مما لا شك فيه أن مستوى السينما المصرية والعربية قد تدنى إلى درجات قصوى فى الفترة الأخيرة. بحيث وصل إلى ما لا يمكن السكوت عليه من ألفاظ وتعبيرات ومشاهد خارجة عن السياق العام للمجتمع، لأن أقل ما توصف به أنها كلمات خارجة وخادشة للحياء فضلا عن منافاتها للذوق والأخلاق، فالسينما فى وظيفتها بالأساس هى ذلك المنتج الإبداعى الجمالي، الذى لم يعد مجرد كونه مادة مصورة لسيناريو مكتوب ينقل ما ينقله من قصة أو أحداث مجردة، بل تعداه ليصبح أحد أهم الأدوات الموجهة للذوق العام، والترويج للأفكار المذهبية والسياسية، والتأثير فى الرأى العام، ونقل الثقافات المختلفة وتناقلها، وكذا التأثير على الأفكار بين حلوها ومرها، واستنباط المفيد والترويج له، وغير ذلك من الخصائص التى استطاعت السينما أن تصل إليها عبر تطور مراحلها من الهواية فى البداية إلى درجات من الإبداع البارز فى مراحلها الحالية.
ومن أجل ذلك فقد أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال كلمته بفعاليات اليوم الثالث لمؤتمر «حكاية وطن»، إن دور السينما الحقيقى فى الحفاظ على البلاد وتنميتها كبير، قائلا: «السينما الحقيقية لها أجر وثواب كبير جدًا لما بتدعو إلى الفضيلة والمبادئ، والعكس صحيح»، ليتابع ممازحًا الحضور «انتوا مش مصدقين ده أنا هعملكم إيه»؟!
كلمات الرئيس تنطلق من ذلك الواقع المر للسينما الحالية، حيث يرصد لنا تلك التداعيات اللافتة للنظر فى ذهاب السينما إلى ضروب من العنف والعشوائية بدعوى الواقعية. ففى العالم العربى ومصر على وجه الخصوص وكباقى المجتمعات المحافظة، شكل موضوع السينما أحد أهم الموضوعات المثيرة للجدل، خصوصا مع انبثاق النظريات التى تؤكد ضرورة احترام الأخلاقيات الدينية والعرفية فى إخراج أى منتج سينمائى للجمهور، تأكيدا على أن السينما التى لا تراعى مثل هذه الضوابط قد تكون معول هدم للمجتمعات، تماما كما لاحظ الرئيس السيسى: دور السينما فى صناعة وعى حقيقى للمواطنين،وأشار إلى أنه يرى أن العاملين فى قطاعى الإعلام والسينما لديهم حظ من الأجر والثواب عكس ما يعتقد الناس، لافتًا إلى أنه يدعو إلى ضرورة عمل أفلام سينمائية تدعم الأخلاق والقيم الجميلة.
وترتيبا على ماسبق، فإننى لا أعتقد بوجود تضاد ما بين الأخلاق والسينما، ما دامت السينما فنا وإبداعا، والفن والإبداع هما وجهان لعملة النبل، والنبل هو ما يعنى بالضرورة الأخلاق، بالمقابل هناك أخلاقيات تحيط بالعمل الإبداعى عموما فى السينما، لذا وجب على المبدع السينمائي، خصوصا كاتب السيناريو والمخرج، احترامها، لأنه باحترامها يحترم المتلقى والجمهور، ويخلق علاقة مبنية على الاحترام التام لذكاء المتلقي، ويصبح ذلك متبادلا بين الطرفين، وهذا لا يضع قيودا على الإبداع السينمائي، ليجعله مبتذلا أو شنيعا لدى خروجه للوجود ، بل على العكس تماما فالالتزام بأخلاقيات العمل السينمائى تسهم فى تنمية المجتمع على أسس علمية تكفل التقدم والرقى فى مناخ آمن قائم على الحرية المسئولة وليست الفوضى والعشوائية القائمة الموجودة فى معظم إنتاجنا السينمائى المصرى مؤخرا، خاصة أن السينما باتت أكثر الفنون التصاقا بالواقع المعيش، فعلاقة السينما بالواقع متبادلة، حيث تأخذ السينما من الواقع وتضيف إليه، تضيف جملا حوارية، وموضات وأساليب حياة.
السينما ياسادة فن، هذا صحيح، والفنانون والفنانات الباهرون حقا هم الذين ينجحون فى هذا المضمار ويصبحون من أبطال وبطلات الشاشة البيضاء، لكن للسينما دورا أكثر من كونها فنا، حيث تلعب السينما المعاصرة دوراً قيادياً فى حياة الناس ولو كان ذلك بصورة لا شعورية أو تحت شعورية، ومع أنها لا تلعب دور الواعظ بصورة مباشرة إلا أنها تتطرّق إلى العديد من مواضيع الحياة وتدلى برأيها فى كيفية تنظيم الحياة بما فى ذلك الحياة الأخلاقية، إذن الذين يقولون إن السينما هى فن لا أكثر ولا أقلّ ويريدون منا أن نقبل ذلك ودون فحص أو تمحيص ينسون أو يتناسون أن الحياة البشرية لا تعرف الحياد فيما يتعلّق بالأخلاق والأخلاقيات، ومهما اختلف الناس فى معتقداتهم الدينية، فإنهم يتفقون على أن هناك أموراً محلّلة وأموراً محرّمة، والأخلاقيات تبحث فى هذه المواضيع الأخلاقية المهمة وتلقى ضوءاً على كيفية تنظيم مسيرة الحياة البشريّة.
معلوم أن «الثقافة العربية الإسلامية» أثرت كثيرا فى تفكير السينمائيين، وبات احترام هذه الثقافة لمكارم الأخلاق واضحا وجليا فى أعمالهم، ورغم كل المحاولات، فقد قادت السينما المصرية خاصة فى الفترة الناصرية خطى السينمائيين العرب فى إخراج وإنتاج أفلام احترمت فيها ثقافة الشعب وأخلاقه، ولم تكن خاضعة لمتطلبات رأس المال، وهو على العكس تماما من نهايات القرن الماضي، حيث بدأت محاولات حثيثة لزيادة مشاهد الجنس فى الأفلام، فضلا عن العنف والعشوائية وصناعة البطل الفرد الأوحد.
لقد كانت السينما فى الخمسينيات والستينيات ـ بحسب الناقدة صفاء الليثى - مرجعا للسيدات فى موديلات الفساتين وطرائق تصفيف الشعر، فهذه قصة شعر شادية، وهذه طريقة التحدث كما ترددها مديحة يسري، وهذا هو الاحترام وخجل العذارى مع لبنى عبد العزيز وزبيدة ثروت، وكذلك عند الرجال، وسامة كمال الشناوى ومثالية شكرى سرحان، و«جدعنة» رشدى أباظة، لكن الآن وبعد مرور ثمانية عشر عاما على الألفية الثالثة، لا نجد إلا «بلطجة» هذا، و«سوقية» ذاك واستظراف نجوم الكوميديا جميعهم.. باختصار لم يعد يعلق بذهنى بطل ما نتعلق به، كما تعلقنا بعمر الشريف أو أحمد مظهر، بعدما تطور البطل تدريجيا ليصبح شابا عاديا به صفات جيدة وسيئة، كما أحمد زكى أو نور الشريف، لنصل إلى ممثلين لم ينجحوا فى خلق نجومية، لأنهم لم يحافظوا عليها إلا بدرجات، فمنهم من فقد لياقته، أو ينحت من أفلام أجنبية ولا يترك الشاشة لحظة واحدة، ودائما مع ممثلة يمنحها دورا باهتا.
أرى فى النهاية أن الأمر لا يتعلق فقط بما يسمى احترام الأخلاق، ولكن المشكلة الكبرى فى فهم خاطئ لماهية السينما التى لا تعيد إنتاج الواقع بكل فجاجته، لفظا وأسلوب حياة، بل ترتقى بهذا الواقع وتخلق منه واقعا موازيا أو بديلا، حاملة رسالة مهمة بالمحبة وحب الحياة الجميلة، شريطة عدم التحجج بجمل من نوعية «نحن نرصد الواقع ولا نقدم حلولا»، أيها الفنان لا أطلب منك حلا ولكن الرصد وحده لا يكفي..وتلك هى أخلاقيات السينما التى يراها الرئيس ويتمنى وجودها فى أفلامنا القادمة.
رابط دائم: