابوس. ربما يسرت لى الأحلام حل مشكلات كثيرة، ما يبدو صعبًا، أو مستحيلًا.

قسمت معظم يومى إلى وقتين: النوم والحلم، تواتينى الأحلام فى أوقات النهار، وأنا بمفردى، أو داخل المكتب، أو فى قعدات السمر بالمقهى. أتمدد على السرير، أتأمل نشع السقف والجدران، أحاول النوم، أضع فى ذاكرتى ما أريد الحلم به، التقط حتى الإيماءات والجزئيات والتفصيلات الصغيرة. أغمض عينى على استدعاء البحر، يأخذنى إلى رأس التين والأنفوشى وحلقة السمك. أشرد فى المقامات والأضرحة والمزارات والموالد وحلقات الذكر والإنشاد والتسابيح.

استغرقتنى – لأول مرة منذ وقت طويل – أحلام تخلو من الأذى، ومتباعدة، تتيح لى ما لا ألتقيه فى الكوابيس، الكوابيس تدفعنى إلى الصحو.

آخر ما صحوت عليه، رجل غائب الملامح يقتعد قمة الهرم، وأنا بالقرب من تدلى ساقيه، يحيطه الفراغ، والناس مشغولون فى الفرجة، وعمليات البيع والشراء، كما لو أن قعدة الرجل فوق الهرم لا تثيرهم، لا تحفزهم للفعل.

لم يكن الهرم فى موضعه، تضاءلت مساحة الخلاء المحيط، الغلالة الشفيفة حول الرجل غيبت الملامح، حتى قعدته أعلى الهرم، لا أدرى إن اقتربت من القمة، أم استقرت أعلاها تمامًا، كأن ذراعيه امتدتا إلى التقاء البحر والأفق.

داخلنى خوف لنظراته فى الفضاء المترامى، عجزت عن التقاط ما يضمره فى التحديق إلى نهايات الرؤية: الخلاء والأسطح والبنايات العالية والمآذن والأبراج، وما لم أتبينه فى تلفت عينيه.

غالبت ما أعانيه، وأنا أدعوه إلى النزول.

لم يسمعنى، أو أنه تجاهل دعوتى المحذرة.

لزم ارتفاع صوتى تعبيرات محسوبة باليدين، فلا أسقط.

صحوت على انتفاضة جسدى، لا أعرف إن كان ما رأيته حلماً أم كابوساً، لكنه يعاودنى، فيصعب مغالبته.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق