له خمسة أعمال أدبية منشورة فقط، وكتاب وحيد، لكنها تفيض بروح أرحب من محدودية العدد، والأغلفة. فهو يتمتع برؤية فكرية أعمق وأبعد، وقلبا مفعما باطمئنان زُهَّاد القلالي.
قدم لنا «حكايات الغريب» (عنوانها الأصلى حكاية الغريب الغرابى وغيرته هيئة التحرير)، و«فرد حمام»، و«كانت تعترف لي»، و«تانجو»، وروايته «فتنة اللحظات الأخيرة»، وكتاب فريد عن «التاريخ الإنسانى لعمال للسد العالي»، هؤلاء الذين نسيهم الجميع وسط المعارك السياسية الكبرى التى أحاطت بالمشروع العظيم.
«يوسف فاخوري» القابع هناك فى أسوان الوادعة، على بعد أكثر من ألف كم، يرى الأمور بأوضح مما نري، وكأنه يعيش فى «الكيلومتر زيرو» من الوعى بأحوالنا أكثر من العائشين بقلب العاصمة.
وصف النقاد أدبه بأنه «مليء بالزخم على مستوى الجملة واختيار المفردة»، كما يحسه أصحاب البصائر. لكنه يشبه روحه، الحزن كامن بطياتها، لكنه ينزّ عذوبة وحكمة بدلا من الوجع والشجن!.
نقلاتك لافتة بين الشعر، والرواية والقصة، ثم التاريخ فى كتاب «التاريخ العمالى للسد العالي»، هل هى مراوحة واعية متأنية، أم هرب من وجع الإبداع؟
فى مرحلة الإعدادية كتبت بعض خواطر توهمت أنها شعر، ومع النضج والقراءة أدركت أن الشعر شيء آخر فاحترمت نفسي. ثم انتابتنى لوثة المسرح وبدأت أقرأ بنهم وأشارك فيما هو متاح من تجارب مسرحية. وكتبت بعض النصوص ولم أجد من يخرجها فى أسوان، فوقتها كان أميل لنوعية معينة من المسرحيات. وفى الجامعة كان مهرجان المسرح الجامعى مبهراً، وكان عرض «الطاعون» لـ «ألبير كامو» إخراج محسن حلمي، درساً فى جماليات المسرح. وأدمنت البروفات والعروض فى السبعينيات. وتلك الفترة كانت ثرية بكل ما فيها من تناقضات، من حرب أكتوبر إلى معاهدة السلام والانفتاح الاقتصادى عكست الكامن والمستتر تحت السطح ومازالت تداعياتها تنضح حتى الآن بكل ما استجد بعدها، وشكلت جذور ما نعيشه اليوم.
واستوقفتنى تجربة «بيتر بروك». قرأت عن العمل الجماعى لفريق مسرحيته «نحن والولايات المتحدة». هو طرح السؤال المحورى للعرض على فريق العمل، وكان:«ما موقف الإنسان غير الأمريكى من حرب فيتنام؟». وترك لكل فرد فى الفريق جمع كل ما كتب أو أذيع عن تلك الحرب. ومنح كل منهم حرية تكوين الشخصيةً. وأدار الحوار والبروفات فبدأت الشخصيات تتماس لتشكل الصراع الدرامى للعمل. استمروا شهور إلى أن نضج العرض فأعطوا كل ما جمعوه لكاتب محترف لصياغته. وقتها أدركت ــــ أو رأيت ـــ أن فكرة المؤلف الديكتاتور إلى زوال. وشفت رؤيته للديمقراطية بأعلى تجلياتها. ليست مجرد مصطلح سياسى يتشدق به السياسيون. حالة فنية وحياتية سامية. مازلت أتذكر جملة فى العرض تقول: «أشم شيئاً يحترق أرجو ألا يكون عقلي». وهو ما نعيشه اليوم. أما عن التاريخ، فقد قدر لى قراءة تاريخ العالم قبل التحاقى بآداب عين شمس قسم تاريخ. حيث وجدت فى مكتبة التربية والتعليم بأسوان أمهات كتب التاريخ، مثل مجلدات «سير جون هامارتن»، وهى مجموعة دراسات لكبار أساتذة التاريخ فى العالم، من عصور ما قبل التاريخ إلى الحرب العالمية الثانية. قرأتها كاملة، فى حالة أشبه بحمى الالتهام. واصطدمت بأسلوب الدراسة، فنحن لا ندرس فلسفة التاريخ، ولا تحليل الوقائع التاريخية ولا التاريخ الشفاهي. ودراسة التاريخ ليست مجرد وقائع وزعامات، وكأن التاريخ فراغ من شعب هو الذى صنعه ودفع الدم. هى رؤية فى الامتداد بين الحاضر والماضى والعكس. لدينا رؤية مشوهة لقراءة التاريخ تعكس نفسها فى التخبط الحادث الآن. وكما يقول الروائى الأمريكى «وليم فوكنر»:«التاريخ لا يموت». وليس لبلاده تاريخ، والشعب الذى أبادوه بتطهير عرقى غير مسبوق وشوهوا تاريخه أصبح مشرداً على هامش الزمن. ماذا نفعل نحن بتاريخ مثقل بالزمن والأساطير والحكى والقهر، مرت علينا كل قوى التاريخ استعماراً ونهباً وقهراً وتركت بصمتها على كل فعل حى وقائم حتى اليوم. ربما يفسر هذا المثل الشعبى القائل «إن اتهد بيت أبوك إلحق لك منه قالب». وليس المقصود بيت الأب فقط، بل وطن كل من استطاع غرف منه. ونحن لم نخرج من حالة التخلف الذى فرضه علينا الحكم العثماني، وأستغرب من يتحدثون عن الحداثة ونحن فى القاع. هل تعلم كم أذل العثمانيون الشعب المصري. فى تلك الفترة كانت تفرض ضريبة تسمى «حق تقبيل اليد»، أى كان على الفلاح المصرى تقبيل يد العثماني، ومن لا يرغب لوضعه الاجتماعى من كبار التجار أوالمشايخ أن يدفع ضريبة عدم الإهانة. بخلاف ضرب القفا بغرض الإذلال الباقى إلى اليوم. تلك كانت دولة الخلافة التى يريدون استعادتها لأننا لم نقرأ التاريخ بوعي، وربما كانت العودة إلى المأثورات الشعبية مهمة فى تحليل وقائع التاريخ. وربما يلخص بيت المتنبى القائل:«نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. فقد بشمن وما تفنى العناقيد». ولاحظ «طه حسين» بذكاء فى الثلاثينيات رسوخ المفهوم المملوكى فى الإدارات الحكومية، رحلوا عن الحكم لكنهم باقون فى الإدارة بموروثهم.
والآن فالسؤال.. ما أهمية كل هذا لأديب. نحن لا نكتب عن شخصيات فضائية. الشخصية المصرية التى نكتب عنها بكل ما فيها من متناقضات وجذور تاريخية بعيدة تمتد فى الزمن إن لم نفهمها سنرسم شخصيات كاريكاتيرية هشّة. والمشهد القصصى أو الروائى إن لم ندرك امتداداته وتشابكاته سيبدو فجّاً. كل إيماءة وكل صيحة أو ارتفاع لدرجة الصوت أو انخفاضه لها امتداد فى الزمن لم تأت عبثاً. ربما لهذا لم يفهم الغرب كيف لشعب يخرج فى مظاهرات هستيرية يطالب رئيسا مهزوما أن يبقي، فهم لم يدركوا أن الرجل مسّ هامش من تاريخ امتلأ بالقهر. لو ألقينا نظرة على الحاضر وألقينا نظرة على ثورة 19، ومن قبل عرابى سنلمح أن القوى النافذة أدركت أن هذا الشعب العجوز يحتشد لـ «بك الدم» وكان الحل ناعماً إلى حد الإغواء بـ «سحب الدم» والطبخة الإنجليزية القديمة جاهزة، خلط الدينى بالسياسى والدم الفاسد بالدم الدافق. التاريخ حى فى الحاضر، وهو الرؤية للكاتب إن أراد أن يكون كاتباً لا (كتبجياً) إذا جاز التعبير.
اجتذبتك ندّاهة السرد بعد هجرك للشعر كما أوضحت، فلماذا لم تمتثل لغوايتها طويلا، وكنت مقلا فى انتاجك إلى هذا الحد؟
لدى من الزهد ما يكفى جيلاً كاملاً. ماذا ينتظر كاتب من الكتابة؟. إن كان الاسم أو الشهرة.. فأى وهم هذا!. لم نعد فى زمن طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم من الأسماء التى كنا نراها نجوما. تعلمت من مقولة تشيخوف «أن على الكاتب أن يتواضع كثيراً»، ليس بمعنى التواضع الكنسى الذى علّموه لنا ونحن أطفال، فهو يعنى الإنكسار أو الانسحاق، بل بمعنى أن يحاصر الكاتب غروره الشخصي، وألا يعجب بنصه إلى الحد الذى يسقط فى ذاته، ولنا فى الأستاذ «علاء الديب» عبرة. «يوسف إدريس» بكل ما أشيع عنه من نرجسية ـ لا أراها أكثر من صخب طفل يتشبث بالحياة ـ تسقط أمام نصوصه وتنوع أساليب سرده وجمال التقاطه للفكرة ومعالجتها بلغة تختلف من قصة لأخري. نجيب محفوظ بدهاء فنى نادر تنوعت أعماله ولم يشبه عمل سابقه. هذا جيل صنع لنا كلاسيكيات نتكيء عليها وننظر للقادم.
حكى لى الأستاذ الدكتور «عبد الحميد يونس» أن «طه حسين» حين عاد إلى الجامعة بعد معركة كتاب «فى الشعر الجاهلي» وقف الطلاب فى صفين من خارج الجامعة إلى سلم المبنى الرئيسى وهم يصفقون له إلى أن دخل مكتبه. حين غادر دكتور «نصر أبو زيد» مصر مقهوراً لم يقف أحد فى وقفة احتجاجية. هذا هو زماننا، زمن لا يصنع كتاباً، لكن لديه القدرة على صهرهم.
الفكر والإبداع، وهما مرتبطان، يشكلان روح أى أمة. فى ثورة الطلبة فى فرنسا عام 68 ساند «سارتر» الطلبة. قالوا لديجول اعتقل سارتر، قال:«لا أستطيع اعتقال روح فرنسا». وبعد العدوان الثلاثى على مصر تم تأميم الشركات الفرنسية، الشيء الوحيد الذى طلبوا ألا يغلق المركز الثقافى الفرنسي. هذه دولة تدرك أن الثقافة منتج إنسانى أبعد من المصالح الإقتصادية والسياسية المتغيرة حتى لو استخدمت الثقافة فى بعض الأحيان لغرض سياسى فهو على الأقل ليس شريراً. المبدعون والمفكرون واجهة بروتوكولية لابد منها فى عالمنا العربى وفى أغلب الأحيان شر لابد منه. لكنهم يُستخدمون كالمناديل الورقية فهم مزعجون لا تحتملهم أنظمة هشة. ولنتذكر قول يوسف إدريس:«كل الحريات الممنوحة فى الوطن العربى لا تكفى كاتباً واحداً». لاحظ أنه قال «الممنوحة». وأنا أتعجب من كم الصراعات بين كُتاب على كتابات هشة، ضعيفة البناء واللغة والسرد، يتم تصعيدهم لا أعرف إن كان عن جهل أو عمد، بينما يتوارى كتاب حقيقيون خجلاً. «عصام راسم» فى أسوان روائى من طراز رفيع بعد أربع روايات منشورة، وركام من الورق المكتوب فى مكتبه فضل الصمت يأساً. هذا كاتب ينضح بسلاسة فى السرد لم تبلغها روايات نالت أكثر مما تستحق. «محسن يونس» فى دمياط يكتب منذ زمن طويل. كاتب متميز فى القصة القصيرة والرواية له لغته الخاصة به وحده، وطرائق فى السرد متنوعة ومدهشة. كم دراسة كتبت عن أعماله.«ياسر إبراهيم» بعد روايتين لفتتا النظر ترك القاهرة هرباً ورحل إلى بلدته ولم أسمع عنه شيئا بعدها، وهناك عشرات مثلهما. ياسيدى نحن نقتل مبدعينا بأيدينا، أليس من العار أن شاعر بحجم فؤاد حداد ــ وهو سارد رائع على كتاب السرد التعلم منه ــ ألا نجد دراسة واحدة تحيط بـ «موردة» واحدة من بحره. أتكلم عن قصيدة واحدة من قصائده كافية لحمل جيل كامل على إبداع بلا سقف.
من كلامك لا يبدو أنك مُقِل فى إبداعك لضعف ما، ولا لتهيبك الإبداع، بل بسبب إحباط عام على نحو ما. أو إحساس باللاجدوي؟
ليست بكثرة الكتابة، إبحث عن القيمة. «خوان رولفو» الكاتب المكسيكى لم يكتب سوى رواية واحدة، ومجموعة قصة واحدة، لكنه غير خريطة الكتابة فى أمريكا اللاتينية. وقصة صديق ماركيز المعروفة الذى أعطى له رواية «بيدرو بارامو» لـ «خوان رولفو» قائلاً «فلتقرأ هذه اللعنة لتتعلم». فتعلم وكتب بعدها رواية «مائة عام من العزلة». لكن أمريكا اللاتينية كان بها حركة أدبية حقيقية، ونقاد حقيقيون يتابعون ويكتبون بتجرد، لا للمجاملة أو لمن يحرقون البخور. وقد ضاعت منى كتابات كثيرة سواء لعشوائية فى التعامل مع الورق أو لأسباب خارجة عن إرادتي. أحب كتابة القصة القصيرة فهى أشبه بمن يغربل جوال دقيق ليصنع رغيفأ من حفنة واحدة منه. كتبت رواية واحدة، ولست مشغولاً بموضوع زمن الرواية.
هل تشعر أنك ظلمت نفسك بالبقاء فى أسوان بعيدا عن معترك الإبداع والصحافة فى القاهرة، ألم تكن بحاجة لحيوية العاصمة. أم تشعر أنك نجوت؟
القاهرة مدينة من غبار وضباب وعوادم، والبشر يلهثون فى دراما يومية مبعثرة، وهى قاهرة بمعنى الكلمة «لا أحد يغنى بطيء» بتعبير فؤاد حداد. وأنا جنوبى نشأت فى مدينة تدعو للتأمل، وقلة التأمل تجعلنا رد فعل وليس الفعل، فالمكان هنا يرصدك قبل أن ترصده. وذلك الثالوث ما بين النَفَس الإنسانى وزهد الصخر القابع فى النهر على سماء مفتوحة وشمس حادة، شيء يسحب منك الزمن ويعيد ضخه فى عروقك وخيالك. هنا للخيال موضع وللإيقاع صدى وللصمت جمالياته، وأنا أكتب كى لا أشعر بالبرد فى عز الحر. فالكتابة نوع من الدفء، وكى لا أبتلع صوتي. ربما هذا ما جعلنى أكتب بلغة حسية لها زخم كثيف كما قال بعض النقاد. لا أحب تصوير القاهرة كشر، تلك رؤية فجة فالمدن الكبرى لها حركيتها وتجلياتها وبقدر ما تأخذ من الكاتب سجيته تعطيه وعياً ورؤية أوسع وقد أعطتنى القاهرة الكثير كمدينة. المشكلة أننا دولة مركزية وفى العالم هناك كتاب يعيشون خارج العواصم. اكتفى بإطلالة من وقت لآخر.
رابط دائم: