رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

شاهين
هاملت الإسكندرية الذى حول الألم إلى إبداع

علا الشافعى

تطابق بين رؤيته الشخصية و العالم المريض والفاسد من حوله


 يبقى المخرج العالمى الكبير الراحل يوسف شاهين واحدا من أكثر المخرجين العرب موهبة ودأبا.. شاهين الذى لم يتوقف عن الإبداع حتى اللحظات الأخيرة من عمره، كان دائما يفكر فى الفيلم القادم، وماذا سيقدم وأى منطقة شائكة جديدة سيقتحمها، وأى جدل سيصاحب إبداعه الجديد.

شاهين كان حضوره طاغيا وليس فقط أفلامه، كان وجوده فى أى مكان يصاحبه دائما صيحات الإعجاب والتصفيق، شاهين كان يأخذ العين والقلب ليس فقط بسبب إبداعاته المميزة التى تمثل تاريخا متنوعا محفورا فى السينما المصرية، ولكن لأنه «بنى آدم» فريد فى تركيبته الإنسانية يحاكى الأطفال حينا والمجانين أحيانا أخرى .




ولم أنس يوما اللقاء الأول الذى جمعنى بالأستاذ عندما ذهبت إلى مكتبه فى مهمة صحفية حول فيلمه «المهاجر 1994» .. وقتها لم أكن رأيت الأستاذ قبل ذلك ولكننى فوجئت بصوت أعرفه جيدا وهو صوت «قناوى» فى «باب الحديد» يتحدث بعصبية شديدة بعد أن وجد أن هناك عطلا أصاب ماكينة التصوير. فى هذه اللحظة أصبت بالارتباك فكيف للأستاذ أن يتحدث فى الحقيقة «زى قناوى»؟ وفجأة دخل علينا شاهين بإطلالته الساحرة وعينيه العميقتين شديدة الذكاء مرددا: «شوفوا حد يصلح «البتاعة دى»؟.. لم أصدق أننى أقف أمامه.. نظر لى باسما «ازيك». سلمت عليه بعفوية وقلت له «أنا بحب صوتك أوى» فنظر إلى ضاحكا وخرج ثم التفت التفاتة من على الباب وقال لى «هشوفك تانى».. تفاصيل ذلك اللقاء لا تزال محفورة ولم أنسها يوما، رغم تعدد لقاءاتى مع الأستاذ سواء لإجراء حوارات صحفية أو ندوات كنا ننظمها فى الأهرام إلا أن اللقاء الأول كان بالنسبة لى كاشفا لكاريزما شاهين وحضوره الطاغى والمؤثر ذلك الطفل المشاكس. . المتمرد أبدا ودائما.

فى الكتاب الذى أصدره الناقد إبراهيم العريس بعنوان «نظرة الطفل وقبضة المتمرد» عن المخرج الكبير والذى ارتبط معه بصداقة قوية وعميقة، يتناول العريس بتحليل عميق مسار شخصية خلافية مثل شاهين المخرج والإنسان المتوتر دائماً الذى كان يعمل 18 ساعة يوميا، وظل متقداً بالحيوية والنشاط رغم سنوات المرض. ومن قبل نجح فى كسر حصار «خفافيش» الفكر الظلامى من حوله، وكان قناصاً ماهراً لكل فرصة سانحة لتحقيق أحلامه، وبقى قادراً على تحويل أى هزيمة إلى نصر فنى جديد. شاهين لا يمكن وصفه فقط بأنه أثرى المشهد السينمائى المصرى والعربى، حسبما يؤكد العريس إنه أيضا قطع شوطا غيَّر من خلاله وبتواجده خريطة ذلك المشهد السينمائى وقلبه رأساً على عقب شكلاً ومضموناً. يوسف شاهين المشاكس، فى رأى البعض أو المُنفَلت بحسب آخرين، الذى كثيراً ما أثارت أعماله وتصريحاته ومواقفه جدلاً كبيراً على المستويين النقدى والجماهيرى، وخصوصاً كلما سعى إلى تدمير الأفكار الزائفة، ونفض الغبار عما اعتدنا تسميته بالمسلمات وإلى تعرية الازدواجية الراسخة فى أعماق المجتمع، كلما قدم أعمالاً سينمائية تغترف من سيرته الذاتية فى شكل واضح وجريء لا يحتمل الالتباس، بدءاً من 1978 فى فيلمه «إسكندرية ليه»، ثم عندما أكمل رباعيته بـ «حدوتة مصرية» 1982، و«إسكندرية كمان وكمان»1987، و«إسكندرية نيويورك» 2004. أصبح تيار السيرة الذاتية الذى فجره يوسف شاهين فى آخر السبعينات من أبرز اتجاهات حركة الواقعية الجديدة فى السينما العربية فى مطلع الثمانينات، ونقل السينما العربية إلى مرحلة من التطور بعد أن ظلت عقوداً تعتبر السيرة الذاتية من المحرمات. وسرعان ما انطلق من معطف شاهين مخرجون آخرون مثل محمد ملص فى «أحلام المدينة» 1984 ، ونورى بوزيد فى «ريح السد» 1986، وأسامة محمد فى «نجوم النهار» 1988، ويسرى نصرالله فى «سرقات صيفية» 1988.

شاهين ابن الإسكندرية تلك المدينة المنفتحة والمتعددة الثقافات فى ذاك الوقت، والذى درس بـ»فكتوريا كولدج» وزامل شادى عبدالسلام وعمر الشريف وأحمد رمزى، ثم سافر إلى أمريكا لدراسة المسرح والفنون بمعهد باسادينا بدأ عمله فى مجال صناعة السينما المصرية كمساعد للمصور السينمائى الفيز أورفانالى، الذى مهد له الفرصة لإخراج أول أفلامه بعنوان «بابا أمين» عام 1949م وهو لا يزال فى الـ23 من عمره، وفى العالم التالى قدم ثانى أفلامه تحت عنوان «ابن النيل» الذى شارك فى مهرجان كان للسينما محققاً من خلاله الشهرة والنجاح كمخرج يخلق اتجاها ولغة سينمائية مختلفة عن السائد فى ذلك الوقت بالسينما المصرية.

قبل هذا الفيلم قدم شاهين مسرحيتين فى العام 1948، الأولى قصة حب لإبسن، والأخيرة بعنوان The magnificent vanes . لن يكرر العمل المسرحى إلا على خشبة المسرح الكوميدى الفرنسى عام 1993، حين قدم معالجته المسرحية لـ «كاليجولا» ألبير كاموAlbert Camus بباريس.

ولم تتوقف إبداعات شاهين طوال مشواره الفنى الذى امتد حوالى 60 عاماً، حيث أثارت أفلامه جدلاً واسعاً بسبب روحها النقدية السياسة والاجتماعية ودفاعه الدائم عن الحريات، ففى عام 1972م ألقى حجراً فى الماء الراكد بإخراج فيلم «العصفور» الذى تناول أسباب النكسة واستمر هذا الخط النقدى فى العديد من أعمال شاهين ومنها «عودة الابن الضال» و «الأرض» و «المهاجر» و «باب الحديد» و «المصير» و «الآخر» و «هى فوضى». كما قدم شاهين سيرته الذاتية ورصد تطورات الحياة الاجتماعية والسياسية فى مصر من خلال أربعة أفلام شهيرة هى «إسكندرية ليه» و «حدوتة مصرية» و«إسكندرية كمان وكمان» و «إسكندرية نيويورك»، واختار النقاد عشرة من أفلامه من بين أهم مئة فيلم فى تاريخ السينما المصرية بمناسبة مرور مئة عام على انطلاقتها.

والمدهش فى أفلام شاهين، أنك فى كل مرة تشاهد فيها الفيلم تكتشف أبعادا جديدة وعوالم أخرى غير التى عرفتها من قبل. شاهين أيضا وحسب الناقد السينمائى عصام زكريا، يكمن فى شخصية «هاملت» باعتبارها المحرك الأساسى فى الاختيار والابتكار وكان شاهين يردد دائما «هاملت حبى الأول والأخير موجود فى كل أفلامى». استطاع السينمائى الراحل أن يحول «ألمه النفسى إلى إبداع، ويطابق بين رؤيته الشخصية المفزعة وبين العالم المريض والفاسد من حوله فى لحظة واحدة.

وكل من اقترب من شاهين وعاصره يعرف حقا سطوة شخصية هاملت عليه وكيف أنه كان يملك مشروعا لم يتحقق يوما بعنوان «هاملت الإسكندرانى» وإذا كان شاهين لم يحقق حلمه إلا أن شخصية هاملت تلقى بظلالها فى معظم أعمال شاهين .. ملامح شخصياته والتى فى ظنى يحمل بعضها أيضا وحسب تحليل عدد من نقاد الأدب لشخصية هاملت لكن سنجد أنه يميل إلى عدم الاستقرار العصبى، من خلال تقلّبه السريع، وربما تطرّفه فى تغيرات الإحساس والمزاج. وقد أطلق الإليزابثيون (مجموعة من المسرحيات الدرامية المكتوبة خلال فترة حكم إليزابيث الأولى من إنجلترا)حكم من (1558-1603)، وخصوصا عمل وليام شكسبير (1564-1616)_ على هذا النوع من المزاج «الميلانخوليا» ويبدو إن هاملت كان نموذجا لها, إننا لا نكون مخطئين حين نعزو لهاملت، فى أيامه الأولى الحساسية الحادة. ويمكن أن نطلق عليها «أخلاق» إذا كانت هذه الكلمة تدلل على المعنى . وفى حساسيته الأخلاقية هذه يكمن الخطر دون شك. فكل هزّة عنيفة يتلقاها تثير حساسيته الأخلاقية بأقصى حدتها. وهزّة كهذه يمكن أن تنتهى بنتائج مأساوية. ولهذا فان هاملت تستحق فعلا عنوان «مأساة الأخلاق المثالية» ، أو «مأساة الفكر».. وهذا هو شاهين الذى كان دوما يبحث ويتساءل عن الحب والعدالة والخير فى وسط عالم فاسد.. انظر إلى «على» فى «عودة الابن الضال»، و «محمود» فى «الاختيار» و»أبو سويلم» و»الشيخ حسونة» فى «الأرض» و«قناوى» فى «باب الحديد» و «رام» فى «المهاجر» وغيرها من أعمال شاهين التى لا تزال وستظل راسخة فى الوجدان.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق