أحاول فى هذه العجالة أن التقط ملمحًا جوهريًّا فى أدب «أحمد أبو خنيجر» من خلال عمله الأخير بعنوان «مَشاهد عابرة لرجل وحيد» الصادر عن هيئة قصور الثقافة. وهذه مهمة تحتاج إلى دراسة مسهبة؛ ليس فحسب لأن هذا الأدب ينطوى على قدر عظيم من الخصوبة والعمق والتميز، وإنما أيضًا لأن «أبو خينجر» ينتمى إلى طليعة الأدباء المهمشين فى واقعنا الثقافى الذين يسمونهم «أدباء الأقاليم»، حتى إن المؤسسة الثقافية الرسمية تعقد مؤتمرات بهذا المعنى تحت عنوان «مؤتمر أدباء الأقاليم». ولا شك أن مثل هذا التوصيف يقوم على نوع من التصنيف؛ بل على تمييز لا يخلو من عنصرية تُعلى شأن المركز على الهامش الجغرافي. ذلك أن التصنيف الجغرافى للأدباء قد يكون له أهمية عند الحديث عن سمات وخصائص معينة تشيع فى أدبهم، من حيث الاهتمام بموضوعات معينة وغلبة «تيمات خاصة» على إنتاجهم الأدبي، لكنه بلا أهمية فيما يتعلق بالقيمة الفنية والجمالية للأدب ذاته.
استوقفنى عمل أبو خنيجر الأخير سالف الذكر، باعتباره مجموعة قصصية تنطوى على قصص قصيرة للغاية. والحقيقة أننى عند قراءتى لهذا العمل أيقنت من قناعتي- التى ازدادت على مر الأيام- بما هناك من صلات عميقة، لا بين الأنواع الأدبية فحسب، وإنما أيضًا بين الأدب وغيره من الفنون. يجسد عمل أبو خنيجر أسلوب التداخل- بل التلاحم- بين فنّى الأدب والتصوير، كما يتبدى لنا بدءًا من عنوان «مشاهد عابرة لرجل وحيد»، فالمشهد أو المَشاهد كلمة من فن التصوير الذى يثَبِّت المشهد كلحظة منتقاة على نسيج لوحة ما، لكن أبو خنيجر يقوم بتثبيت اللحظة المعيشة فى مشهد مكثف بلغة الكلمات، عبر صفحة واحدة أو صفحتين، بحيث يبدو النص كما لوحة مرسومة بالكلمات. ترى ذلك فى تصويره لسائحة أجنبية ترتاد محلًا لبيع الأشياء التراثية فى جنوب الصعيد، فيغريها البائع بنقرات على الطبلة التى يريد بيعها، فتتراقص على إيقاعها، ثم يعلو المشهد ويتحول إلى «حالة من الرقص» تعم الناس فى الساحة. وترى ذلك فى مشهد المنتقبة زميلته فى العمل التى لم تكن من قبل منقبة، والتى تراءت له فى لحظة ما أشبه بالجثة أو بجثمان عمته حينما حملها ليواريها التراب، وهو مشهد مكثف مليء بالدلالات والاسقاطات على التحول الاجتماعى فى حياتنا. وهناك أمثلة كثيرة يمكن ذكرها ولا يتسع لها المقام، لكن أود التنويه فى النهاية إلى أن هذا العمل ينقسم إلى جزءين منطويين فى عنوانه، أولهما «المشاهد العابرة»، وثانيهما «رجل وحيد»؛ والاختلاف بين الجزءين فى منظورى الحكي، فالأول يبدو فيه المؤلِّف مشاهدًا ضمن المشاهدين، كأنه يتوارى فى الخلفية لمصلحة الحدث الذى يجرى خارج الذات؛ وفى الجزء الثاني، الحدث لا حضور له إلا من خلال تجربة الذات، ذات المؤلِّف نفسها حينما تتأمل ما يجرى بباطنها.
رابط دائم: