رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مشروعه الشعرى ضد وحشية المحتل الصهيونى ودمويته..عبد الله عيسى: أنحاز للإبداعى الجمالى بعيدا عن السياسى

حوار ــ أسامة الرحيمي
قالت وزارة الثقافة الفلسطينية فى بيان لها إن منح الشاعر عبد الله عيسى «وسام تشيخوف» الإبداعى العام 2017 فى موسكو «إنجاز إضافى للثقافة الفلسطينية».

وأكد الاتحاد الفلسطينى للكتاب والأدباء أنه يستحق الوسام عن جدارة، لأنه «قدم اقتراحا جماليا يليق بالشعرية الفلسطينية والعربية»، ولديوانه الأخير «وصايا فوزية الحسن العشر» دلالة واضحة على مواصلته شعر وأدب المقاومة المحمول على الجماليات.

تجربته المسكونة بأسى المخيمات، ومواجع الحرب فى بيروت، ومجازر صبرا وشاتيلا، وتراجيديا الخروج، وشقّ منظمة التحرير، حفّزه على تصفية شعره من الآلام العامة، وتفادى الخطابية ليكون إبداعا جماليا خالصا، كما يتجلى فى دواوينه «موتى يعدون الجنازة» (1987) و«قيامة الأسوار» (2000)، و«رعاة السماء رعاة الدفلي» (2013)، ويعد ديوانه الأخير «وصايا فوزية الحسن العشر» الذى صدر مؤخرا عن «دار ابن رشد» فى القاهرة ونوقش بندوة فى المجلس الأعلى للثقافة، تجربة شديدة الخصوصية، تؤرخ لسؤال الهوية والمصير، وذاكرة والمخيم والمقبرة والسجن، وتؤصّل لدرب آلام الفلسطينى بحثاً عن حلم العودة. ويقدم الديوان سردية جمالية خاصة للإبداع الفلسطينى كمشروع إنسانى يوحّد بين الحياتى والمقدس فى مواجهة الوحشى الإسرائيلى القائم على التدمير والقتل.

لاحظت فى ديوانيك تداخل أو تجاور الكائنات ( الحيوانات والطيور وحتى الزواحف) فى صورك الشعرية فكيف تتشكل هذه الروحية للمبدع.. من سماحة فى تكوينه الأصلى تجاه شركاء الحياة.. أم رؤية فكرية ناتجة عن الوعي.. أم مجرد رغبة بإثراء الإبداع بالتنويع؟

لا يمكن التصدى للإجابة دون اختراق العلاقة شديدة الخصوصية بين زمن الذاكرة الإبداعية فى انشغالاتها، وزمن الذاكرة الموضوعى الذى يتلقّف مفردات العالم ويخزنّها، ثم يكتشفها حين تداهم عالمه الشعري، وتتحرك فيه لتصبح بحد ذاتها عالماً خاصاً له دلالاته. فطالما كانت ذاكرتى تحتفظ بحمولات أزمان متعددة، وبما كثفته المأساة الفلسطينية، فلابد سترمى بأثقالها فى العالم الشعرى المقدّم. وتأسيساً على ذلك، فإن تفاصيل ومفردات وكائنات هذا العالم، من بشر وطيور وحيوانات وأعشاب وسماء وهواء ومطر وحجر.. إلخ، تصبح الدال الأكبر فيه رؤيوياً وفق سياقات متعددة، أهمها، أنها جميعاً تتشارك فى صنع الحياة فى مواجهة الموت المعدّ لها مسبقاً من القاتل الفذّ القادم بفأسه وبلدوزراته لجرف أشجار وأحجار المكان، أو بأدوات صيده العصرية وقناصاته لقتل الطير والبشر. كما أنها جميعها تتشارك فى المصير نفسه، ولذلك تمتلك الهوية ذاتها، طالما أنها تتقاسم المكان والزمان نفسيهما. ناهيك عن أنها تشعرك أنك لست وحدك، وقدرتها على صنع الحياة وسط كل هذا القتل والخراب المعدّ لك ولها. وثمة ما يجعل هذه الكائنات مرايا لروحك وملامحك وتراجيدياك وحلمك الكبير أيضاً.

كأنك تقول فى نصوصك إننى إنسان، وأرغب بالتواصل مع البشر فى كل مكان قبل أن أكون فلسطينيا، مع اعتزازك بفلسطينيتك؟

منذ البدء كانت فلسطين، حتى حلول الإسرائيلى الطارئ المؤقت هذا كما كان طارئاً مؤقتاً من قبل، عالماً خصوصياً للتعايش والسلام الروحى والحضارى الإنسانى لثقافات وأديان شعوب الأرض جميعاً، ولم تنتزع من أنساقها التاريخية هذه إلا مع مكوث الإسرائيلى عنوة فيها ليقصى الآخر عنها، ويدمّر معالمه وآثاره الروحية والحضارية عنها، ويمعن فى محو وجوده الزمانى والمكانى معاً. والفلسطينى على أرضه منذ البدء ليس شريكاً فى صوغ الإنسانيّ المقدّس فحسب، بل وحارس له . فالمسلم كما المسيحى دافع عن كنيسة المهد ضد الاقتحام الإسرائيلى الفاجر عليها أبريل2002، والمسيحى كما المسلم حمى المسجد الأقصى من دنس المحتل وجسّد انتصار الأقصى يوليو هذا العام، والكنائس فى كل فلسطين رفعت الأذان حين أعلنت حكومة الاحتلال الغاشمة منعه، مثالاً لا حصراً على حماية الفلسطينى للإنسانى والمقدس فى الأرض المقدسة، والمحتلة لا تزال. وهكذا، فالفلسطينى جزء أصيل فى العائلة الإنسانية. وحين تكون محكوماً بهذه الرؤية، فلا بد ستحضر هذه الرؤية فى عالمك الشعريّ، وتصبح جزءا جوهرياً من حركته فى المشهد الشعريّ الإنسانيّ. ولأننى أسعى لتقديم القضية الفلسطينية بوصفها قضية إنسانية بالدرجة الأولي، وعدم حلها بعدالة وبما يضمن حقوق شعبها كاملة دون نقصان وصمة عار فى جبين الإنسانية كلها، يغدو لزاماً عليّ أيضاً أن أقدّم نفسي، كما هى منذ تاريخها الأول، أجمل فى مرايا قاتليها. ولأن الأمر كذلك، فلا أدعو الإنسانى للاكتفاء بالتعاطف معي، بل للذهاب معى فى درب آلامى الطويل كى يطهّر نفسه مما سوّت بى يد عدوي/ قاتلي، ومن والاه .

نشأت فى مخيم بسوريا، وتعلمت هناك، وعشت تجربة الحرب والحصار والخروج من بيروت، والآن تعمل دبلوماسيا فى السفارة الفلسطينية بموسكو، فلأى مدى أفادتك هذه التجارب شعريا، مع أنها غير ظاهرة فى نصوصك.. كيف تستطيع منعها من مزاحمتك فى أثناء الكتابة؟

فى المخيم المرمى بأرض شتاتٍ، يغيب عنه أى مسّ من عدالة أو طمأنينة يصبح الوطن حلماً، طالما تكتشف ذاتك فى هذا الوطن الذى تنتمى إليه عبر تجليات الذاكرة الأولى محمولة على حكايات العجائز وتحولات التغريبة المأساوية الأولي، والجسدِ الأوّل المنهك من آثامها فيه جروح وآلام وحنين أيضاً إلى المكان الأول. وتكاد تشعر أنك أقرب من الوطن / الحلم، لأنك تقترب من درب عودته أو العودة إليه بالأمل الذى لا فكاك منه. لكن تجارب الحرب والحصار والخروج من بيروت نزعتك عنوة من الإطلالة على هذا الوطن المفقود، بنشيدك وجسدك وحلمك وانكسارك أيضاً بأن مورس عليك فعل تشتيت وهجرة أخرى جديدة أشدّ تراجيديا كونها رمتك أبعد عن حدود الوطن/ الحلم. وكان عليك فى شتاتك ومنافيك أن تحمل هذا الوطن/ الحلم وتعبر عنه، قضية وشعباً، باللغة، شعرية كانت أم دبلوماسية، لأنى أومن بأن فلسطين قضية شعب مبدع يستحق حياة خلاقة يسعى المحتل أبداً لمحوها، وعليك لا بد أن تنتصر للحياة هذه، وبالحياة هذه، على الموت المحيق بك، والمعدّ مسبقاً لك. وهنا تصبح أدواتك كلها، شعرية أم دبلوماسية، مبدعة. فنحن نبدع فى مواجهة المحتل مشروعاً جمالياً وإنسانياً شاملاً وكاملاً نقيضاً لوحشيته ودمويته، وكل هذه التجارب تصبح عوالم صغيرة فى رؤاك الإبداعية التى تجسد العالم الأكبر، لكن حين تتصدى لفعل الكتابة عليك أن تقدمها فى النص بوسائط وتصورات جمالية.

هذا يدفعنى لسؤالك عن هذا الخط الإبداعى الذى اخترته لنفسك.. فلا شيء ـ نسبياً ـ من الآلام الفلسطينية الكبرى يبدو أمام أعيننا فى أشعارك؟ فأين أنت من الجرح الفلسطينى والقضية الأم؟ هل الجمالى وحده يصلح كأداة مقاومة مثل السلاح؟

منذ البداية كان على أن أكتشف باللغة عالمى الشعرى الخصوصي، وأنا المحاط بتجارب شعرية فلسطينية وعربية خلاقة. لكنني، حتى إبان عملى فى مؤسسات منظمة التحرير الثقافية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كنت أرفض الانجرار لرؤية السياسى بأن أصبح شاعراً جماهيرياً يكتب عن المناسبة الوطنية بأدوات البلاغة المعتادة، ولا أنحاز إلا إلى الإبداعيّ الجماليّ، حتى فى مقالاتى وممارساتى النقدية والثقافية، ما جسّد حالة الصراع التاريخية بين الثقافى والسياسي. فالسياسى اليومى لا يمكن له أن يكون رؤية النصّ الإبداعيّ المتحرّك، إلا بقدر ما يحمله من دلالة ، ولا ينبغى أن يكون دالّاً فيه. فطالما أومن بأن فلسطين ليست كلمة فى النصّ، بل هى النص كله متناً وهامشاً، فلا ينبغى أن تصبح قضيتها شعاراً أو خطاباً يستدرج التصفيق إثر وقفات البلاغة المعتادة المكرّرة، بل رؤية جماليّة تتحرّك فى العالم الشعرى لتصبح العالم الشعرى كله. وأى نص رديء عنها، يسيء بالضرورة لقضيتها، وهذا أشبه باقتراف الخطيئة الكبري. كما أننى على إيمان مكين من أن قضية فلسطين هى قضية الإنسان أولاً بارتباطه التاريخى العنيد بمكانه.

سهولة الجملة الشعرية.. تبدو بسيطة.. لكنها بتقديرى خادعة، لأن حمولتها الإنسانية عميقة.. فكيف تجاوزت أنت حمولتك السياسية شديدة الحضور بهذا القدر؟

كثير من النقاد والقراّء لا يرون جملتى الشعرية بسيطة وسهلة إلا بالقدر الذى يعيدون قراءتها باكتشافها. ومادمت ترى ذلك، فمردّ ذلك لا شك يعود فى الأصل إلى عمق قراءتك وقدرتك الحيوية على إعادة كتابة النص، وهو ما أفترضه مسبقاً فى علاقتى مع القارئ الذى أسعى لأصنع معه علاقة الكتابة والقراءة معاً. لكن، ثمة اتفاقا بين نقاد وكتاب كثيرين على أن جملتى الشعريّة تتحرك بأدوات وتصوّرات جديدة مؤسّسة على صنع كلّ لفظة علاقتها الخصوصيّة مع جارتها، وكل جملة مع الجملة الشعرية الأخري، وكلّ منها تمتلك طاقتها ومعاناتها الخصوصية فى النسيج الكلى للنصّ، وتحتفظ بذاتها لذاتها بأسئلة المعرفة ومعانى الوجود الإنسانيين، كونها تكثف فى ذاتها ما تستدعيه من المتعدد الثقافى والحضارى الإنسانيّ، لتعيد اكتشافه وخلقه فى العالم المقدم شعرياً.

حضور الأم عندك طاغ لدرجة أنك أطلقت اسمها على ديوانك الأخير.. ورمز الأم فى الإبداع الفسطينى عموما غير خاف على أحد.. فهلا تحدثنا عن أمك الحقيقية.. والرمز.. ومتى تتحدان؟

أعتقد أن الأم حاضرة غائبة أبداً فى جلّ الشعر الإنساني، وأظن أن مردّ ذلك أن الشعراء يسعون، لفرط اغترابهم عن الأشياء وانكساراتهم فى محيط لا يعثرون فى مراياهُ على أبجدية عوالمهم الداخلية...، إلى الطفولة. فالشعر هو طفولة العالم أصلاً. إن حضور الأم فى الشعر الفلسطينى مؤوّل، بشكل أساسي، بالاشتغال على كونها رمزاً قدسياً فى غالب الأحيان، وكينونة تتجسد فيها بطولة الذات والعالم بتجلياتها المتعددة فى أحايين كثيراً، لدرجة أنها أصبحت تمثّل الوطن، وتتمثل به، أو يمثلها ويتمثل بها. لكننى لم أتعاطَ قط مع مفردة أو صورة الأمّ على هذه الشاكلة، كونها غدت متكررة ومألوفة حدّ الاجترار والبلادة على أقل تقدير، مع اعترافى بأهمية نصوص كثيرة مبدعة جسّدتها، وكأن كل شيء قيل فى هذا السياق عنها، فما عليّ قوله فى هذا السياق؟. لكن الأم - فوزية الحسن/ أمى ليست مفردة فى النص، ولا ترمز للوطن، أو للعالم، بالقدر الذى تحمل فيه وطناً صنعته بلغة الذاكرة، وبرموز وتفاصيل الثوب الذى طرزته، أو بالأغنية التى رددتها، أو بالدبكة التى شاركت يوماً بها فى عرس ما، أو بنبرة صوتها فى وداع شهيد لها، أو بصبر أنّاتها الكبرى وأنا مثل سواى أتقلب فى سجن ما أو مطار ما أوقفني، أو بقلق انتظارها وهى تفرك الوقت بين أصابعها خشية أن أعود محمولاً على نعشٍ أو كرسيّ. أمّ بين الأمهات الفلسطينيات اللاتى احتفظن بذاكرة الوطن كلّها/ كلّه كى ينمو معنا حلماً بالعودة، ومثلهنّ تكلأ هويتنا ومصيرنا من خطى الموت الذى يلهث فى الجهات حولنا، بالحبّ البسيط كماء البئر القديمة، والحياة الواضحة كابتسامتها الصباحية التى تكتشف بها أنها لا تزال على قيد الحياة، وتكشف لنا أننا أحياء لا نزال أيضاً. الأم فى هذه الحالة أشبه بهذه المصادفة السعيدة لحظة القبض على الحياة وسط الدمار والقتل والمجازر والحصارات والمطاردات وسواها. بهذا تصبح سردية المعيشى والمقدس فى آن، ورواية وبطولة العالم الذى لا تفصح عنه إلا بالقدر الذى نراه فى كلّ شيء يخصّها، وتخصّنا به. الأم هنا/ فوزية الحسن لا تشبه إلا نفسها، ولا ترمز إلا لذاتها فى ذاتها. وفى ديوان «وصايا فوزية الحسن العشر» لا تُفصح بل تومئ، ولا تُلقّن إنما تشير، ولا تأمر بالإذعان، خلافاً لكل الوصايا قبلها، بل تدعو للرفض. ربما بهذا أنتقل بها فى النص من الرمز إلى الأسطورة، ومن التاريخى إلى الأبدي.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق