رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ناصر وديان وأساطير «الكرة الشراب»

محمد شمروخ

ليس سرا فى حياة جمال عبد الناصر أنه عاش بضع سنوات من صباه فى إحدى شقق منزل يمتلكه يهودى فى حارة خميس العدس وهى الحارة التى تشكل أحد مداخل حارة اليهود فى الجمالية.

وقد كان صاحب البيت الذى قضى فيه جمال عبد الناصر سنوات دراسته فى المرحلة الثانوية، مواطنا بسيطا يدعى المعلم يعقوب فرج شمويل يعمل فى إصلاح بوابير الجاز ويقع المحل الذى يزاول فيه مهنته فى الدور الأرضى بالمنزل نفسه.



المعلم شمويل كان ينتمى إلى طائفة اليهود القرائين وهم طائفة يهودية لا تعترف إلا بالتوراة كمصدر للديانة اليهودية ولا يعترفون بالتلمود ولا بالشروح الشفوية التى تؤمن بها الطائفة المقابلة لهم وهم اليهود "الربانيون".

ولا حاجة لنا هنا أن نبين الاختلافات العقائدية والفقهية ما بين الطائفتين ولكن الملاحظ هو أن اليهود القرائين كانوا ملتحمين بالمجتمع المصرى من حيث العادات والتقاليد وأسلوب المعيشية ولم ينعزلوا عن المجتمع المصرى ولم يعيشوا فى "جيتو" خاص بهم كما كان يحدث فى كثير من البلدان.

فقد كان اليهود القرائون خصوصا ويهود مصر عامة، مندمجين فى الحياة المصرية وعندما تزور حارة اليهود وتتجول فيها لن ترى ثمة فوارق بينها وبين بقية الحارات المحيطة بها، بل تتصل بها كجزء منها.

ولولا نجمة داود عليه السلام على ما بقى من الأبواب أو محفورة على واجهات المنازل، لما عرفت مالك البيت اليهودى من مالك البيت المسلم من مالك البيت المسيحى، إلا بالعلامات الدينية التقليدية التى يحرص المصريون عليها كجزء جوهرى من شخصيتهم.

ووجود النجمة السداسية لم يثر حنق أحد حتى الآن، لإدراك الجميع أن هناك فارقا كبيرا بين اليهود كسكان عاشوا فى هذه الحارات وبين الصهيونيين المغتصبين للأرض.

والواقع أن المنزل الذى كان يعيش فيه عبد الناصر فترة تعليمه الثانوى مع أسرة عمه خليل حسين، هو الآن خال من السكان، غير أنه منذ عدة سنوات كانت الشقة التى تقطنها اسرة خليل عم جمال عبد الناصر، تسكنها إحدى الأسر التى توالت على سكن الشقة وكانت السيدة ربة الأسرة تعتز بأن قطعة أثاث "نملية" تركتها أسرة خليل حسين لاتزال باقية فى صالة الشقة، التى لا تختلف عن شقة اى أسرة مصرية متوسطة الحال فى ذلك الوقت.

ولم تكن معيشة جمال مع أسرة عمه خليل سنوات دراسته بالأمر الغريب عن عادات العائلات المصرية لاسيما ذات الأصول الصعيدية، فقد عهدنا حتى وقت قريب استضافة أسر لبعض أقاربها من المغتربين ومعاملتهم كأنهم أعضاء أساسيين فى النسيج الأسرى، فجمال كان فى هذا الوقت يتنقل بين عدة مدارس بسبب تنقل مقر عمل والده فى البريد المصرى.

وحسب ما علمناه من سكان الحارة أن منزل الخواجة شمويل كان يعيش فيه يهود ومسلمون ومسيحيون تماما كما هو الشأن ذاته فى باقى العمارات السكنية وهو طابع مصرى صميم، فلا غرو أن تجد مسلمين يستأجرون شقة فى عمارة يملكها مسيحى وعلى بابها وفى مدخلها رموز خاصة بالديانة المسيحية والعكس صحيح تماما ويشهد به الواقع.

كما أن حارة اليهود على الحال نفسه، فكانت تنتشر فيها الأسر المسيحية والمسلمة فليس معنى أنها تسمى حارة اليهود هو أن كل سكانها من اليهود، فقد كانت أسماء الحارات والأزقة والدروب تتخذ أسمائها من مهن أو انتماءات بعض سكانها، فتجد حارة زويلة ودرب البرابرة والنحاسين والسروجية والصقالبة والسقايين والخراطين والروم وغير ذلك من الأسماء التى لا تعنى أن كل السكان من الفئة التى يدل عليها الاسم.

"ولعة ولعة"

كما أن اليهود القرائين كانت عاداتهم مع شكل تدينهم، محط اتهام من الربانيين الذين يرونهم يفعلون كما يفعل المسلمون خاصة فى حركات الصلوات!. وبقى أن نذكر أن القرائين كانوا يعتمدون النظام القمرى فى تقويمهم العبرى على عكس الربانيين المعتمدين على النظام الشمسي!.

هذا فضلا على أن القرائين يضربون بجذورهم فى عمق التربة العربية عامة والمصرية خاصة. ولأنهم كذلك يقدسون يوم السبت ويتشددون فى الامتناع عن العمل فيه وعدم إشعال النار لأى سبب ولو للإضاءة أو الطهى أو التدفئة، فلم يستغنوا عن جيرانهم من المسيحيين والمسلمين، وحتى الآن تسمع عن ذكريات الشيوخ والعجائز، حول أيام طفولتهم عندما كانت مجموعات من الأطفال تنتظر يوم السبت وهم يرددون بين عبارات صياحهم الطفولى "ولعة ولعة" حيث تستدعيهم ربات البيوت من اليهوديات لإشعال الكبريت لإيقاد المصابيح والمواقد.

كما أن سكان الحارة من اليهود كانوا يعملون فى المهن اليدوية التى يحتاج إليها المصريون فى حياتهم اليومية، فلم تكن ظروف العزلة التقليدية لليهود مهيأة فى مصر وكثير منهم يرون أنهم جزء من نسيج هذا الشعب.

كما لابد أن ندرك تماما أن اليهود المصريين تعرضوا لضغوط هائلة للهجرة إلى إسرائيل قبل وبعد نكبة 1948 ولم تكن الصهيونية نشطة بشكل ملحوظ بين القرائين ولكن طائفة الربانيين التلمودية كانت هى التى ظهر بينها دعاة للحركة الصهيونية بشكل أكبر، بل تعرضت حارة اليهود لعدة انفجارات غامضة مع مراكز تجارية يهودية أخرى بالقاهرة، لإجبار أهلها على الهجرة، غير أن كثيرين من اليهود غيرالصهيونيين، اضطروا للهجرة إلى أوروبا وأمريكا ولم يذهبوا إلى إسرائيل.

وهل تتصور أن يعقوب صنوع اليهودى المصرى كان يحفظ القرآن؟!.. ذلك أن والدته المولودة فى حارة اليهود، لم يكن يعيش لها أولاد فذهبت كعادة المصريات فى الأحياء الشعبية إلى إمام مسجد "عبد الوهاب الشعراني" لتستشيره فى الأمر فنصحها أنها أن تنذر مولودها الجديد للإسلام وأن تربيه على النشأة الإسلامية، فكان ما أمر به سيدنا الشيخ فالتحق يعقوب بأحد الكتاتيب لحفظ القرآن واللغة العربية!.

ثم تعالى إلى داود حسنى وكيف عبرت ألحانه عن الحياة المصرية فى عصره ويكفى على سبيل المثال "البحر بيضحك ليه".

"معبد درب محمود"

فى حارة اليهود هناك أسماء لدروب وحارات وأزقة وأسواق تحمل أسماء لا تختلف عن بقية الحارات والأحياء الشعبية، فهناك درب نصير وحارة المصريين ومكسر الخشب وقاعة الفضة ودرب الكنيسة وحارة سوق الفراخ التى ولد فيها الفنان الكوميدى المحبوب إلياس مؤدب هو الذى ظهر فى دور اللبنانى فى الاسكتش المشهور مع ليلى مراد التى ولدت هى أيضا لأسرة يهودية فى العباسية وهناك العديد من رموز المجتمع المصرى كانوا يهودا وصلوا إلى أعلى المناصب فمنهم من تولى الوزارة واشترك فى لجنة وضع دستور 1923، بل إن الحارة كان بها 13 معبدا بقى الآن منها 3 أشهرهم معبد موسى بن ميمون كاتب وطبيب الناصر صلاح الدين والفقيه واللاهوتى اليهودى الشهير صاحب "دلالة الحائرين" الذى يعتبر أحد أعمدة الفقه اليهودى والمعبد المسمى باسمه باق إلى الآن فى درب محمود وكان العوام يعتقدون أن من يبيت فى هذا المعبد يشفى من المرض العضال!.

وفى أسماء أبنائهم تجد منير ذكى مراد ويوسف درويش وإبراهيم حسنى وفرج إبراهيم وجاك مرزوق ويوسف كمال وثابت درويش وتوفيق عبد الواحد، كما لابد أن نذكر أن هناك شخصيات يهودية اعلنت رفضها لإسرائيل ككيان محتل وأشهرهم المحامى شحاتة هارون الذى عرف بمعارضته وعدائه العنيف لإسرائيل.

"ناصر وديان وأساطير الكرة الشراب"

ما سبق أن ذكرناه هنا ليس إلا لبيان أن كثيرا من اليهود عاشوا فى مصر دون أى فوارق ملحوظة ولم تكن هناك حساسية منهم قبل انتشار الصهيونية.

كما كان أكبر تجمع لهم فى قلب القاهرة وليس على هوامشها وفى أكثر أحيائها الشعبية حركة وازدحاما مما يؤكد الاندماج الكامل، كذلك لم تكن الحارة هى مكانهم الوحيد فقد كانت القاهرة مفتوحة لهم يسكنون حيث يشاءون، فى باب الشعرية والعباسية ومصر الجديدة وشبرا والدقى والزمالك وأماكن كثيرة أخرى فى القاهرة والإسكندرية والأقاليم، فكانوا يسكنون مع المسلمين والمسيحيين ولولا دخول الحركة الصهيونية لربما ظلت الطائفة اليهودية فى مصر، لا تتخذ غيرها وطنا بديلا.

ولكن الخيالات تشطح لمجرد إقامة عابرة لجمال عبد الناصر فى بيت عمه، فهناك من اعداء عبد الناصر التقليديين من يغمزون ويحاولون –كعادتهم- نسج أساطير من خيالهم ومن بين هذه الأساطير هو أن وزير الدفاع الإسرائيلى الراحل موشى ديان كان يسكن فى المنزل المجاور لمنزل عم عبد الناصر، بل يصل الأمر إلى أنهما كانا يسكنان فى المنزل نفسه حيث كان الفرق بينهم طابق سكنى واحد ويشطح البعض فى الخيال إلى أنهما كانا يلعبان معا الكرة الشراب مع ولاد الحارة!.

وإذا ذهبت الآن إلى حارة خميس العدس ستجد من يقص على مسامعك مثل هذه القصص، لكن بالطبع لن تجد أحدا يحدثك أنه شاهد بنفسه، فالفترة التى قضاها عبدالناصر فى خميس العدس كانت بين 1933 و1935 على الأكثر وفى هذا الوقت كان ديان لم يبرح فلسطين بعد أن هاجر والداه اليهوديان إليها، حيث أنجبا موسى عام 1915، حيث كانت الأسرة تقيم فى أول "كوبيتوس يهودي" على بحيرة طبرية وفى الوقت الذى تنتشر فيه أساطير الكرة الشراب بين فريقى ناصر وديان، كان هذا الأخير ضمن عصابة الهاجناة الصهيونية الشهيرة التى ارتكبت مذابح وقامت بعمليات إرهابية ضد أهل فلسطين!.

فديان لم يبرح فلسطين ولم يعش فى مصر وكل ماقيل عن حياته فى حارة خميس العدس أو قصر السنبلاوين أو نشأته فى المنصورة، من قبيل الخيال الجامح!.

ولا حاجة لإنكار ما يمكن إثباته بسهوله، كذلك لا حاجة لإثبات ما يمكن إنكاره، ففى مذكرات ديان نفسه لم يتحدث عن أى ذكريات أو حياة له فى مصر ولا حارة اليهود ولا غيرها ولا عن عبد الناصر فى طفولتهما فى حين لم يكن بحاجة إلى إخفاء شيء لكن الخيال الشعبى يعشق المفارقات المثيرة!.

وبسبب الخصومة التى أدت إلى حروب طاحنة بين عبد الناصر كرئيس لمصر وديان كوزير دفاع الدولة المعادية، وجد الخيال الشعبى فى قصة خناقات ومنافسات الكرة الشراب مفارقة تناسب ما يبحث عنه الناس من إثارة لمصمصة الشفاة!.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق