ينظر أبو الروس إلى الحمار ساهماً.
شغال يأكل فى نهم.. يدفع منخاره فى كوم البرسيم ويتشمم.
ينتقى الأعواد المرعرعة بشفتيه الغليظتين ويلملمها بحرفية إلى داخل
فمه.. وينفر منها جانباً مالا يدخل مزاجه.
وتطحن الأسنان فى رتابة متمهلة يتقاطر صوتها مع حبات اللعاب الخضراء على كوم البرسيم.
يرمش أبو الروس عينيه ويمد عروق رقبته.
الحمار ما يزال هناك فى نفس المكان منذ الأزل.
ما الذى جرى للحمار؟.. ما هذا؟.
وتزحف البلاهة على غضون ملامحه.
يرى بطن الحمار ينتفخ والرأس يتقلص.
أهذا حماره بالفعل؟.
ويزعق ساخطا فى وجه الحمار.
أأنت حماري؟ انطق يا بجم.!
هل سرق أحدهم حماره ووضع مكانه هذا الشىء؟.
وتتمرغ موجات الهلوسة فى دماغ «أبو الروس».
يرى بطن الحمار يزداد انتفاخاً ليصبح بطن فيل.
- أبو الروس عنده فيل يا ولاد المركوب.!
هل يستطيع أن يركب الفيل..؟
يحك الشعيرات العشبية فى جلد رأسه شارداً.
هو يفهم فى كار الحمير.. ولكن مسألة الأفيال هذه فيها كلام.!
الحمار يصفع الذباب بأذنيه الطويلتين وينفض رقبته فى تشنج.
يتطاير الذباب ويحط على مؤخرته فيلاحقها بذيله.
يشد أبو الروس من طرف البوصة المقطرن بكل عافيته.
تتوهج أضلاعه ويرتعش جوفه.
يطلق صاروخ الدخان فى وجه الحمار قبل أن تتخاطفه شرقة السعال.
تدور أمامه أطلال الزريبة وتتخابط فلا يجد ما يتعلق به قبل أن تطلع روحه.
الحمار يكتم ضحكته ويتمايل برأسه منسجماً.
يوسع فتحتى منخاره ويتلقف صاروخ الدخان فى سلطنة ثم يغمض عينيه ويتوه فى الملكوت.!.
يزعق أبو الروس.
- أصح للصنف يا حمار.. عمر أهلك ماذاقوه.
تتشرع أذنا الحمار فى حركة رادارية وتدهس حوافره كوم البرسيم.
يباغته بنفرة رذاذية فيحتقن وجه «أبو الروس».
- أتفو على صنف تربيتك.!.
يأتيه صوت أم الروس تعارك نفسها فى شبورة هياج.
يركن الجوزة ويشخص تائها بعينيه.
يمد جذعه إلى الأمام ويتحرك على أربع.
خطوتين وينكفئ على الأرض.!
يرفع نفسه بأطراف مرتعشة فتصطدم عينه بعين الحمار.
ينظر بداخلها ويبحلق.
يتسع ويتسع سوادها الغويط ويبتلعه.
يتهادى لائذا بجوف الظلام.
- دارنى يا حمار وخليك راجل.
ويلاحقه صوت أم الروس المسلوخ.
- بتكلم الحمار يا راجل؟.. بتقول له إيه؟.
يغمز أبو الروس للحمار فى تخابث.
- آهو عندك..! إسأليه بمعرفتك.!
تهيج ملامحها وهى تخطف ذيل جلبابها المتناسل عند الصرة وتمسح عرق وجهها ورقبتها.. تتعرى الهلاهيل الداخلية فاضحة تجاعيد الأخاديد السمراء فى بدنها.
تدور عيناها بحثا عما تقذف به الرجل.
- الحمار بيعمل بلقمته وأنت بارك لنا كالعمل الرضى.!
ينظر أبو الروس من تحت ذراعه فيرى وجه البومة يطير من حائط الخرابة ويحملق فيه.
تنقض يداها على رقبته فى غل.
- قم حمّل الحمار يا حمار.!
وتنهال سياط صوتها على رأسه متلاحقة تندب وتولول فى سعار.
رواتب الزبائن، وأذان الظهر، وشوال الدقيق، وغموس العيال، ووابور الطحين، والقطران الذى تشربه.. و.. و..!
يجاهد أبو الروس فى خلع مؤخرته من الأرض.
يمصمص شفتيه وتتحشرج ضحكته.. فماذا يفعل وهى مغراة بالأرض؟.
ترفع أم الروس خرج العيش إلى ظهر الحمار فى مجاهدة.
تقوم قبل الفجر وتعجن وتخبز وتعبئ الأرغفة فى الأكياس.
وحدها تفعل كل يوم.. كل يوم.!
حتى عليقة الحمار تضعها بنفسها.. تزوم بداخلها.
- بنى آدم عديم الفائدة فى كل شىء.. كل شىء.!
من هناك يتهادى سابحا فى الفضاء نهيق حمارة نغماش.
ناعماً فى طراوة الحرير.
متناغما فى شدو البلبل ومسحوبا فى شهقة الأنوثة.
يتكهرب حمار أبو الروس وتركبه عفاريت الأرض.
يتشنج وتتبادل حوافره رفس البرسيم.
يشرع منخاريه ويغمض عينيه مستحلبا صوت النهيق فتهيم الرأس فى الملكوت.
تنتفض فجأة خلفيتيه ضاربة الهواء بكل قوتها بينما يطلق نهيقا عاصفا، مطيحا بخرج العيش إلى الأرض.!
وتصرخ أم الروس بكل فزعها.
مستميتة فى إنقاذ الأرغفة من دهس الحوافر المجنونة.
يندفع هياج الحمار مرتطماً بالمنقد والأوانى والفأس وبستلة المياه وماجور العجين وحزم البوص ناطحا برأسه ألواح الباب فى عنف شديد، طائرا عدوا.
تتشمم حمارة نغماش رائحة الهواء الآتى من هناك.
تطيح بغبيط السباخ وتظل تمروح ذيلها وتتراقص بأرجلها فى نشوة طاغية، غير عابئة بصراخ الواد ابن نغماش الأعرج ولا بلسعات شمروخه على بدنها.
وتمشى خطوة بخطوة فى دلال متأود.
تتمخطر وتتباهى بنفسها.
تنظر أم الروس إلى حطام الباب فى حسرة.. تلملم أرغفة العيش وتنفض عنها التراب والطين.
يناوشها أصوات جاراتها من الخارج فتندفع فى غيظ.
النسوة يتبادلن نظرات متوثبة لناحية شجرة الشيخ سلامة.
حمار «أبو الروس» وحمارة نغماش فى لقاء غرامى مشبوب.
تهبش أم الروس طرحتها وتنثر جدائل شعرها على كتفها وهى تلوح بجريدة نخل فى يدها.
- يا حوش.؟ إتفو عليكم.!
وتهرول إلى هناك تضرب بدن الحمار فى عشوائية لتبعده عن حمارة نغماش.
تدمى لسعات الضرب المتلاحقة رقبته وظهره.
يطلق نهيقا متأسيا يستدر دموع رفيقته.
تنسحب فى انكسار وعينها معلقة به.!
* * *
يغيب القمر عن السماء ويحط الظلام على بيوت الكفر متوغلا فيها.
يمتص السكون هسيس الجريد وحفيف الزرع ونقيق الضفادع ويلوذ بأزقة الدروب.
أبو الروس ما يزال لابدا فى مكمنه.
تحاصره عطانة الحوائط وقطران الدخان ومخلفات الحمار.
يبحث أصبعه المتفحم عن بقايا جمرات فى جوف الرماد.
صوت عراك الشخير يلاحقه ويرتمى عليه محدثاً كجرش الزلط فى أذنيه.
أم الروس وأولادها يصارعون النوم فوق فرن الخبيز.
تلملم أنامله ندف الحشيش من ورقة السلوفان وتكورها وتضعها فوق الجمرات.
يعجز جوفه المنهرئ عن الشد من فوهة الغابة.
يكرر المحاولة فى يأس عدة مرات بلا جدوى. يلقى الجوزة ويروح يضغط دماغه بين كفيه.. يضغط ويضغط.!.
يعجز عن تقيئ الدموع من عينيه.
ضعت وضاعت أيامك يا «أبو الروس».
حرن كل شىء فيك وأعلن العصيان.!
لم تعد قادرا على المقاومة يا بطل.. صدقنى لم تعد.!
ويأكل الدخان عينيه فتزداد احمرارا وهو يدعكها بكلوة يده.
أنت لا شىء يا «أبو الروس».. أصبحت لا شىء ولا تكابر.
أنت من الأصل لا شىء يا بنى آدم.
ليتك كنت حمارا يا جدع.!
هل تصلح أن تكون حمارا يا «أبو الروس».
الحمار كان له من يربيه.. من يسوقه إلى الطريق العدل.
وأنت من رباك؟.
هل كان لك بالفعل من يربيك؟.
من يدلك على الطريق العدل؟.
بالعكس يا «أبو الروس».. رمى أبوك بذرتك المضروبة فى بطن أمك وتاه فى عالمه.. بذرتك المعجونة بعلقم الكيف المدمر لتفقس كائنا ملوث الدماء والوعى والأحشاء.!
وماذا بعد يا «أبو الروس»..؟
مات الحضن الوحيد الدافئ الذى كنت تلوذ به.
احتضنك الآخر مرة وأنت تشعر بأنياب الوباء تأكله فى سعار وأنت عديم الحيلة.!
مات الحضن الوحيد وأنتزعك الجيران منه بين مصمصة الشفاه والطبطبة على الظهر المسلول ومسح الأكف على الرأس التائه.
ولفوها وأخذوها للمقابر وأبوك.. أين أبوك.. لا أدرى.
ووجدت الحيطان الأربعة تميل عليك وتكتم أنفاسك فرحت تعدو إلى مقابر أمك وتنبش ترابها.!
ويسعل أبو الروس متقيئا جوف أمعائه الأسود.
وما بعدها «يا أبو الروس».؟
المصيبة فى ما بعدها هذه.!
وجدت نفسك مقيدا إلى غرزه المزاج تحت حصار الأب صاحب البذرة المضروبة. خادما لرواد القعدة.. توصل الطلبات وتصهلل نار الحجر بشد نفسين من كل تعميره أو متلقيا صفعة على القفا من أبيك.
وهكذا أدمنت من يومها المزاج وجوه وضعت «يا أبو الزفت»..
ويهيج صاروخ النار فى جوفه فيروح يلطم خديه فى تشنج جياش.
من أنت يا أبو الروس.؟. من أنت يا رجل يا رمة؟.
هل أنت موجود فى دنيا الناس؟.
هل تعيش كما يعيشون وتعمل كما يعملون؟.
أبدا أنت لا شىء.. لا شىء على الإطلاق.!
وينظر إلى الحمار وتتحشرج الضحكة فى حلقه.
هل ينفع أن أكون حمارا يا أخ ؟!.
ينفض الحمار أذنيه ويطيح بنفرة متطايرة تصادم وجهه.
يمعن النظر فى وجه الحمار.. هل ينفر الحمار وهو نائم.؟..
وهل ينام الحمار أصلا ويشخر مثل بنى آدم.؟..
مثلك أنت مثلا يا «أبو الروس».؟
أنت لم تنم منذ سنوات ولم تسمع شخيرك أبدا.!..
أم الروس تجيد فن الشخير وتبرع فيه.
وأنت أيضا تجيد فن المراوغة يا حمار.
تتناوم وتراقبنى من تحت عينيك فى خبث.
والمرأة تراقبنى من تحت كوعها فى خبث أيضا.
ماذا تدبران بالضبط.؟..
هه ماذا يدبران لك يا «أبو الروس»؟.
الهواء يتسرب من ناحية الباب المخلوع ويتحرش بعريش السقف والهدوم المتدلية من الحبل.
يميل دماغه إلى الحائط فلا يستطيع أن يعيده.
الظلال تنسحب من الأركان وتعكر الجو.. تغشاه وتمتص منه ندف الضوء.. تقترب عينا الحمار منه رامشه فى حنان يستحلب الهمس من فمه.
ما رأيك يا حمار..؟ قلها بصراحة فأنت لا تعرف الكذب.
لماذا هجرنى الناس ونفر منى الكبير والصغير.؟
لماذا يتأفف الكل من شكلى ومن رائحتى..؟
أترانى أجربا تفوح رائحتى العفنة يا خال؟.
اقترب وشمنى بنفسك وقلها فى وجهى ولا تخف.. صدقنى يا صاحبى لم يعد لى غيرك فى دنيا المخاليق.
أنا.. أنا.. أنا لا أعرف من أنا.؟
ويراها تقوم فى توجس.
تمعن النظر إلى وجهه قبل أن تنسل من بين العيال.
تتحرك فى حذر على أطراف أصابعها وتغيب فى الظلام.
يسمع صوت تبولها هناك فى الزريبة.
هى زوجته بالتأكيد.. يعرف كل الأصوات التى تأتى منها.
يرى شبحها يتحرك فى الظلام ناحية الحمار.
يدعك عينيه وينبش العتمة فى ترقب.
هى زوجته هناك عند الحمار.
تربت على رقبته وتقول له شيئا هامسا.
ماذا تقول له بالضبط.. هه ماذا تقول.؟
ويحاول أبو الروس أن يخلع دماغه من الحائط.
محشور فيه ومتصلب كقالب الطوب.
أم الروس تزوم وهى تجمع الأشياء وتضعها على ظهر الحمار.
خرج العيش وماجور العجين وبستلة المياه وصندوقها الخشبى المزخرف.
ماذا تفعل المرأة المجنونة.؟
يحاول أن يزعق فيها فلا يخرج صوته من حلقه.
وهى تحمل العيال واحدا واحدا لتضعهم فوق الحمار.
لا يطاوعه ذراعه ليلوح لها ويشد انتباهها إليه.
تسحب الحمار وتتجه إلى الباب.
لابد أن يقوم ويجرى وراءها.. يوقفها وينهرها بعنف.
فإلى أين تخرج وتترك بيتها.. وتتركه هو أيضا.؟
رجلاه هامدتان ومجبستان بالأرض.
أم الروس تخرج من الباب والحمار من ورائها يمروح ذيله.
يبتلعهما الظلام فى بطء ويظل هو شاخصا إلى هناك.!
وطعم الدموع مالح فى شفتيه.
وآخرتها يا «أبو الروس».!
ألا تعقلها ولو مرة واحدة قبل أن تطلع روحك.؟
ألا تتحرك مرة واحدة وتفعلها أمام الخلق ليعرفوا من هو «أبو الروس».؟..
ويتوهج صدره مذعورا فيزعق.
- انتظر يا حمار يا بن الحمار.
ويطيش داهسا كل ما يعترضه فى الظلام.
وتتخبط ذراعاه بالهواء إلى أن تتعلقا بأذنى الحمار.
تنصفق الأبواب والشبابيك عن آخرها طارحة أضواء متفزعة على الأرض والجدران، كاشفة عن التماعات عيون يأكلها الفضول.
فماذا وراء صرخات أم الروس المولولة ملء الدنيا.؟.
ويجاهد أبو الروس ليصلب طوله فيسقط ويعاود الوقوف متشبثا بأذنى الحمار.
يتراجع بدماغه إلى الوراء ويزعق بكل عافيته.
- دماغى ودماغك يا حمار.!
ويرى وجه الحمار يهتز ساخرا نافرا رذاذ التحدى.
ويندفع بدماغه ناطحا دماغ الحمار بين عينيه بكل غيظه وتشفيه.!
وتغيم الدنيا فى عينيه ويترنح فاقدا توازنه.
يتراءى له دماغ الحمار مفلوقا إلى نصفين والدم والمخ يسيل من بينهما ساخناً فوارا.
أذن وعين ونصف منخار فى ناحية وأذن وعين ونصف منخار فى الناحية الأخرى.!
وترفرف النشوة المتداعية فى صدره وتتخبط فيه.
فلقت دماغ الحمار يا بطل الأبطال.!
فعلتها أخيرا أمام الخلق يا فتوة الفتوات. وانتهت كل المسائل!
وتبرق عينا أم الروس فى ذهول يلجم لسانها.. وهى ترى دماغ زوجها مفلوقا إلى نصفين والدم يسيل من بينهما فوارا.
أذن وعين ونصف أنف فى ناحية.. وأذن وعين ونصف أنف فى الناحية الأخرى.!
رابط دائم: