رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مصر الشاعرة
لماذا أسأنا الظن فى هذا القرن؟

أحمد عبد المعطى حجازي

فى المقالة السابقة من هذه السلسلة المنشورة فى الرابع والعشرين من الشهر الماضى قلت إن القرن الثامن عشر الميلادى فى تاريخنا له وجهان اثنان لا وجه واحد كما كان يعتقد الكثيرون وأنا منهم. وظننت أنى بهذا أنصفته.

لكنى اكتشفت بعد مراجعتى لنفسى أن هذا القرن الذى كنا نعتقد دائما أنه الهوة السحيقة التى وصل إليها عصر الانحطاط الذى سبق نهضتنا الحديثة لا يزال مظلوما، وأن له وجوها أخرى مشرقة لا نكاد نلتفت لها رغم أهميتها فى ذاتها وفى الربط بين ما سبقها ولحقها من ظواهر وتطورات، وبالتالى فى إلقاء ضوء كاشف على تاريخ مصر وعلى الدور الذى أدته وتؤديه فى الثقافة العربية وفى التاريخ الحديث.

لماذا تعودنا أن نسيئ الظن فى القرن الثامن عشر, وإلا نرى الا وجهه المعتم وأن نهمل إهمالا تاما وجوهه الأخرى؟.

الجواب: لأننا كنا ننظر إليه من خارجه. كنا نحكم عليه من حيث نقف فى عصر النهضة التى نردها غالبا إلى العوامل الخارجية التى أسهمت فيها وننسى دورنا نحن الذى قمنا به أو نراه سلبيا ونرده إلى العصر الذى سبق النهضة لنرى فيه عكسها وهو الانحطاط، بل هو حده الأقصى، لأنه النهاية التى انتهت إليها حياتنا بعد أن استولى الأتراك العثمانيون على بلادنا ففقدنا استقلالنا، وفقدنا ما يقوم عليه الاستقلال ويتحقق بفضله فى السياسة والاقتصاد والإدارة والعلم والفكر والفنون والآداب، وأصبحنا ولاية تابعة للعثمانيين لا يسمحون لنا بدور نقوم به فى إمبراطوريتهم إلا بفلاحة الأرض ليحصلوا على الجزية التى فرضوها علينا.

وليس من شك فى أن هذا قد وقع لنا وأننا عشنا فى ظلمته الدامسة ثلاثة قرون متواصلة فقدنا خلالها الكثير، لكننا نستطيع أيضا أن نقول بيقين تام إننا لم نفقد كل شيء. لأن ما حققناه لأنفسنا وللعالم كله خلال تاريخنا الممتد تراث حافل وخبرة حية لا يمكن أن تضيع فى ثلاثة قرون. ولأننا تعلمنا ونحن نقاوم الغزاة والطغاة الذين توالوا على بلادنا أن نحصن أنفسنا فى مواجهة ما نراه وما نتوقعه من الأخطار التى تهدد وجودنا. وقد رأينا ونحن نتحدث عن الوجه الآخر المنسى للقرن الثامن عشر أننا بالفعل لم نفقد كل شيء، وأننا بالرغم من الكثير الذى فقدناه فى عصور الطغيان والظلام الماضية لا نزال نملك الكثير الذى أشرت لبعضه فى المقالة السالفة. فقد ظلت روح الاستقلال حية عبرت عن نفسها بقوة فى الانتفاضة التى قام بها على بك الكبير ضد المحتلين العثمانيين واستقل فيها بمصر سنوات. وعبرت عن نفسها أكثر بأصالة وشجاعة فى الانتفاضات والثورات الشعبية ضد الغزاة الفرنسيين والانجليز وضد الأتراك والمماليك الذين فروا أمام الأوروبيين وتركوا الساحة للمصريين يقاومونهم وحدهم بصدورهم العارية. أما فى الثقافة فقد رأينا أن الأزهر ظل يؤدى دوره فى المحافظة على علوم اللغة والدين، وأن جانبا من الإنتاج الأدبى الذى ظهر فى هذا القرن، الثامن عشر، استطاع أن يحمى نفسه من أسباب الضعف والركاكة وأن يصل إلى مستوى من الجودة والاتقان ينبئ بأن الجذور حية وبأن النهضة قادمة.

هذا الوجه المضيء يطالعنا فى صفحات كثيرة من كتاب الجبرتى العمدة «عجائب الآثار» وفى الدراسات التى قدمها عدد من الباحثين منهم الشاعر خليل شيبوب، والكاتب محمود الشرقاوى، والشاعر محمد عبد الغنى حسن، والأستاذ الجامعى الأمريكى بيترجران الذى قدم أطروحة رائدة عن الجذور الإسلامية للرأسمالية فى مصر بين منتصف القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر. ونحن نعود لهذه الدراسات وللنصوص الأصلية التى اعتمدت عليها فنرى وجوها أخرى للقرن الثامن عشر تصحح لنا الكثير من معلوماتنا وتفسر لنا الكثير.

> > >

وأنا طفل فى الثامنة من عمرى أو حواليها كنت أمر على بعض المقابر التى كانت تعترض طريقى إلى المدرسة وأقف أمام أبيات من الشعر كتبت على شاهد من شواهدها أقرأها وأتأثر بصدقها الحميم وبعاميتها البليغة التى تتوسل بالفصحى، ربما لأن قائلها الذى نظمها متخيلا أنه يخاطبنا فيها بعد موته كان يعتقد أن الفصحى هى لغة العالم الآخر.

أيها الزائر ليا قف على قبرى شويا

واقرأ السبع المثانى وأهدهم منك إليا

فى زمانى كنت مثلك بين طوب الأرض حيا

بعد حين أنت مثلى ليس بعد الدود شيا!

وقبل بضعة عشر عاما صدرت رواية لكاتب شاب، محمد داود، بعنوان مقتبس من هذه الأبيات «قف على قبرى شويا» يصور فيها الموت فى الحياة. وفى الشهر الماضى كنت أراجع «عجائب الآثار» فوجدت قصيدة لشاعر من شعراء القرن الثامن عشر اسمه حسن البدرى الحجازى الأزهرى ربما كانت الأصل الذى تعددت صوره خلال القرنين الماضيين وانتقلت من فم لفم، ومن قبر إلى قبر، ومن قرية إلى أخري:

أيها الآتى ضريحى قف على قبرى شوي

واقرأ القرآن عندى ينزل الروح عليّ

كم قبور زرت ياذ وأنا مثلك حيّ

ثم مادبّ إليهم بعد ذا دبى إليّ

فتهيأ لرحيل واطو آمالك طيّ!

إنه وجه الموت الذى نراه فى هذه الأبيات. الموت الذى يبدو أنه الحقيقة الثابتة الباقية بينما تبدو الحياة ظلا عابرا لا يلبث حتى ينسحب ليحل محله ظلام القبر ووحشته.

غير أننا نطوى هذه الصفحات التى خصصها الجبرتى فى الجزء الأول من كتابه لهذا الشاعر الذى كان يعاشر الموت لنقرأ شعرا آخر نرى فيه الوجه المقابل وهو الوجه الباسم المتفائل المقبل على الحياة وعلى ما فيها من دفء إنسانى وغنى لا ينفد وجمال لا يراه إلا من يتحلون به كما كان يقول إيليا أبو ماضي: كن جميلا تر الوجود جميلا! ولنقرأ معا هذه القصيدة للشاعر عبد الله الشبراوى، وهو عالم فقيه تولى مشيخة الأزهر ودعا فى ذلك الوقت المبكر لتجديد برامج الدراسة فيه. يقول هذا الشيخ الجليل:

ألا إن دينى فاعلموه هو الهوي

وموتى شهيدا فى الصبابة مذهبي!

ومن لم يفقهه الغرائم فجاهل

ومن لم يهذبه الهوى لم يهذب

وإنى من قوم إذا عشقوا رأوا

هلاكهم فى العشق أعظم مأرب

أعف عن الفحشا ضميرى وما علي

لسانى جناح حيثما طاب مشربي

وإنى وإن صانعت بالقول لومي

لمخف أمورا لست عنها بمعرب!

تصوروا. شيخ الأزهر فى القرن الثامن عشر يقول إن دينه هو الهوى، ويقول إن له حياة يسكت الآخرين بما يظهره لهم منها ويكتم عنهم أسرارها التى لا يحق لأحد أن يتطفل عليه ليعرفها والشبراوى مفتون ببلاده مولع بها يتحدث عن مصر وعن نيلها وأرضها وسمائها ورجالها ونسائها حديث العاشق الولهان ويعبر عن هذه العواطف بلغة صحيحة فصيحة مترفعة. والشبراوى هو صاحب القصيدة التى غنتها كوكب الشرق أم كلثوم بألحان أبو العلا محمد:

وحقك أنت المنى والطلب

وأنت المراد وأنت الأرب!

وقد شهد القرن الثامن عشر صحوة فى دراسة اللغة ودراسة الحديث وكتابة المقامة وتصحيح مسار الشعر وإعادته إلى ميدانه الأصلى وهو التعبير عن الوجدان، وهذه إشارة وبشارة بالتحرر من السلطة العشائرية وظهور الشخصية الفردية. وهنا نقف وقفة جديدة نتحدث فيها عن مرتضى الزبيدى الذى أسهم فى هذه الصحوة بكفاءة عالية ونذكر بما قدمته له مصر وبما قدمه لها.

والزبيدى من أصول يمنية، لكنه ولد فى الهند ونشأ فى وطن آبائه ثم رحل الى الحجاز، لكنه هاجر فى شبابه الى مصر ليتلقى فيها العلم على شيوخ الوقت ويتخذها وطنا.

وقد اجتهد الزبيدى فى التحصل فتبحر فى اللغة والنحو والحديث والأنساب والتاريخ، وتعلم التركية والفارسية وصارت له شهرة واسعة تجاوزت مصر إلى ماحولها فقصده الطلاب وراسله حكام الحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب وتركيا والجزائر. ومن أهم أعماله فى اللغة كتابة «تاج العروس من جواهر القاموس» الذى شرح فيه القاموس المحيط وأسهم به فى حركة الاحياء الكلاسيكى التى نشطت فى عصر النهضة، كما أسهم فيها بشعره الذى عبر فيه عن عواطفه خاصة ما قاله فى رثاء زوجته وذكرنا فيه بما قاله جرير من قبل وما قاله بعده محمود سامى البارودى، وعزيز أباظة، وعبدالرحمن صدقى فى زوجاتهم. يقول الزبيدى فى زوجته التى استعادت فى السماء شبابها وزفت فيها للخلود:

زبيدة شدت للرحيل مطيها

غداة الثلاثا فى غلائلها الخضر

وطافت بها الأملاك من كل وجهة

ودق لها طبل السماء بلا نكر

تميس كما ماست عروس بدلها

وتخطر تيها فى البرانس والأزر

سأبكى عليها ماحييت وإن أمت

ستبكى عظامى والآضالع فى القبر!

وأخيرا نصل فى هذا المقال إلى وجه آخر منسى من وجوه القرن الثامن عشر هو وجهه المغربى الأندلس الذى لم نعد نذكره رغم حضوره القوى فى حياتنا للسبب ذاته الذى ذكرته فى البداية، وهو أننا ننظر للقرن الثامن عشر من خارجه ونحكم عليه من حيث نقف بعده فى عصر النهضة الذى شهد حضورا كثيفا للأوروبيين من ناحية وللمشارقة من ناحية أخرى.

أوروبا كانت حاضرة بقوة فى مشروع التحديث المصرى وهو أمر طبيعى، والمشارقة وخاصة اللبنانيين كانوا أيضا حاضرين فى هذا المشروع كمهاجرين باحثين عن ميدان للنشاط وكرسل للثقافة الغربية التى كنا بحاجة إليها نأخذها من الأوروبيين الذين حلوا فى بلادنا ونطلبها فى بلادهم عن طريق البعوث العلمية. وهكذا تعرفنا على يعقوب صنوع، وأديب اسحق، وعلى الاشتراكيين الأوائل شبلى شميل، وفرح أنطون. وعلى رواد المسرح مارون نقاش، وخليل القبانى، وجورج أبيض. وعلى الشاعر خليل مطران. وعلى الكتاب والصحفيين أحمد فارس الشدياق، وأصحاب الأهرام، وأصحاب دار الهلال. ومع هؤلاء تراجع إلى حد كبير حضور التراث المغربى الأندلسى فى ذاكرتنا رغم حضوره القوى فى حياتنا.

القاهرة أنشأها الفاطميون القادمون من تونس والمغرب. ومصر حافلة بأسماء المغاربة أبو العباس المرسى فى الاسكندرية، وأحمد البدوى فى طنطا. والمدن المصرية بالنسبة للحجاج المغاربة محطات فى طريقهم الى الحجاز، وكثيرا ما أصبحت لهم وطنا. وكما انتشر مذهب الإمام مالك فى بلاد المغرب والأندلس انتشر فى الاسكندرية والصعيد. والأزهر ساحة أخرى من ساحات اللقاء. وكنت فى حديث سابق تحدثت عن الدور الذى أداه المصريون فى احتضان الموشح الأندلسى وتبنيه والتنظير له. واليوم أكمل ماسبق أن قلته فى الموشحات التى يجب أن نضعها فى مكانها من صور التفاعل الخصب بين مصر وبلاد المغرب والأندلس. ولهذا أختم هذا الحديث بصورة من صور الحوار أو المعارضة الشعرية التى دارت بين الشاعرين المصريين حسن العطار وإسماعيل الخشاب واستخدم فيها الموشح.

والعطار من أصل مغربى. وهو أستاذ الطهطهاوى. وقد تولى مشيخة الأزهر. وكان رائدا من رواد التجديد. وهو القائل «إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ماليس فيها». ويعد هو وإسماعيل الخشاب، والشبراوى، والظهورى، والزبيدى من أفضل الشعراء الذين ظهروا فى القرن الثامن عشر.

يقول العطار فى موشحه:

أما فؤادى فعنك ما انتقلا

فلم تخيرت فى الهوى بدلا؟

فاعجب!

يامعرضا عن محبة الدنف

ومغرما بالجمال والصلف

ومن به زاد فى الهوى شغفى

ومن به زاذ فى الهوى شغفى

أما كفى ياظلوم ماحصلا

حتى جعلت الصدود والمللا مذهب؟!

الى آخر هذا الموشح الذى عارضه الخشاب بموشح التزم فيه وزنه وقوافيه:

يهتز كالغصن ماس معتدلا

أطلع بدرا عليه قد سدلا

غيهب!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق