رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

قبل ان انسى انى كنت هنا

إبراهيم عبد المجيد

لم أشعر بالطريق الطويل فى القطار حين ركبته فى الصباح. انشغلت عنه بمتابعة فيسبوك وتويتر من هاتفى النقَّال. لا أخبار جديدة. القبض على عصابة تتاجر فى الأعضاء البشرية. القبض على تاجر يبيع أطعمة فاسدة. الحكم بالمؤبد على خمسة وعشرين طالبا بتهمة التعاطف مع الإرهاب. ارتفاع كبير فى سعر الدولار. مجلس الشعب يوافق على ضريبة جديدة على المبيعات. القبض على عشرة شبان يقفون يحملون لافتات مكتوبا عليها «لِسَّاها ثورة يناير».

توقفت أنظر إلى الخبر. نحن فى أغسطس. غاب الخبر عن عينيّ وغاب إحساسى بالموبايل. لقد حاولت أكثر من مرة أن أجذب نادين إلى الوراء. لكنها دائما كانت تصل إلى مقدمة الحشود فوق كوبرى أكتوبر. جاءتها طلقة الرصاص القاتلة. «نادين». صرختُ وأسمع صوتها الآن. «اتركنى يا نور. لا تشغل نفسك بى». كانت آخر كلماتها أنفاسها متقطعة. «لقد رأيت نفسى فى حلم أمس أموت هنا على هذا الكوبرى». كانت تبتسم وأنا أصرخ «نادين». واقترب طارق منى يحملها معى، لكن طلقة أصابت طارق فسقط جوارها. ظهرت نجوان صارخة وصار كل منا يحمل حبيبه على صدره ونحن ممددون على الأرض، والحشود تتعثر بنا وتتجاوزنا. فجأة زادت هرولة الحشود وارتفع الصوت يملأ الفضاء. الله أكبر. الله أكبر. هُوووووووووووووووووو . وينزاح عنى وعن من حولى دخان القنابل. الشرطة هربت. هربت. هربت. ما هى إلا دقائق وصرت أنا فقط مع نجوان كل منا يضم حبيبه إلى صدره. دموعى على وجهى أحس بها الآن، ودموع نجوان ملأت صدرها. انقطع صوت طلقات الرصاص كلها وقنابل الدخان، وبدأ المساء يقترب، وصوت الحشود فى ميدان التحرير يصل إلينا كراية نصر ترتفع وتشق الظلام. لكن لا بد من استدعاء عربة الإسعاف. لقد ماتت نادين يا نجوان. ومات طارق يا نور. تبكى نجوان وتتحسر على سوء الحظ. لا توجد شبكة تليفونات. نظرت حولى إلى الليل القادم على مهل، ودخان القنابل الأبيض الذى لا يزال يملأ الفضاء البعيد. لا أحد يعود إلينا. لكن سيارة ملاكى اقتربت منا فجأة. كيف لسيارة تمشى فوق الكوبرى الآن! توقفت السيارة. نزل منها شاب يسألنا:

- هل تحتاجان إلى مساعدة؟

- ننقل نادين وطارق إلى مستشفى الجلاء القريب من هنا.

- سأحاول معكما، وإن كنت أظن أن النزول من فوق الكوبرى سيجعلنى أتوقف بالسيارة. شارع رمسيس الآن ممتلئ بالحشود القادمة إلى الميدان.

قالت نجوان وهى تبكي:

- إذن نظل فوق الكوبرى وننقلهما إلى المستشفى القبطى. لا أظن أن هناك حشودا قادمة بعد ميدان رمسيس.

ظللت شهورا طويلة أصعد إلى كوبرى أكتوبر، وأمشى حتى أصل إلى مكان موت نادين وطارق. أقف أنظر إلى الأرض أبحث عن بقع الدم القديمة. ذات مرة فكرت: هل يمكن أن تظهر من الأرض شجرة هنا بين الأسفلت، فى مكان موت نادين وطارق؟.

أدرك أن عينيّ تتسعان الآن وأنا أتذكر كم تمنيت ذلك. وأنا أتذكر جمال وجه نادين وعينيها العسليتين الواسعتين اللتين توسعان الدنيا حولى. لقد نسيت أمنيتى الآن بعد أنْ بدأت حياة جديدة مع نجوان، وإن لم أنسَ وجه نادين. لم أعد أصعد إلى الكوبرى مشيا ولا أتوقف مكان موت نادين وطارق. نادين فى الأصل من سوهاج يا نور. كيف نسيت ذلك؟ هذه الشجرة لا بد تعرفها. أجل.

ارتبكت فى مكانى فوق مقعدى، وتلفَّتُ كمن سينهض من مقعده فى القطار ويتركه. لكن هل يمكن أن أعود؟ ها هو القطار يتوقف فى محطة الأقصر. ثلاث ساعات تقريبا حتى أدركت سِرّ الشجرة الباكية. يمكن جدا أنْ يحدث هذا. لم لا؟ طالما سمعت حكايات أمى وأبى عن الأشجار التى تذبل بعد موت أصحابها. ليس مهما أن تكون نادين صاحبة الشجرة. ولن تكون هى صاحبتها. لكن من يدرى ربما وقفت تحتها مرة أو أكثر. ربما كانت مع زميلاتها فى المدرسة الابتدائية يلعبن أو يأكلن تحتها. ليس أمامى إلا أن أفكر هكذا حتى أتقبَّل ما جرى. لقد سمعت صوت نادين وبدأت الشجرة تخرج من جذورها. ربما سمعت الشجرة الصوت معى فذهبت إليه. ربما وقفت نادين تحتها مرة وحدثتها بقصة حبنا فعرفتنى الشجرة. قلت لنفسي: «صرت عابدا وزاهدا يا نور. الشعراء أقرب الناس إلى الله رغم ما يبدو من إلحادهم! الشعراء يؤمنون بأن الكون يسمع ويري!».

أخرجنى من أفكارى ثلاثة من الشباب ينتظروننى. ابتسموا فى سعادة برؤيتى، وصحبونى فى سيارة أحدهم إلى فندق «وينتر بالاس» الملكى القديم. قالوا لي: «نتركك لتستريح الآن، ونلقاك فى المساء فى قصر الثقافة لنقيم الندوة، وفى الصباح تذهب إلى البر الغربى تزور الآثار، ثم نستفيد بوجودك لندوة أخرى غدا فى بيت الشعر، تسمع فيها الشعراء وتعلق على أشعارهم». قلت: «أحتاج بعد الندوة أن أسهر معكم الليلة فى المدينة. لا تتركونى وحدى».

لم أمكث فى الفندق غير دقائق . أخذت طريقى إلى معبد الأقصر. لم أخبرهم ولم أطلب منهم أن ينتظرونى. لقد قبلت الدعوة لأقف ولو قليلا بين وجوه الأجداد الذين طال شوقى إليهم. قلت لنفسي: الآن أزور معبد الأقصر، وقبل أن يهبط الليل أزور معبد الكرنك، وغدا أزور البر الغربى فى الصباح الباكر، كما قالوا، قبل أن تشتد الحرارة. بعد غد أعود إلى القاهرة.

تحت الحرارة الشديدة صعب أن أمشى. لقد كان جنونا أن آتى فى الصيف. أخذت «عربة حنطور» من أمام الفندق. المسافة ليست بعيدة. لكن ركوب الحنطور طقس لزوار الأقصر أعرفه من زيارتى القديمة. لم أنتظر أن يكون هناك سُيَّاح بالمعبد. ففضلا عن حرارة الجو، السياحة فى وضع صعب فى مصر بعد أحداث الإرهاب التى لا تنتهى. الفندق الأثرى الجميل كان شبه خال، فما بالك بالفنادق الأخرى.

قطعت تذكرة دخول المعبد المقررة للمصريين بعشرة جنيهات وأنا أبتسم، ودخلت. رأيت ثلاث صينيات صغيرات الجسم، على رؤوسهن قبعات ملونة تقى من حرارة الشمس، ومعهن فتاة مصرية واضح لى أنها دليل السياح، تحدثهم باللغة الصينية، ولا أحد آخر فى المعبد. لم أكن فى حاجة لمن يرشدنى إلى ما أمامى. أدركت أنى لم أطلب من الشباب أن يصحبنى أحد منهم على دراية بالآثار، ليس لكى أكون وحدى فقط بين الأجداد، ولكن لأنى سأبكى. وبالفعل قاومت دموعى وأنا أقف بين الأعمدة القديمة الصامدة فى الزمن ونقوشها، وأنظر إلى التماثيل، وإلى المسلة الباقية من المسلتين اللتين بناهما رمسيس الثانى. الأخرى تزين ميدان الكونكورد، فى باريس التى ذهبت إليها مرة فوجدت نفسى أسرع فى الذهاب إلى الميدان لأطل عليها.

فكرت لحظات فى عظمة أجدادنا. هذا المعبد الذى أقامه أمنحوتب الثالث عام 1400 قبل الميلاد ليكون لعبادة آمون رع، الذى نسب نفسه إليه ليرضَى له المصريون بحكم البلاد، هو الذى كانت أمه غير مصرية. وأضاف إليه رمسيس الثانى الفناء والمسلتين وصروحا للعبادة، وسجل انتصاراته على الحيثيين وغيرهم على جدرانه. من يصدق أن كل مسلة من الاثنتين وزنها يصل تقريبا إلى مائتين وخمسين طنا، وقُطِعَت قطعة واحدة من الجرانيت الوردى من جبال أسوان، ثم نقلت إلى هنا كما هي؟ سألت نفسى السؤال القديم: لو لم يكن هناك فنانون أقاموا هذا المعبد وغيره، هل كنا سنعرف شيئا عن حكَّام ذلك الزمان؟ من فى بلادنا من الحكَّام يعرف قيمة الفنون والآداب؟ لكن لم يكن ذلك سبب جيَشَان صدرى ورغبة دموعى أن تنطلق. لقد فكرت فجأة: ماذا يحدث لو تركت الآثار بلادنا وذهبت هى أيضا إلى السماء؟ كل ما بقى من آثار الفراعنة كان مقصودا به الخلود. المسلة التى ترتفع إلى السماء هى إشارة إلى رحلة الصعود إلى العالم الآخر. بالضبط كما هى الأهرامات التى كانت مقبرة للفرعون، تنطلق منها روحه أسرع إلى السماء حيث عرش الله. هذه التماثيل الضخمة للفراعين تعلن قوة البقاء فى الفضاء الواسع. فهل يرضى عنا أجدادنا اليوم؟ أم سيتركوننا مثلما تركتنا شجرة سوهاج؟.

ابتعدت عن هذا التفكير. رحت أمشى متبتلا بين الأعمدة والرسوم الباقية والتماثيل. فى طريق خروجى وجدت من يجلس فى ظل غرفة الحراسة، وأمامه بعض الكتيبات القليلة عن الآثار، فضلا عن ورق البردى. لا أعرف لماذا كان موجودا حقا ولا يوجد سُيَّاح. أكيد ليس له عمل آخر. لم أكن فى حاجة إلى شراء شيء من ذلك. لقد أتيت لأقف محاولا أنْ أشم رائحة المكان، وأن تتسرَّب إلى روحى عظمته ولا شيء آخر. لا أريد أنْ أعرف أكثر مما أعرف. أريد أنْ أشعر أنَّ لى وطنا عظيما لم يقدر على محوه أحد، حتى لو كان ثمن ذلك هو دموعى.

خرجت ولمحت مقهى قريبا على الناحية الأخرى من الشارع الطويل. شارع معبد الكرنك. جذبنى اسم المقهى فاتجهت إليه. مقهى وادى الملوك. الجالسون على الرصيف فى هذا الحر لا أحد! رغم وجود سقيفة تمنحهم الظل. الجالسون داخلها اثنان. جلست وتقدم منى الجرسون الشاب. طلبت فنجانا من القهوة. كنت أشعر بعرق كثير تَفَصَّد على جسمى. أمامى طريق الكباش يمشى يمينا، لكن الجزء الذى أمامى خال من الكباش تقريبا. سألت الجرسون الشاب وهو يضع فنجان القهوة، هل يبتعد معبد الكرنك عن هنا كثيرا؟ قال لى إنّ معبد الكرنك ليس بعيدا، ويمكن بالتاكسى أو بالحنطور أنْ أذهب فى دقائق. ثم أردف:

- لكن الجو حار وستمشى مسافة من خارج المعبد فى الفضاء حتى تدخله.

ابتسمت وقلت:

- سأسرع فى المشى.

قال: - يمكن أن تشترى قبعة تحميك من الشمس من هنا وأشار إلى محلات قريبة- أو من هناك على أبواب المعبد. المحلات مفتوحة رغم أنه لا يدخلها أحد.

ذهبت إلى معبد الكرنك. اشتريت من أحد المحلات فى مدخله برنيطة جميلة.

لم أجد فى المعبد غير الصينيات الثلاث اللاتى رأيتهن فى معبد الأقصر. درت بسرعة بين الأعمدة. تنقلت بين المداخل المختلفة. توقفت طويلا أمام طريق الكباش. لم أفكر أن أتذكر أى معلومات أعرفها من قبل. تركت نفسى كما فعلت فى معبد الأقصر، أتشبَّع من مظاهر العظمة للمصريين أجدادى الذين أقاموا هذه المعابد للآلهة، ينتصرون بها على الدنيا حولهم والزمن بعدهم. ووقفت دقائق أمام التمثال الصغير للجعران المقدس أنظر إلى البحيرة المقدسة التى تكاد تجف من الإهمال. فجأة حاصرنى من جديد هاجس أن كل ذلك يمكن أن يرتفع إلى السماء، تاركا الأرض لظالميها يبابا.

فى المساء جاءنى الشباب الثلاثة الذين قابلونى بالمحطة، ليأخذونى إلى الندوة. كانوا ثلاثة من كتّاب المدينة الشباب الأصغر سنا منى، أنا الذى فى الخامسة والثلاثين. تماما كشباب سوهاج. لم يكن أى منهم قد أصدر ديوانا أو رواية بعد، وأنا أصدرت ديوانين قبل ديوانى الأخير.

فى الندوة عرفت كم يحبون شِعرى، ولا يتوقف الحاضرون عن سؤالى عن بعض القصائد. كنت أجيبهم وأحدثهم عن تجربتى مع الشعر والشعراء والقراءة والكتابة. ثم حدثتهم عن زيارتى إلى الأقصر منذ عشر سنوات، وكيف توقفت مذهولا أمام الأعمدة والتماثيل والمسلات. كيف رأيت الآثار المرسومة فى مقابر البر الغربى كأنها رُسمت اليوم، قبل وصولى، وليس منذ آلاف السنين. انتقل الحديث إلى الآثار التى يجدها الناس أحيانا تحت بيوتهم، وعن التجارة فى الآثار. أسمع منهم وأعرف أن فى الأمر كثيرا من المبالغة، لكنَّ فيه كثيرا من الحقيقة أيضا.

كانت الندوة رائعة وحميمية إلى درجة عظيمة، انتهت فى نحو الساعة العاشرة. بعدها انتقلنا إلى مقهى. اقترحت عليهم مقهى وادى الملوك. ضحكوا: كيف عرفت المقهي؟ قلت لهم: لقد زرت معبد الأقصر اليوم وجلست فيه. رأيته بالصدفة فأعجبنى رغم صغره. ذهبنا وجلسنا على الرصيف، لكنى لا حظت رجلا يجلس وحيدا فى الجزء الصغير الأعلى داخل المقهى.

كان يبدو فى الخمسينيات من عمره. يجلس بعيدا وحيدا لا يكلم أحدا. كان الرجل يرتدى جلبابا أبيض خفيفا، فهذا شهر لا يزور فيه الأقصر إلا الحرُّ! كان العرق يتفصد من جسمى رغم انخفاض درجة الحرارة بالليل، أنا الذى أرتدى القميص والبنطلون، فالمقهى غير مكيف. به بعض المراوح معلقة على الجدران بالداخل، لكن لا يكفى هواؤها ولا يصل إلينا. طال الوقت وتقدم الليل أكثر وقلَّ المارة. قلت لهم: «حان وقت العشاء. هيا بنا إلى أى مطعم تختارونه».

نهضوا ووجدت نفسى أنظر إلى الرجل الصامت نظرة أخيرة. الرجل لا يزال وحده. مشيت مع الشبان الثلاثة، وحين دخلنا إلى مطعم «أم هاشم» الذى اختاروه ثم جلسنا، قلت لهم:

- لقد لاحظت بالمقهى رجلا يجلس وحيدا شاردا طول الوقت ولا يكلم أحدا.

قال أحد الشباب:

- أجل. هو حسن العبودى.

- تعرفونه؟

قالوا نعم:

- من فى الأقصر لا يعرفه؟

- هل هو مشهور إلى هذا الحد؟ هل هو تاجر آثار مثلا أو يعمل بالسياحة التى توقفت وتعطل عمله؟

قال أحدهم:

- لا. هو تاجر بهارات. عطّار يعنى. عنده الكركديه والدوم والفلفل الأسود والشطة وغيرها. هو من عائلة كانت تشتهر بتجارة التوابل على مرِّ التاريخ، لكنه منذ عامين تقريبا انقطع عن الحديث مع الناس ويجلس دائما وحده.

قال الثانى:

- مسكين. لا أحد يصدقه فتوقف عن الكلام.

سكتُّ أنظر إليهم مستريبا فى الأمر. كان النادل يضع أمامنا الكباب والكفتة والأرز، وتصعد الرائحة الطيبة إلى أنفى وروحى.

قال الثالث:

- منذ عام تقريبا يمضى الليل فى حديقة منزله. بيته من دورين. فيلا حديقتها فى الخلف. يظل حتى الصباح وسط الحديقة. يقول إنه يسمع النخلة التى تتوسطها تئن من جذورها وتكاد تخرج من الأرض.

نظرت إليهم مندهشا وتساءلت وأنا شارد أفكر:

- معقول؟!

قال الأول:

- هذه هى المسألة التى حيرت الناس، لكن زوجته تؤكد كلامه وتقول إنها تسمعها معه. ثم أصبحت تخاف، وتطلب منه أن يبيعا البيت، وينتقلا إلى مكان آخر.

سكتُّ ولم أعلق. صرت أمضغ الطعام على مهل، لعل أحدهم يكمل القصة، وبالفعل قال الثانى:

- ابنته كانت فى القاهرة فى أثناء الثورة. لقد طلب منها يوم 25 يناير أن تعود، لكنها بقيت مع زميلاتها فى المدينة الجامعية. قالت له إنها لم تجد حجزا فى القطار إلا بعد أسبوع. الله يعلم إذا كانت صادقة أم كذبت عليه لتبقى وتشارك فى الثورة. ماتت فى شارع الشيخ ريحان فى منتصف ليل الجمعة 28 يناير؛ أصابتها طلقة رصاص، قالوا إنها جاءت من قنَّاص.

ظللت صامتا وصرت أمضغ الطعام على مهل. هل أحكى لهم حكاية الشجرة فى سوهاج؟ ليس الآن. ثم هل سأصدق هذه الحكاية أيضا؟

وقال الثالث: - يقول العبودى إن هذه النخلة التى تئن زرعتها ابنته.

صرتُ أنظر إليهم فى دهشة وحيرة، وتوقفت عن الأكل، فقال الأول:

- الآن يقول العبودى إنه ينتظر أن تسقط الشجرة أو تطير تاركة الأرض، وتلتحق بابنته إيزيس فى السماء. وهكذا يمضى وقته صامتا فى انتظار هذا اليوم.

ساد صمت عميق بيننا توقفوا فيه جميعا عن الطعام ينظرون إليّ، ولا يدرون أنى أفكر كيف أن اسم ابنة الرجل الصامت «إيزيس» إلهة الخلود التى جمعت أشلاء أوزوريس، ونفخت فيه من روحها فعاد إلى الحياة، وأنجبت منه حورس ينتقم له. لكن دخل «سايس» السيارات الواقفة أمام المحل هاتفا فى رعب:

- شفتم ماذا حدث؟! لقد عاد حسن العبودى إلى البيت فطارت النخلة. لقد اتصلت به زوجته تصرخ. لقد رأت النخلة تهتز ولا توجد ريح، فأسرع إليها ورأى النخلة تنخلع من الأرض وتصعد إلى السماء. الناس كلها لا تصدق لكنها تجرى لترى مكان الشجرة الفارغ. أحدهم أخبرنى الآن أنه بالفعل لم تعد نخلة فى حديقة بيت العبودى. يا رب الطف بعبادك.

ووقف الشبان الثلاثة يقولون فى انفعال: «لا بد أن نذهب لنرى ذلك». وسألونى أن أذهب معهم، لكنى قلت شاردا:

- سأعود إلى الفندق. لا بد من أن أنام.

كنت أشعر أنى صرت خارج العالم، كما كنت أعرف أنى لن أنام أبدًا.

........................................

فصل من رواية 25 يناير

عن دار بيت الياسمين للنشر والتوزيع

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق